رهينة سابق يكشف شبكات التأثير القطرية في فرنسا

رهينة سابق يكشف شبكات التأثير القطرية في فرنسا


17/11/2019

ماجد نعمة

عمل كريستيان شينو صحافيا استقصائيا في إذاعة فرانس إنتر الفرنسية، وهو متخصص في شؤون العالم العربي إذ أمضى عدة سنوات في لبنان والأردن ومصر والعراق وغيرها من البلدان العربية الأخرى. ونشر العديد من الأعمال، وأصدر كتبا بالتعاون مع الصحافي جورج مالبرونو.

اختطف الجيش الإسلامي شينو ومالبرونو في العراق في أغسطس 2004. ووجّه الخاطفون إنذارا إلى الحكومة الفرنسية: إلغاء قانون العلمانية في غضون 48 ساعة مقابل إطلاق سراح الرهينتين. وأُطلق سراح الصحافيين بعد 124 يوما من الاختطاف.

وعن تفاصيل هذه العملية وما كشفته من أسرار قادت إلى البحث عن شبكات التأثير القطرية في فرنسا وأوروبا، وإنتاج فيلم وثائقي بثته قناة أرتيو التلفزيونية الفرنسية الألمانية، تحدث شينو إلى العرب ويكلي في باريس.

في سنة 2013، نشر شينو وجورج مالبرونو أول كتاب لهما تحت عنوان “قطر: أسرار الخزنة”، وتلاه كتابان آخران هما “أمراؤنا الأعزاء، هل هم أصدقاؤنا حقا؟” في سنة 2016. وفي سنة 2019 صدر كتاب “أوراق قطر، كيف تمول الإمارة الإسلام في فرنسا وأوروبا”.

الإسلام في فرنسا
ركّز الكتاب الأول من هذه الثلاثية على الاستثمارات والتعليم والرياضة، حيث لم يكن دور قطر في التبشير والترويج للإسلام السياسي واضحا في ذلك الوقت. في الكتاب الثاني، بدأ الصحافيان في النظر إلى هذا الجانب وتحدثا عن قطر الخيرية، بما في ذلك دورها الغامض في مالي وأفريقيا ككل. ثم تعمقا أكثر في كشف هذه الإستراتيجية الخفية في الكتاب الثالث والأخير بعد حصولهما على أدلة ملموسة ووثائق يمكن التحقق منها.

أرادت قطر تنظيم الإسلام الفرنسي لتحويله إلى طرف قوي في جماعات الضغط، ولكن هذا المشروع لم ينجح. وقال شينو إن القطريين أرادوا إنشاء نسخة إسلامية من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا من خلال إدراج جميع شبكاتها القريبة من الإخوان المسلمين عبر المساجد السلفية الضخمة التي مولتها. وقد أثار هذا المشروع غضب الجزائر والمغرب.

كما شوهت هذه الخطة صورة الدوحة في المجتمعات الغربية، وكان رد الفعل العكسي أكثر في العالم العربي أين قوطعت البلاد بسبب دورها في زعزعة الاستقرار وتمويلها للإرهاب، وفقدت قناة الجزيرة مصداقيتها. وأدرك العالم أنها حصان طروادة للإخوان المسلمين.

يقول شينو إن الأمر لم يكن يتعلق بتمويل مساجد هنا وهناك في القارة الأوروبية، بل كان برنامجا يجمع 140 مشروعا يمتد من أقصى النرويج في الشمال إلى صقلية في الجنوب وفي جميع أنحاء أوروبا، في أوكرانيا وإسبانيا وبولندا وألمانيا وفرنسا وغيرها.

كان تنفيذ هذا البرنامج استثنائيا ومثيرا للإعجاب، إذ تم من خلال منظمة غير حكومية تدعى قطر الخيرية والتي بقيت خارج الأضواء الإعلامية. ويلفت شينو إلى أنه في جميع الوثائق التي تحصل عليها، برزت هذه المنظمة غير الحكومية ضمن الأدوات التي تستخدمها دولة قطر لتنفيذ إستراتيجيتها. وتلعب دور وزارة الشؤون الإنسانية تحت إشراف وزارة الخارجية، وينتمي المانحون إلى المؤسسات العامة في قطر، وإلى أسرة آل ثاني والمقربين إليهم، ولا تتمتع بأي استقلال مالي وسياسي وقدرة على صنع القرار.

ويضيف أن الإمارة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 10 آلاف كيلومتر مربع تعمل على اتباع مثل هذه الإستراتيجية العنيفة للتأثير سياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا على دول أكبر وأكثر قوة، لافتا إلى أن قطر تمثّل صندوقا ماليا قويا. وجد القطريون أنفسهم يتحكمون في ثروة هائلة. ومع ذلك، شعروا بأنهم أقل شأنا من جيرانهم مثل أبوظبي والرياض. كان من الضروري أن يثبتوا وجودهم وكان هذا أوضح في عهد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والد الأمير الحالي.

لم يتمكن القطريون من توسيع نفوذهم عسكريا نظرا إلى حجم بلادهم الديموغرافي والجغرافي الصغير. لذلك، قرروا بناء قاعدة كاملة تعتمد القوة الناعمة من خلال التحالفات العسكرية مع الولايات المتحدة وبريطانيا ومن خلال الرياضة والتعليم والثقافة والاستثمارات. وكانت ثورات الربيع العربي فرصا تاريخية، إذ ظنوا أنهم أصبحوا ملوك العالم العربي.

ولأنهم انتهازيون ويعرفون قوة أموالهم جيدا، وجّه القطريون جامعة الدول العربية بطريقة مهّدت الطريق للحرب ضد ليبيا وطرد سوريا من هذه المجموعة. حدث ذلك تزامنا مع ثورة مصر، وكانت ليبيا في حالة يرثى لها، وكانت سوريا مشغولة بحروبها، وكان العراق مزعزعا بسبب الغزو الأميركي، وكانت الجزائر غائبة، وشلّت دول الخليج بسبب سقوط الرئيس حسني مبارك وصعود الإخوان المسلمين في مصر.

وجدت قطر نفسها واقفة بمفردها في الساحة، واعتقد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أنه أصبح أمير المؤمنين في العالم العربي. ولميل الغرب إلى الإخوان المسلمين الذين اعتبروهم ممثلين ديمقراطيين، قفزت قطر لركوب الموجة، إذ رأت أن رياح التاريخ هبت لصالح الإسلام السياسي الذي يمثله الإخوان. فكثّفت تسليح التنظيمات الإسلامية التي انتشرت في كل مكان في العالم العربي.

أنقرة الوجه الجديد

يلفت شينو إلى أن القطريين توقفوا عن تمويل بعض مشاريعهم التي تندرج ضمن الإسلام السياسي في مولهاوس بسويسرا وعدد من الأماكن الأخرى، بعد إصدار كتابهما الأخير وبث البرنامج الوثائقي على قناة أرتيو. لكنه يستطرد قائلا إن هذه الخطوة مجرد تمويه، حيث يواصلون إستراتيجيتهم عبر الأتراك. فلن يتم استثمار الأموال القطرية مباشرة لتمويل الإسلام السياسي، ولكنها ستحوّل عبر شبكات الإخوان المسلمين الأتراك.

ويعتقد الصحافي أن هذا التكتيك الجديد المتمثل في تسليم عصا القيادة لنظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يعتبر حليفهم الكبير، يستحق كتابا جديدا. ويخلص قائلا “لدينا دلائل حول هذا الانتقال، لكننا سنحتاج إلى التحقق من ذلك في الميدان”.

وأشار شينو إلى أن الدوحة سعت إلى منع بث البرنامج الوثائقي الذي كشف هذه الأسرار، حيث وجّه مسؤول الاتصالات القطري في فرنسا رسالة تطلب من أرتيو ألا تبث الفيلم الوثائقي. لكن القناة لم تمتثل للطلب.

وتجرأت قطر على مواجهة القوى الكبرى حيث قررت الانتقال من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة بين عامي 2011 و2013. في السابق، حاولت الإكتفاء يدور الوساطة بين الفصائل الفلسطينية والمصالحة بينها. ثم تدخلت في دارفور وفي لبنان في 2008. يمكننا مراجعة آخر مقابلة أجراها الشيخ حمد بن خليفة مع الفاينانشال تايمز في 24 أكتوبر 2010، والتي اعتبر نفسه فيها صانعا للسلام ومناهضا للحروب ومناضلا من أجل تحقيق التنمية المستدامة. كان العكس واضحا في ليبيا. فلأول مرة، كان لدى القطريين 12 طائرة مقاتلة من طراز ميراج ضمن قوات الناتو، وحلقت إلى مع الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والأتراك. حينها، نسي القطريون قوتهم الناعمة وانخرطوا عسكريا. ومن خلال هذه المشاركة في الحرب ضد ليبيا، انتقلوا إلى مرحلة أخرى مثّلت نقطة تحولهم وانتقالهم إلى القوة الصلبة. وأصبحوا مثالا لقصة الضفدع الذي أراد أن يكون بحجم الثور.

ويؤكد شينو بأنهم استفادوا بالفعل من حماية الأميركيين الذين يمتلكون قاعدة في قطر، واستخدموا قوة أموالهم لشراء التحالفات والصمت والدعم. وغامروا أكثر في ليبيا وتونس ومصر وسوريا وخاصة المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، ركز كتابنا على دورهم في أوروبا، لكننا نمتلك وثائق وبيانات حول تورطهم في أفريقيا والعالم العربي وأماكن أخرى بفضل وحدة الذاكرة الفلاشية التي تلقيناها.

أرادت قطر تنظيم الإسلام الفرنسي لتحويله إلى طرف قوي في جماعات الضغط، ولكن هذا المشروع لم ينجح، كما بين شينو بقوله: تحدثنا عن أسباب هذا الفشل في كتابنا السابق. ساد الغضب الجزائر والمغرب. وتأكدت هذه الأطراف من إبلاغ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بهذا الغضب. أراد القطريون إنشاء نسخة إسلامية من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا من خلال إدراج جميع شبكاتها القريبة من الإخوان المسلمين عبر المساجد السلفية الضخمة التي مولتها.

شوهت هذه الخطة صورتهم في المجتمعات الغربية، وكان رد الفعل العكسي أكثر في العالم العربي أين قوطعت البلاد بسبب دورها في زعزعة الاستقرار وتمويلها للإرهاب، وفقدت قناة الجزيرة بذلك كل مصداقيتها. وأصبح العالم يعرف بأنها حصان طروادة للإخوان المسلمين.

يضيف شينو أنه في جميع الوثائق التي تحصل عليها، برزت هذه المنظمة غير الحكومية ضمن الأدوات التي تستخدمها دولة قطر لتنفيذ إستراتيجيتها. وتلعب دور وزارة الشؤون الإنسانية تحت إشراف وزارة الخارجية، وينتمي جميع المانحين إلى المؤسسات العامة في قطر، وإلى أسرة آل ثاني والمقربين إليهم، ولا تتمتع بأي استقلال مالي وسياسي وقدرة على صنع القرار. وتمر جميع معاملاتها المالية عبر السفارة.

توسيع نفوذ قطر عبر الإخوان

يشير كريستيان شينو إلى وجود تقارب أيديولوجي بين الإخوان والأسرة الحاكمة وليس هذا جديدا. يعيش يوسف القرضاوي في قطر منذ الستينيات. وتتضمن جامعات الدوحة ومدارسها الإخوان المسلمين الذين اعتمدوا عليهم لتنفيذ إستراتيجيتهم الرامية لنشر الإسلام السياسي.

وتمتع الإخوان المسلمون بموطئ قدم في أوروبا منذ الخمسينيات مما جذب القطريين إليهم. واشتروا بذلك شبكة تأثير جاهزة. وعلى عكس الأتراك، تمتلك قطر أموال طائلة ومواطنين أقل. يمكن للنظام الإسلامي في تركيا الاعتماد على هذا المجتمع لنشر أيديولوجيته في حين لا يتمتع القطريون بمثل هذا المجتمع. لهذا السبب، تعتمد الدوحة على شبكة الإخوان المسلمين.

كما حاولوا ممارسة نفوذهم من خلال وسائل الإعلام الخاصة التابعة لأنظمتهم، بما في ذلك الجزيرة، ويوظفون الإنترنت حتى أنهم عمموا مشكلة الحجاب وكراهية الإسلام بطريقة مبالغة فيها.

ويؤكد الصحافي الفرنسي بأنه تعرض بدوره لضغوط، حيث وجّه مسؤول الاتصالات القطري في فرنسا رسالة تطلب من أرتيو ألا تبث الفيلم الوثائقي. ومع ذلك، لم تمتثل القناة للطلب.

يكشف عن مواجهة بعض العواقب بعد هذا الفيلم الوثائقي، ويقول إن قطر الخيرية توقفت عن تمويل العديد من مشاريعها في أوروبا. تلقينا مكالمات من ريمس وبواتييه وغيرها من المدن التي مُوّلت مساجدها بأموال قطرية لإخبارنا بأنهم أصبحوا على علم بهذه الوثائق وأنهم سيتصرفون وفقا لذلك.

يفسر شينو حقيقة تمسّك قطر بإستراتيجيتها والإخوان المسلمين بعد كل ما كشفته وعلى الرغم من المشاكل الإقليمية والدولية التي سببتها هذه الإستراتيجية، بأنهم يحاولون إعادة صياغة خطتهم. وبما أنهم بدؤوا يتخلون عن تمويلهم الصريح لبعض المشاريع في أوروبا، من المؤكد أنهم أصبحوا يعتمدون على حلفائهم الأتراك لمتابعة هذه الإستراتيجية. تموّل قطر الاقتصاد التركي خلال الأزمة التي يمر بها وتستفيد من قاعدة عسكرية تركية على أراضيها، في المقابل. وتتبع البلاد نفس الإستراتيجية في منطقتها، وخاصة في سوريا وليبيا. من المحتمل ألا يكون هناك تغيير حتى كأس العالم في سنة 2022 على الأقل.

وبسؤال العرب ويكلي الصحافي الفرنسي عن دراسة فرنسا لإعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، أجاب بأن الأميركيون هم الذين فكروا في اتخاذ مثل هذا الإجراء. لم تصل فرنسا هذه النقطة بعد. لكن، يشعرنا خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تحدث فيه عن الإسلام السياسي أن هناك حالة من الوعي الجديد. دفع كتابنا نحو ذلك بعض الشيء، فهو لم يكن عن الإسلام بل عن بلد يتورط في تمويل جماعة سياسية دينية لخدمة مصالحه الخاصة. ونرى توعية الرأي العام بما يحدث في بلدنا أمرا مهما.

ويشير إلى أن قطر تعتمد سياسة اللعب على الحبلين من خلال تمتعها بعلاقات ممتازة مع كل من حماس وإسرائيل، فالقطريون يسمون أنفسهم "أصدقاء" الأميركيين وطالبان وحماس، لكن هذه اللعبة امتدت لفترة طويلة ولم تعد كلمات القطريين ذات مصداقية. الآن، تثير دولة قطر الأسئلة والشكوك، وأصبح الجميع يدققون في كل ما تفعله. ولم يعد الحال كما كان عليه من قبل.

وأنهى شينو حديثه لافتا إلى أن قطر بتدخلها في شؤون الآخرين وتمويلها لمجموعات معينة، لم تغضب جيرانها فحسب، بل أغضبت الجميع. ويعتقد أن هذه الإستراتيجية ستستمر حتى سنة 2022. لكن بمجرد انتهاء كأس العالم وإطفاء الأضواء، ستعود قطر إلى الوراء.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية