عندما تصير المقاومة حزباً

عندما تصير المقاومة حزباً


11/11/2019

وجيه قانصو
في العام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان حتى وصلت إلى العاصمة. كانت الدولة حينها منهكة بسبب الحرب الأهلية، ومترهلة بسبب خلل في أدائها والتناقضات العميقة في الجسم السياسي اللبناني.  فبادر المجتمع اللبناني بأكثر مكوناته إلى تكثيف مقاومته للاحتلال، وجعلها أكثر انتظاماً وإيلاما للمحتل من نشاطها السابق. وقد صدرت هذه المبادرات بتعابير ودوافع ومسوغات متعددة، تراوحت بين التأويل الماركسي والالتزام القومي مروراً بمبادرت مدنية وفردية ووصولاً إلى بواعث جهادية دينية. هو تعدد يعبر عن تنوع مكونات المجتمع وتعدد الميول والاتجاهات في داخله، بل تنوع وتعدد داخل المكون المذهبي الواحد.

فالمقاومة فعل مواجهة يقوم به أبناء وطن لصد عدوان أو احتلال خارجي. هو رد فعل ومبادرة جماعية تسوغها مشروعية الدفاع عن النفس ويحفزها الإنتماء إلى وطن خاص يكون أساس هوية المقاومين ووازع نضالهم.

كانت جميع هذه المبادرات بمثابة استجابة مجتمعية طبيعية لأجل بقاء الكيان وحفظ المجتمع. صحيح أن منطقة المواجهة قد غلب عليها اللون الشيعي، إلا أن الفعل المقاوم حينها ما كان ليختص بمكون اجتماعي خاص، أو يكون بديلا عن الدولة أو منافساً لها، بقدر ما هي مبادرة الكيان نفسه، لا بأجهزة الدولة الرسمية وبنيتها البيروقراطية، بل بالحامل الأساسي لها، الذي هو المجتمع، بصفته مصدر مشروعيتها وقاعدة نشاطها وقوة استمرارها وبقاءها العميقين.

ففعل المقاومة، بعمقه المجتمعي، يتأكد حين تعجز الدولة، بأجهزتها الأمنية والعسكرية، عن القيام بواجب صد العدوان، أو الحد من الفوضى أو منع الانهيار الداخلي.  هو فعل يبادر إليه المجتمع لا لاستبدال الدولة أو تحييدها بل لسد فراغاتها وتعثراتها وتدعيم حضورها وإعادة بعثها من جديد. فالشأن العام لا يُدبَّر بمجرد أوامر سياسية ملزمة وتشريعات رسمية، بل يؤازِرُ ذلك تضامنات بين مكونات المجتمع، وروابط خُلقية وقيمٌ جامعة بينها، وقواعد مشروعية، تشكل بمجموعها باعثاً لحفظ النظام العام، وضماناً لسيرٍ مستقرٍ ومنتجٍ للحياة العامة.  فالدولة أو السلطة العليا ليست شيئاً يضاف إلى المجتمع من خارجه، بل هي صورة المجتمع في وضعية انتظامه لنفسه. 

كان حزب الله، أحد أهم الروافد الاجتماعية للمقاومة، وتميز بأداء كمي ونوعي حقق إنجازات ميدانية معتبرة.  أصر الحزب على أسلمة المقاومة، أي اعتبارها نشاطاً متعلقاً بالتكليف الديني والأغراض والغايات التي تخدم منظومة وعقيدة ولاية الفقيه، أي الفصل بين الباعث الديني والوازع الوطني، بتأكيد الأول وأولويته وإنكار وحتى تسخيف الثاني.  رغم كل ذلك فقد تلَقَّت مكونات المجتمع، الشيعي تحديداً، جهادَ الحزب ضد إسرائيل بالقبول والترحيب، على قاعدة أولوية طرد المحتل وتأجيل الخلاف الأيديولوجي الداخلي.

التفاهم الإيراني السوري، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، تسبب بحصر المقاومة بحزب الله بطريقة قسرية وإلغائية لباقي المقاومين، بعدما تبين أن الفعل المقاوم لا يخدم تحرير الأرض فحسب، بل أداة مناورة وابتزاز للنظام السوري ضد المجتمع الدولي، ومادة توظيف دسمة للنظام الإيراني في ربط أمنها باستقرار المنطقة العربية.  هذا التوظيف لا يستقيم إلا بالتحكم بموارد المقاومة ومنابعها وبنيتها الداخلية واستراتيجية عملها وحتى في توقيت عملياتها.

حصر المقاومة بحزب الله تحت الوصاية السورية-الإيرانية أفرز أمورا ثلاثة:

أولها: انفصال المقاومة عن المجتمع اللبناني، وتحولها إلى بنية خاصة، ذات تراتبية ولائية في داخلها. الأمر الذي أخرجها عن عموميتها وتسبب باستقلالها وانفصالها عن مصدر زخمها بل عن مصدر مشروعيتها، باعتمادها مشروعية عقدية خاصة غريبة على النسيج المجتمعي، وتأكيد جوهريتها الذاتية قبال المجتمع والدولة معاً.  هذا تجلى، بقصد أو بغير قصد، بالثلاثية التي روج لها الحزب: الجيش والشعب والمقاومة. وهو شعار يثبت المقاومة كياناً مستقلاً عن المجتمع (الشعب)، ومنفصلاً بالكامل عن الدولة (الجيش الذي هو أهم أدوات الدولة السيادية).

حصل تلازم بل تطابق بين المعتقد الولايتي للحزب والمقاومة، بحيث لا قيمة لمقاومة من دون هذا المعتقد، وباتت نشاطاً لا يراعي مقتضيات الإجتماع اللبناني، بل مأسوراً ومحكوما لما يسمونه بالتكليف الشرعي القائم على غيبيات نبؤاتية وتأويلات سلطوية تناقض في طبيعتها ومنطقها ومؤداها أصل العقد الاجتماعي وفكرة الدولة، لأي مجتمع وأية دولة.  لذلك، وبدلا من انبثاق فعل المقاومة عن المجتمع ليعود آخر الأمر يصب في كيان الدولة الذي هو الإطار والمدخل الحصري لحفظ وبقاء الكيان اللبناني نفسه، حصل فصل كامل بين المقاومة التي باتت مطابقة للهوية الحزبية وتقوم على كثافة عقدية دينية من جهة وبين الهوية الوطنية التي تتسم بعموم عابر للطوائف لا يقبل التخصيص بهوية طائفية أو دينية خاصة.

ثانيها: خروج المقاومة عن أغراضها التحررية، بفعل التزامها وتبعيتها لمحور إقليمي.  صحيح أن هذا المحور وفر للحزب مقدرات عسكرية مميزة، إلا أن هذه المقدرات تم استعمالها لما هو أبعد من أغراض المقاومة ووظيفتها، لتكون في خدمة سياسيات ومصالح واستراتيجيات الحلف السوري-الإيراني.  هذه الوضعية قلبت المقاومة من وسيلة لخدمة غاية وطنية حصراً، إلى وسيلة لخدمة غاية أخرى خارجة عن مقصدها وهدفها بل مناقضة لهما في حالات كثيرة. وهو أمر ظهر في دعم الحزب اللامشروط للاحتلال السوري في لبنان، وفي أداء الحزب على الجبهة الجنوبية بطريقة تتناغم مع إيقاع إيران الإقليمي والدولي، وفي انتشار السلاح "المقاوم" في بقاع متفرقة ومتباعدة من الأرض لا صلة لفكرة المقاومة بها، ومتورطاً في معارك لم يعد بالإمكان تسويغها أخلاقياً أو إدراجها فعلاً مقاوماً، ما اضطر القيِّمين على هذا السلاح تكرار الاعتراف الكامل بالتبعية المالية والأيديولوجية والسياسية لإيران.

ثالثها: تكثيف المضمون الديني، وفق السردية الشيعية الولايتية لنشاط حزب الله، ما ولَّد حصرية معاكسة للفعل الديني نفسه. أي بدلاً من اعتبار الفعل المقاوم للحزب أحد أوجه الإيمان الديني، بات هذا الإيمان متقوماً بالتراتبية الولائية للحزب نفسه، ما ولد ذهنية إقصائية صارمة ضد أي نشاط أو اجتهاد أو حتى تعبد ديني لا يندرج ضمن هرمية سطوته وسلطة منظومته.  بات الحزب بنظره فسطاط الإيمان كله مقابل الكفر كله الذي هو كل شيء خارجه. وهي ذهنية رفعت من منسوب نرجسية الحزب إلى درجة عالية، وعطلت فيه قدرة الإستماع للمختلف وتقبل أي نقد، واللواذ بالتهمة الجاهزة والعمالة الملفقة لكل خصم.

صارت المقاومة حزباً، لا من حيث المبدأ والمفهوم، وإنما لجهة تغريبها المتعمد عن المجتمع،  ووضعها قبال الدولة لا في كنفها ومن مؤسساتها، وتحول عنوانها إلى شبكة مصالح خاصة وارتباطات جزئية وتورطها في صراعات إقليمية لا يستوجبها غرض المقاومة نفسه ولا تصب عوائدها لصالح المجتمع أو الدولة أو الوطن بل تناقضها في أكثر الأحيان. هذا إضافة إلى إلباس المقاومة لباساً عقائدياً دينياً ليس من أصلها أو طبيعتها ولا يقبل التعميم. كل ذلك أثار ريبة متصاعدة بينها وبين المجتمع، جعل أكثر المجتمع يشكك بجدواها أو مصداقية عملها، وجعل  "المقاومة" تحذر من المجتمع نفسه وتخشى تحولاته ومتغيراته وحراكه، ما دفعها إلى بناء تحالفات سياسية محلية وإقليمية تستغني بها عن مشروعية الداخل، والعمل على فرض ترتيبات سياسية وعهود سلطة، لتفرض نفسها من خلال هذه العهود على المجتمع، وتتحصن بها من نقمة المجتمع أو انقلابه عليها، بدل التقوي بالتفافه حولها والإجماع العام عليها.

عندما تغترب "المقاومة" عن المجتمع وتصبح قوة تنافس قوة الدولة وتضاهيها، فلتبحث لنفسها عن إسم آخر.

عن "المدن"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية