هل يكسر الثائرون في طهران الطوق الإيراني عن المنطقة؟

إيران

هل يكسر الثائرون في طهران الطوق الإيراني عن المنطقة؟


24/11/2019

منذ اندلاع الاحتجاجات في العراق ولبنان، اللذين شهدا موجة هائلة من التظاهرات ضدّ الفساد السياسي والبطالة، والأحوال الاجتماعية والمعيشية المتردية، ظهر قاسم مشترك بينها، يتعلق برفض الوصاية والنفوذ الإيرانيَّين؛ فقد خرجت، منذ قرابة الشهر، فئات اجتماعية وشعبية متفاوتة في البلدين، تدوي صيحاتها في الميادين والشوارع والمدن، ومن بينها الكتل الشيعية بالمناطق ذات الأغلبية غير السنّية، ما يعكس تآكل الحواضن الاجتماعية التي يركن إليها، ويحتمي بها نظام الولي الفقيه، للوقوف والتصدي لهذا الذراع الأمني والسياسي الذي يفرض سيطرته على المنطقة ويرهنها لمصالحه.
إنذار لطهران
وفي ظلّ القاسم المشترك داخل الحالة الثورية القائمة، والتي تتصل في جانب من أسبابها وملابساتها بتلك الهيمنة الإيرانية السياسية والعسكرية، وحتى الاقتصادية على تلك البلدان، لا سيما وقد خرج المتظاهرون في بغداد وبيروت، يحملون لافتات مناهضة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، وكذا الإمام الخميني، وحرق صورهم وتمزيقها، والهتاف ضدهم، فإنّها تكشف تهديداً وجودياً لهذا النفوذ وحلحلة لهيمنته السياسية، كما تبعث بسيناريوهات متباينة حول مآلات المشهد الإقليمي الصعب والمعقد الذي ستستفر عنه، والقوى التي يمكن بدورها اجتماعياً وسياسياً أن تكون رديفاً للحالة الثورية التي تسعى إلى تشكيل أفق سياسي جديد.

خرج المتظاهرون في بغداد وبيروت يحملون لافتات مناهضة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، وكذا الإمام الخميني، وحرقوا صورهما

بيْد أنّ الاحتجاجات التي شهدتها المدن الإيرانية، تتشابه من جهة أخرى، مع مثيلاتها في بغداد وبيروت، من جهة تعاطي المرجعيات الدينية الشيعية مع تلك الأحداث، والتي تفاوتت فيما بينهما؛ إذ حاول طرف وصم المتظاهرين بـ "المخربين"، وتخوينهم بارتباطهم بجهات أجنبية وحصولهم على التمويل للخروج في المظاهرات، وطرف آخر سعى إلى تأييد الحراك الشعبي، وإضفاء الشرعية على الانتفاضة، وبالتالي مساندة الاحتجاج ضدّ تعسّف السلطة ومماساتها القمعية وفسادها.

اقرأ أيضاً: ما قصة الوثائق الإيرانية السرية؟ ولماذا جرى الكشف عنها الآن؟
وبحسب معهد واشنطن؛ فإنّ نظام الولي الفقيه في إيران، يتبنى أيديولوجيا واضحة في مكوناتها وعناصرها ومضمونها؛ إذ تعكس من خلال خطابها مرجعية واحدة، لأي احتجاجات تتم ضدّ النظام، فتعتبرها مؤامرة أمريكية تستهدف الإطاحة بالنظام الإسلامي، بينما تتصدى المرجعيات الدينية الراديكالية في إيران من جانبها لأيّ حراك، وتتولى تفنيد عناصر المؤامرة، بحسب رأيها، والتي تبدأ أطرافها في واشنطن، وتمتدّ لدى أنظمة عربية في الخليج، حتى تصل إلى تل أبيب، في صورة تقليدية لخطابها السياسي، الذي تشحذ من خلاله الخيال الشعبي والقومي؛ إذ يصور النظام الفارسي باعتباره نموذجاً لـ "المقاومة" يتصدى للقوى الكبرى العالمية والنظام الصهيوني معاً.
 خرج المتظاهرون في بغداد وبيروت يحملون لافتات مناهضة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية

"المؤامرة" وسقوط خطاب الملالي
لذا؛ أعلن المرشد الأعلى للثورة، علي خامنئي، أنّ "أجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية تستخدم الدعم المالي للدول الرجعية في المنطقة لإحداث فوضى".
وفي خطابه، في 17 تشرين الثاني (نوفمبر)، وصف خامنئي المتظاهرين الذين أشعلوا النار في البنوك، بأنّهم لا يمثلون الشعب ومجرد "غوغاء" و"مثيري شغب استجابوا لإغراءات وتحريض جميع مراكز الأذى في العالم ضدّنا".
وعلى الجانب الآخر؛ حدثت مظاهرات هائلة، خلال يومَي 1 و 6 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في العراق، واتّخذت إثرها الحكومة العراقية إجراءات تعسفية ضدّ المحتجين، بواسطة ميليشيات الحشد الشعبي، المدعومة من طهران؛ حيث كانت حصيلتها اغتيالات وظهور قناصة استهدفت المتظاهرين، وهجمات بطائرات من دون طيار، بغية التخويف وبثّ الرعب، فضلاً عن اعتقالات عشوائية، وحوادث اختطاف، وإخفاء قسري في حقّ الناشطين، وقطع الإنترنت، ورغم كلّ ذلك؛ امتنعت وسائل الإعلام وجهات التحقيق الرسمية، عن وصف المتورطين في تلك الانتهاكات بارتباطهم بالميليشيات الإيرانية.

اقرأ أيضاً: لماذا علينا التوقف عند الاحتجاجات الإيرانية الحالية؟
وفي إطار الاعتقالات غير القانونية؛ تم اعتقال 923 شخصاً، على الأقل، بمن فيهم 35 على الأقل، نقلوا من المستشفيات؛ حيث أرغم كثيرون على توقيع تعهدات بعدم المشاركة في احتجاجات مستقبلية، وإلا سيكونون تحت طائلة الملاحقة القضائية، حسبما ذكرت، في 10 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، "المفوضية العراقية العليا لحقوق الإنسان"، التي أكّدت أنّ 257 شخصاً ما يزالون في عداد المفقودين، بعد أن أطلقت الحكومة سراح المحتجزين، الذين يرجَّح أنّهم في جرف الصخر، وغيرها من السجون السرية التي تديرها الميليشيات الإيرانية وتخضع لنفوذ وسيطرة الحشد الشعبي.

حلحلة إيران من المنطقة
وإلى ذلك، قال حسام الدين آشنا، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بعد يوم واحد من اندلاع الاحتجاجات، في عدة مدن إيرانية، وبعد الإعلان المفاجئ للحكومة الإيرانية عن زيادة أسعار الوقود، إنّ "إيران ليست العراق ولا لبنان، والسفارة الأمريكية مغلقة لعدة سنوات، كما أنّ المتربصين بإيران ارتكبوا أخطاء إستراتيجية، ونحن الإيرانيين لن نسمح لوسائل الإعلام العميلة بأن تقرّر لنا المصير".

هاجم زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إيران بلهجة حادة وعبارات واضحة، واصطفّ إلى جانب المتظاهرين والمحتجين

ورغم أنّ صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أوضحت أنّ المسؤولين الإيرانيين تفاجأوا بأنّ نفوذهم في المنطقة ينهار بسرعة، إلا أنّ المظاهرات في لبنان والعراق تشكّل تهديداً وجودياً لنظام طهران، وعليه، يتخوف المسؤولون بشدة من انتقال الاحتجاجات إلى إيران، وذلك بسبب تشابه الظروف المعيشية السيئة، لكن ما يزال التعاطي التقليدي مع الاحتجاجات هو المسيطر، بينما يغلب القمع والعنف المعنوي والمادي لمواجهة الحراك والغضب الشعبي.
في غضون ذلك، هاجم زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إيران بلهجة حادة وعبارات واضحة، واصطف إلى جانب المتظاهرين والمحتجين، كما شارك في إحدى الفعاليات والتظاهرات، في مدينة النجف، ودعا الحكومة للاستقالة، بينما علم العراق ملتف حول جسده في إشارة رمزية لنبذ الطائفية.

ورغم سيولة الاحتجاجات التي تتشكل بصورة مطردة عربياً وإقليمياً، ويبدو أنّها تزاحم نفوذ طهران وخطابها، وتحتج من خلالها على أدوارها المتعددة، وتفضح انتهازيتها وضعفها، من ناحية، وتعري ارتباطها الجماهيري، وقمعها للمصالح الشعبية، والفئات التي تزعم دفاعها عنه، يتأتى الخطاب الديني للمرجعيات الفقهية تحاول تثبيط الثورات، وتشلّ حركيتها وديناميتها، بينما تعطّل إمكانيات الحراك ضدّ "الولي الفقيه" وتعادي تطلعاته.

مراجع الدم
في بادئ الأمر؛ اختلف الموقف الإيراني تجاه تظاهرات كلّ من العراق ولبنان، حسبما يوضح الباحث المتخصص في الشأن الإيراني، محمد الصياد؛ إذ اتّخذ من انتفاضة العراقيين موقفاً معادياً ووصائياً، بحسب تعبيره، في حين كان خفيف اللهجة تجاه مظاهرات اللبنانيين، لكن ومع استمرار كلا الانتفاضتين، اتخذ الموقف الرسمي الإيراني، ممثلاً في أكبر رأس ديني وَسياسي، علي خامنئي، صورة أكثر حدية، وسلبية تجاه الانتفاضتين؛ استشعاراً لخطر تقزيم النفوذ الإيراني، المذهبي والسياسي في الإقليم، إذا ما نجحت أهداف الانتفاضتَين الرئيسة، الممثلة في نبذ الطائفية والمحاصصة وبناء دولة مدنية حديثة.

اقرأ أيضاً: احتجاجات إيران ومعضلة خامنئي
ويرى الصياد، في دراسته المنشورة بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية، ومقره الرياض، أنّه في بدايات الموجة الأولى لتظاهرات العراقيين، قال المرشد الأعلى، علي خامنئي، في تدوينة عبر حسابه في تويتر، إنّ "الأعداء يسعون لدقّ الإسفين بين العراق وإيران، لكن بلا جدوى"، بينما تجاهل تماماً دماء أكثر من مئة شهيد سقط في تلك التظاهرات في موجتها الأولى، مما يثير أسئلة عميقة حول فقه الدماء عند النخبة الدينية الحاكمة.
لكن إذا رجعنا إلى المقولات الدينية والفقهية لتلك النخب، سنجد أنّ إراقة الدماء مبررة ومشروعة، في سياق الحفاظ على الدولة الإسلامية، وولاية الفقيه، بحسب الصياد.

اقرأ أيضاً: هل كشف تسريب الاتفاق السري للإخوان مع إيران وجهاً جديداً للجماعة؟
وكان آية الله مصباح يزدي، أحد المراجع الشيعية بإيران، والمحسوب على النظام، قد صرح بضرورة وجوب استعمال القوة للحفاظ على الحكومة الإسلامية. ولم يتوقف يزدي عند هذا الحد، بل أكّد على شرعية القوة والعنف، طالما هي لصالح الحكومة، حتى لو كانت منبوذة ويعارضها الشعب.

آية الله مصباح يزدي
وأوضح يزدي: "الكمّ ليس معياراً في الحفاظ على الحكومة، بل المعيار أن يقدم عدد من أتباع الإمام عليه السلام، أو ولاية الفقيه المشروعة دعمهم للمحافظة على الحكومة".
وبلغ المرجع الشيعي حدّ أن فرض وجوب القتل للمحتجين خارج نطاق القانون، ودون الرجوع إلى القضاء، وذلك لحماية القيم الإسلامية للدولة، ومن ثم، يتمّ تملك الدولة للولي الفقيه؛ فهو الذي يقرّر من يعيش على أرضها ومن لا يعيش، بحسب تعبيره، ولكي يعيش الإيراني على الأرض الإيرانية لا بدّ من أن يكون مؤمناً بولاية الفقيه، حيث قال: "إذا أردت العيش في هذا البلد، عليك القبول بالدولة الإسلامية، حتى لو استخدمت معك أساليب القوة، كلّ من يعارض الدولة الإسلامية هو مدان، وتنبغي محاربته، حتى لو بقي شخص واحد في هذه البلاد".
منابر الموت وأئمة القتل
من جانبه، رأى إبراهيم رئيسي، أحد المراجع الدينية الشيعية، ويشغل منصب رئيس السلطة القضائية بطهران؛ أنّ تلك المظاهرات فتنة أمريكية سعودية، بحسب وصفه، بينما تهدف إلى إحداث فوضى لمنع العراقيين مِن المشاركة في الأربعينية الحسينية، والكلام نفسه ردّده يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري الأعلى للمرشد.
وقال آية الله إمامي كاشاني، إمام جمعة طهران، أثناء خطبة الجمعة، يوم الرابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إنّ "سبب هذه المعارضة هو أنّ راية الحسين هي الشهادة والصمود، وهذه الراية توقظ الأمم للوقوف ضدّ القمع، وهذه الراية هي راية: "هيهات منا الذلة"، وكلّ الجموع التي تشارك في مسيرة الأربعين هي تجسيد لتلك المقولة وهذا الشعار، والعدو لا يريد أن يرى ذلك، بعون الله، سيتمّ حلّ القضايا والمشاكل التي ظهرت، وسوف تشارك الجموع في مسيرة الأربعين".

اقرأ أيضاً: بعد لقاء إسطنبول.. كشف الهيكل التنظيمي للإخوان بإيران
وفي تحليله السياسي والخطابي، يرى الصياد؛ أنّ ثمة مفارقات مهمة يجب أن تقرأ في هذه الخطبة لكاشاني؛ أهمها أنّ إمام جمعة طهران قد ربط بين تظاهرات العراق، والعمالة للخارجِ، وكأنّ الشعب العراقي لا يتحرك من أجل أوضاع معيشية وسياسية، بينما ربط بين التظاهرات ومسيرات الأربعين، في إثارة واضحة للنزعة الطائفية والمذهبية.
لكن، من ناحية أخرى، فضح الشيخ ياسر عودة في لبنان، التعامل العنيف مع المتظاهرين، وألمح إلى التناقض في الشعارات الشيعية؛ ومن بينها شعار: "هيهات منا الذلة"، وطرائق التعامل العنيف مع المتظاهرين الذين خرجوا يطبقون هذا الشعار عملياً، كما يردف الصياد؛ إذ يبدو أنّ هذا الشعار تستعمله النخبة الدينية الإيرانية، بشكل وظيفي، ضدّ خصومها المذهبيين والسياسيين فقط، أما أن يستعمل ضدّها؛ فهذا ما لم تقبله تلك النخبة؛ لأنّها منصوبة من الله، وفقاً لمقتضيات ولاية الفقيه، بقراءتها الخمينية.

اقرأ أيضاً: بنزين خامنئي يشعل روح الثورة في الإيرانيين من جديد
ومن بين المراجع الدينية الشيعية، التي دعمت التظاهرات وطالبت بإقالة الحكومة، في طهران، المرجع الشيعي كمال الحيدري، الذي صرّح: بأنّه "مع شديد الأسف، وضع الشعب العراقي في محنة أخرى لا تقل خطورةً عن سابقتها، حيث استحكمت طبقة فاسدة على مقدرات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأوجدت لدى الأمة حالة من اليأس والإحباط في وطنها، لقد نبهت مراراً في السنوات الماضية إلى تفشي حالة الفساد، التي تعيشها الطبقة الحاكمة بكل اتجاهاتها ومكوناتها وتياراتها وأحزابها، والتي أصبحت حالة معممة في الحياة العامة للبلد، دون أيّ رادع ديني أو قانوني، وما المظاهرات التي خرجت وستخرج إلا بمثابة ردّ فعل طبيعي على هذه الحالة؛ إنّنا نعلن وقوفنا الكامل مع مطالب المحتجين في القضاء على هذه الطبقة الحاكمة".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية