هل كانت الدولة العثمانية فردوس الخلافة المفقود؟

هل كانت الدولة العثمانية فردوس الخلافة المفقود؟

هل كانت الدولة العثمانية فردوس الخلافة المفقود؟


03/02/2024

رسمت جماعات "التمايز بالإسلام عن المسلمين" "تابوهات" القداسة للدولة العثمانية، ودافعت عنها بحرارة؛ فهي من منظورهم دولة الخلافة الأخيرة ونموذج وحدة العالم الإسلامي؛ فهل كانت هي حقاً الفردوس المفقود أم بضعة قرون من الهيمنة التركية؟ هل مثّلت نموذجاً لدولة العدل والرّقيّ والتطور أم لا تعدو كونها إمبراطورية من إمبراطوريات العصور الوسطى حملت صوراً للاستبداد والتّخلف والقهر؟


بدأت الدولة العثمانية في عهد عثمان الأول، عام ١٢٩٩، إمارة ثغْر لا تتجاوز مساحتها ١٦٠٠٠كم، ثمّ أخذت في التّوسع؛ لتصل في عهد سليم الأول، عام ١٥١٧، إلى ٦٥٥٧٠٠٠كم في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويمتدّ نفوذها من موسكو إلى فيينا ومن بغداد إلى المغرب، يحكمها، كغيرها من ممالك تلك الحقبة التاريخية، القصر المركزي في إسطنبول؛ حيث كانت السيادة للسلطان العثماني/ الخليفة، فله مطلق السيطرة على ممتلكاتها وإدارة ثرواتها كيفما شاء، مستعيناً بطبقة من العبيد يدعون "الخُلّص الذين كانت وظيفتهم الأساسية حماية السلطان والذود عن ملكه، ولما كان لتلك الطبقة ذلك الشأن الكبير في حماية السلطان وبقاء ملكه؛ فإنّها كانت تُشكّل الطبقة الحاكمة بالفعل، كما كان لها دور كبير في التأثير على قرارات السلطان وسياسة الدولة، وقد كان اهتمام الدولة العثمانية الخاضعة تحت تأثير طبقة العبيد "الخلّص"، الذين سمّوا فيما بعد "العثمانيين"، قائماً أساساً على الوظائف المتعلقة بالجهاز المالي أما بقية وظائف الدولة التي لا توجد علاقة كبيرة لها بالأمور المالية؛ فإنّها متروكة لرعايا الدولة العثمانية للقيام بها"(*).

 

دافع العثمانيين كان استعمارياً توسعياً وكأنّ البلاد العربية عليها أن تختار بين محتلّ يدينُ بدينها ومحتلّ على غير دينها

عاشت الإمبراطورية/ الخلافة/ الدولة العثمانية، أربعة قرون، مُشكّلة على مدار القرنين؛ الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، قوة عسكرية منيعة، تُحكم سيطرتها على العالم الإسلامي والعربي، وتحمي حوض البحر المتوسط من احتمالات تجدّد قيام الحملات الصليبية، وتقف حائلاً أمام محاولات الاجتياح الإسباني لشمال أفريقيا، هذا ما يكتفي به بعض الباحثين مُغفلين الجانب الأكبر من الحقيقة، وهو أنّ دافع العثمانيين لم يكنْ دينياً فحسب؛ بل كان استعمارياً توسعياً، وكأنّ البلاد العربية كان عليها أن تختار بين محتلّ يدينُ بدينها، ومحتلّ على غير دينها، وأكبر دليل على تردّي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية والتدهور الفكريّ والثقافيّ ما صارت إليه مصر في ظلّ الحكم العُثماني، فالباب العالي العثماني حوّل المصريين إلى شعب يعمل بالسخرة حتى لا يموت جوعاً، وبالغ الولاة الأتراك الذين تعاقبوا على حكم مصر في إفقار ونهب المصريين، مرة لحساب السلطان ومرة لحساب حاشيتهم، فلم يتركوا أثراً حضارياً يُشير إليهم؛ لذا لا تستطيع ذاكرة الثقافة المصرية أن تستعيد اسم واحد من الولاة الأتراك، ففرق كبير بين مصر بوصفها ولاية عثمانية، ومصر حاضرة الدولة الطولانية أو الفاطمية أو الأيوبية، أو دولة محمد علي، في مظاهر العمران من مدارس ومساجد ودواوين وأسبلة ومستشفيات وطرق وخزانات ومقاييس وأحياء حرفية، فـ "العَثمنة" خلّفت العالم العربي فقيراً حتى على مستوى إقامة العلاقات الإنسانية والمهنية من علاقة الطبابة تجاه المريض وعلاقات العالِم تجاه المتعلّم.


من جانب آخر؛ فرضت الدولة العثمانية عزلة طويلة على العالم الإسلامي، حرصاً منها على الاحتفاظ بالأراضي التي بحوزتها من عدوّها التاريخي "أوروبا"، فتركت للبرتغاليين والهولنديين والإسبان، ثم الإنجليز، السيطرة على البحار المفتوحة، وزاد من عزلة وجمود الشرق تحوّل طرق التجارة إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وكما فرض السلاطين العثمانيون عزلة على العالم العربي حتى أصابته بالضعف على كافة الأصعدة، هم مَن عاد ومنح الرعايا الأوروبيين في العالم العربي امتيازات واسعة جعلتهم يفرضون هيمنتهم على التجارة، فباتت الولايات العثمانية مرتعاً لنفوذ الدول الأوروبية، فكان الرعايا الأوربيون طليعة الدخول الاستعماري إلى العالم العربي، فسماح السلاطين العثمانيين للأجانب بحرية التجارة والإقامة أفسح المجال أمام دينامية التوسع الأوروبي، ليخترق ويكتسح العالم الإسلامي؛ ليجد العربيّ نفسه بعد قرون عاشها مستسلماً لدولة الخلافة العثمانية؛ أنّه يعيش واقعاً استعمارياً مريراً من تفكيك وصراعات قومية ومذهبية وطائفية ومحاولات اقتلاع وتهجير وقهر وإفناء وتجزئة اعتباطية على قاعدة مناطق النفوذ والانتدابات.

 

فرضت الدولة العثمانية عزلة طويلة على العالم الإسلامي حرصاً منها على الاحتفاظ بالأراضي التي بحوزتها من عدوّها التاريخي أوروبا

فلم تكن الخلافة هي الحلّ بل المشكلة التي عمّقت انقطاع تطور المجتمع الإسلامي عن نسقه الحضاري وانغلاقه، فتتحمل الدولة العثمانية مسؤولية ضعف وجمود الحياة الفكرية في الشرق، وشيوع النقل والتقليد والمحافظة وانكماش روح الابتكار والإبداع والإصلاح؛ فالصوفية القديمة التي لعبت دوراً في المرابطة والتوسع في مطالع العهد العثماني تحولت بتشجيع من السلاطين العثمانيين لصوفية انكفائية جامدة تقتصر على حلقات من الذكر والطقوس التي أسهمت في الإلهاء والاستلاب الشعبي بتغذية مشاعر العجز والسلبية.

فحاربت السلطنة/ الخلافة العثمانية الاتجاهات العقلية التي تتوخّى الإصلاح وفق قواعد الإسلام الكُليّة، وجمدتْ عند المذاهب الفقهية، لا سيما ما اختارته من أحكامٍ، فمنعت أيّ اجتهاد أو تفسير مخالف لاختيارها، ولاحقت المجتهدين المخالفين لها في الرأي، فأُهدر الفكر، وحُوصر العقل وذاع الإلهام، واستبدلت الدروشة بالفلسفة، وأصبح "فقيه السلطان" هو نموذج "المثقف" على مستوى السلطة، والدرويش المتصوف هو نموذج "المثقف" على مستوى المجتمع، وبين هذا وذاك بات غريباً أن تسمع صوتاً للثقافة الإسلامية القادرة على التغيير والتجديد، انطلاقاً من قواعد الحرية والعدل والتوحيد ومواجهة الظلم والاستبداد.


حتى كانت انتفاضة العرب على الأتراك أثناء الحرب العالمية الأولى التي لم تكنْ سبباً في تصدع الخلافة/ السلطنة العثمانية، كما تُروّج الجماعات في خطابها العاطفي القائم على نفعية ساذجة، أبعد ما تكون عن المثالية أو الرشد العقلي؛ فالعرب لم يفكّروا في الثورة على الدولة العثمانية إلا بعد أن تنكّر الأتراك للعرب، وتشكيل القوميين الأتراك بعد صعودهم إلى السلطة عام ١٩٠٩ قومية تركية حاربت اللغة العربية، ونفت القوميات الأخرى، وعاملتها بصيغة إدارية وثقافية استعمارية صريحة، كما أنّ تصدّع الدولة العثمانية بدأ قبل ذلك بكثير، ولا يُفسره عامل واحد بل مجموعة من العوامل المتداخلة منها فساد القصر وصراعات العرش، التي دفعت بعض السلاطين/ الخلفاء إلى أن يقتلوا إخوتهم، فقتل السلطان مراد الثالث (١٥٦٦ -١٥٩٥) إخوته الخمسة، وأمر السلطان محمد الثالث (١٥٩٥ -١٦٠٣) بشنق تسعة عشر أخاً بطريقة سلطانية استُخدمت فيها خيوط من حرير.

أخيراً؛ من واجبات القارئ المعاصر أن يُعيد تأمّل أحداث الماضي التي تمسّ الحاضر، وتُخاطب المستقبل؛ حتى يتحرر من أسر الأوهام، فدولة الخلافة ليست نموذجاً شرعياً دينياً ثابتاً توقيفياً، أنتجه الوحي المقدس فتجب استعادته، وإنّما هي نموذج تاريخي قام على العصبية القبلية ثم الغلبة والمنعة العسكرية.


هامش:

(*) ميزانية مصر العثمانية، أ.د ستانفورد جي شو، ترجمة د عبد الله الغزالي، ص ٩.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية