لماذا أثار الشعراوي أزمة بين الإسلاميين والعلمانيين؟

لماذا أثار الشعراوي أزمة بين الإسلاميين والعلمانيين؟


01/12/2019

تحمل لنا شبكات التواصل الاجتماعي، أحياناً، كثيراً من الغث معه قليلٌ من السمين، فقد دارت على مدار الأسابيع الماضية معركة حامية الوطيس بين دعاة العلمانية وأصحاب المرجعية الإسلامية على قيمة الشيخ الشعراوي، ومدى تأثيره في حياة المجتمع المصري، وذلك بعد واقعة لمذيعة وصفت فيها الشعراوي بأنّه "داعية للإرهاب والعنف"، وعلى إثر ذلك بدأت المعركة بإظهار بعض الفيديوهات القديمة للشيخ التي تبرز كلاماً قديماً له بعدم مشروعيّة نقل الأعضاء البشرية، وأنّ الجسد الإنساني ملكٌ لله تعالى، وفتوى أخرى يبيح فيها قتل المسلم تارك الصلاة وهو متعمّد، ثم كلام الشيخ عن معاملة أهل الكتاب، وهو كلام قد بُني على فقه أهل الذمّة، ولم يأتِ الشيخ فيه بجديد سوى إعادة إنتاج الفقه القديم في هذه المسألة.

المشكلة مع التراث الديني الذي أنتج كلام الشعراوي وغيره، مع المنبع لا المصب، مع الأصل لا الفرع

لقد سهّل فضاء الإنترنت، وتسجيلات اليوتيوب وجود ذاكرة للإنسان؛ حيث يتم تدوين المكتوب وتسجيل المنطوق، وأصبح للثقافة الشفاهية ذاكرة يمكن أن نعيد إنتاجها ومحاكمتها من خلال الفضاء السيبراني؛ حيث انبرى العلمانيون في إذاعة ما نطق به الشعراوي من فتاوى غريبة لا تتناسب مع روح العصر على مدار عمر دعوته، وهو قليل، وتم تكييل الاتهامات للشيخ باعتباره "ظلامياً يكرس لثقافة العصور الوسطى"، وهو سبب نكبات كثيرة في المجتمع المصري، وأنّ هؤلاء الشيوخ هم أحد أسباب نكبتنا وتخلّفنا، وذلك لأن كلامهم يعيق تطور المجتمع، ويتدخل في العلاقة الخاصة بين العبد والرب، ويؤسس لتوتر العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب وذلك في استمرار الأخذ والتعويل على أحكام أهل الذمة.


وتغافل دعاة العلمانية عن أنّ المسؤولية الشاملة كانت تقع على النظام السياسي السائد في تلك الفترة التاريخية، والذي أخرج دعاة الجماعات الإسلامية من السجون ليواجه به اليساريين، وأصبح آنذاك رئيس مصر، أنور السادات، هو "الرئيس المؤمن"، والذي فتح المجال العام الاجتماعي لهم حتى انقلبوا عليه وقتلوه، وبسبب المدّ الديني المتطرف حدثت العديد من الحوادث الطائفية في عهد السادات نتيجة سيادة فقه أهل الذمّة على يد الجماعات المتطرفة .

المعركة مع التراث الثقافي لا الشعراوي

مات الشعراوي ورحل عن دنيانا ولم يُقتل مصري؛ لأنه ترك الصلاة متعمداً، وانتصرت احتياجات المجتمع في نقل الأعضاء وسن تشريع قانوني يبيح ذلك، ولكننا مازلنا إلى الآن نجد أن حَملة التراث الفقهي، الذي يكرس للنظر إلى الآخر على أنّه ذميّ مازالت كائنة في عقول الكثيرين من أصحاب المرجعيات الإسلامية، ومازالت سيادة هذا الفقه مسؤولة مسؤولية كاملة عن الأحداث الطائفية في المجتمع المصري، الذي أصّل لمفهوم المواطنة منذ قرن ونصف القرن من الزمن، ولكنها مواطنة منقوصة بسبب تأثير الثقافة الدينية التقليدية التي تهمش المواطنة في جعل الأخوة في الدين أهم منها، أو تبرز حالة الاستعلاء على الآخر من أهل الكتاب؛ فالمشكلة مع التراث الديني الذي أنتج كلام الشعراوي وغيره، مع المنبع لا المصب، مع الأصل لا الفرع.

معارك العلمانيين الزائفة
دأب العلمانيون على إقامة المحاكمات لشيوخ السلف سعياً إلى تشويههم وكسر صورتهم في أعين مريديهم، والنظر إلى الكلام الغريب لهم على أنّه هو الصورة التي يقدمونها للإسلام، ونتيجة لغياب الحجة العقلية عند قطاع ممن ينتمون للإسلاميين فإنّهم ينبرون لسبّ العلمانيين وتشويههم وشتمهم بأقبح الألفاظ، وتكييل الاتهامات الكثيرة إليهم بأنّهم أعداء الإسلام، وبأنّهم ملاحدة وأعداء الدين، وأنّهم يضمرون شراً للهوية الإسلامية، وأنّهم أذرع الغرب في المؤامرة الكونية على المسلمين وعلى الإسلام ذاته، فيحرضون عليهم العامة والغوغاء الذين يمتلكون حق توجيههم، ولا يقف الإسلاميون عند هذا الحد؛ بل يتجهون إلى رفع الدعاوى القضائية على العلمانيين باتهامهم بازدراء الأديان، سيعاً منهم لتكميم الأفواه نتيجة عجزهم عن الحوار ومقارعة الحجة بالحجة.

اقرأ أيضاً: الشعراوي حين سجد لله شكراً بعد نكسة 1967!
ولم يتخذ الإسلاميون من الضغط العلماني سبيلاً نحو تطوير الخطاب الديني لمعالجة مشكلات العصر، وجعل الفكر الديني مرتبطاً بقضايا التسامح، وحق الاختلاف، والتعايش مع الآخر، وأهمية دور الدين في صناعة ضمير الفرد، وربط الدين بقضايا المجتمع الدنيوية؛ كالتنمية والعدالة، وحقوق الإنسان، والتركيز على تاريخية الفقه الإسلامي في جوانبه التي لم تعد تساير العصر، وضرورة تطوير الفقه بما يلائم أحوال الناس وتطور المجتمع.

التعصب السائد بين العلمانيين والإسلاميين

لقد كشفت قضية الشيخ الشعراوي على فضاء الإنترنت حالة الدوائر المغلقة المتعصبة واللامتسامحة التي يعيش فيها كل تيار؛ فالتيار العلماني يعتقد أنّه بأيديولوجيته يمتلك الحقيقة المطلقة، وأنّ الفكر الديني الجامد الذي يتردد على ألسنة المشايخ هو أحد أسباب التخلف، وأنّ قطاعاً من كلامهم حول الفقه الإسلامي وأحكامه معيق لتطور حركة الاجتماع، وأنّ خطابهم الديني يشتق مفرداته من الماضي، ويعيش حالة غربة واضحة عن احتياجات الناس ومتطلباتهم، وهنا اعتقد أصحاب التيار العلماني أنّ كسر سيطرة الإسلاميين على المجال العام لا يتأتى إلا من خلال تشويه صورة وأداء هؤلاء المشايخ في عيون متابعيهم، وبالمقابل يعيش الإسلاميون في دائرة أشد انغلاقاً ووحدة في مواجهة ممارسات العلمانيين بالشتم والقذف، أو باللجوء إلى القضاء لإسكات ألسنتهم عن القول أو ممارسة كشف غريب القول في كلام الشيوخ وفي خطبهم .

هل من سبيل للحوار بين الفرقاء؟

وتكشف العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين عن أزمة الحوار في مجتمعاتنا، وعن انتفاء فقه الاختلاف؛ فالكل يريد النيل من الآخر وإقصاءَه عن التأثير في المجال العام، وليس ثمة إيمان بينهما بضرورة الاعتراف بالآخر، والإيمان بضرورة الاختلاف، وأنّ الاختلاف سنّة كونية، وأنّ المجتمع الثريّ هو القائم على التنوّع، ولاشك أنّ مثل هذه الأشكال من الصراع فيها استنفاد لقوى وطاقات الطرفين فيما هو ثانوي وزائف.

تكشف العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين عن أزمة الحوار في مجتمعاتنا وعن انتفاء فقه الاختلاف

وقد غاب عن كلّ من التيار؛ العلماني والإسلامي، ضرورة الاهتمام بمشاكل المجتمع الحقيقية وتحقيق العدالة والتنمية، وأهمية تعميق مؤسسات المجتمع المدني، ولاشك أنّ ذلك نتاج اهتمام كليهما بالقضايا الزائفة على حساب القضايا الحقيقية؛ بل وصنع قضايا زائفة وتصديرها على أنّها قضايا حقيقية مما يسهم في شغل الرأي العام وإلهاء الناس عن مواجهة مشاكلهم الحقيقية.
والسؤال المهم: متى يدرك كلٌّ من الفصيلين أنّنا نعيش في وطن يحتاج جهود الجميع إلى البناء والتنمية؟ وأنّنا في حاجة إلى أن نضع نصب أعيننا الأهداف الكبرى لصالح المجتمع ولصالح التنمية والتطوير، وبأنّ الخلاف الأيديولوجي واختلاف توجهات البشر هو سنّة كونية لله تعالى، وبالتالي لا يمكن لتيار إزاحة الآخر والقضاء عليه من الوجود، ومن ثم لا ينبغي أن يكون الخلاف الأيديولوجي هو وقود للصراع واستنزاف الجهود في القضايا الخلافية، فمتى يكون هناك ما يتم الاتفاق عليه بين العلمانيين والإسلاميين لصالح بناء المجتمع؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية