ما حلمت به أوروبا من تخريب المعنى يتحقق في أمريكا

أمريكا

ما حلمت به أوروبا من تخريب المعنى يتحقق في أمريكا


02/12/2019

تتعدّد صور أمريكا في مخيّلة وأذهان غير الأمريكيين من شعوب العالم، هي الدولة العظمى عند البعض، ورأس القوى الإمبريالية في العالم، بالمقابل هي حلم كثيرين، حتى فكرة طموح الفرد وتحققه ونجاحه في الحياة، كما تمّ تصديرها في كتب "التنمية البشرية" التي تحتل أكشاك الكتب على الأرصفة وواجهات المكتبات، مرتبطة بحُلم تتمّ كتابة سيناريو له في مخيلة الفرد، على شاكلة فيلم هوليودي.

المخرج الأمريكي وودي آلان
صنعت السينما الأمريكية، الهوليودية تحديداً، صوراً لا نهائية عن أمريكا والمواطن الأمريكي الخارق، العابر للأكوان، مستكشف الفضاء، الرومانسي، الذي يسعى لتحقيق هدفه وفي نهاية الفيلم يحقق كلّ ما طمح إليه.

في كتاب "أمريكا"، وخلال جولته في شوارع أمريكا، يضع جان بودريار مقارنات بين الحياة في أمريكا والحياة في أوروبا

يكاد يكون المخرج الأمريكي، وودي آلان، من القلائل من السينمائيين الذين كسروا هذه الصورة الفاقعة بمثاليتها وسطحيتها لأمريكا وللمجتمع الأمريكي، أمريكا في أفلام وودي آلان قائمة بالأساس على كسر الصورة النمطية الجاهزة للمجتمع الأمريكي، وتحديداً بأفلامه الثلاثة: (Anne Hall 1977)، و(Manhattan 1979)، و(Hanna Her Sisters 1986)؛ إذ تدور هذه الأفلام حول العلاقات الاجتماعية المتشابكة لمجتمع الطبقة الوسطى في أمريكا؛ الحب والصداقة والخيانة والثقافة بشقيها؛ النخبوي والمفرط بسطحيته، كلّها تبرز كموضوعات متشابكة في أفلام وودي، كما أنّ العلاقات العاطفية، التي تنتهي بالفشل، يطرحها وودي آلان بشكل مناقض تماماً للعلاقات العاطفية الرومانسية التي نراها في الأفلام الهوليودية.
جان بودريّار في كتابه "أمريكا"
في حديثه عن مدينة نيويورك، يقول المفكر الفرنسي جان بودريّار، في كتابه "أمريكا"، الصادر عام 1986، والذي نقله للغة العربية المترجم المصري أحمد حسان (دار ميريت 2017): "في نيويورك؛ يبلغُ من قوة تدويم المدينة، ومن شدة قوتها الطاردة المركزية؛ مما يفوقُ طاقة البشر، وتخيُّل العيش في علاقة ثنائية، ومشاركة شخصٍ آخر في حياته، فلا يستطيع البقاء هنا سوى القبائل، أو العصابات، أو عائلات المافيا، أو الجمعيات السرية: بعض التجمعات التواطؤية المعينة، لكن ليست العلاقات الثنائية (couples)؛ إنّها سفينة نوح النقيضة (L'anti- arche) "السفينة المضادة"، في سفينة نوح كانت الحيوانات تصعد إلى متنها أزواجاً لإنقاذ الأنواع من الفيضان، وهنا، في هذه السفينة الخرافية، يصعد كلُّ واحدٍ إلى متنها بمفرده، وعليه أن يعثر كلّ مساء على آخر الناجين من أجل الحفل الأخير".

اقرأ أيضا: "البغدادي"... فكرة تدرك أمريكا أنّها لم تمت

هنا تتجاور رؤية المفكر الفرنسي، جان بودريّار، مع نظرة وودي آلان السينمائية لأمريكا؛ وودي آلان لم يلجأ إلى نقد جادّ وكلاسيكي للمجتمع الأمريكي في أفلامه، بل في انهماكه هو نفسه بنمط الحياة بوصفه مواطناً أمريكياً يعيش في مدينة نيويورك، لكن بأسلوب نقدي ساخر، العيش داخل نمط ما والسخرية منه في آن، وكذلك الأمر فعل جان بودريار، هو أيضاً لم يسلك أسلوباً كلاسيكياً في حديثه عن رحلته كـ "سائح" في أمريكا، لكن أيضاً بأسلوب يحمل سخرية مبطنة من هذا المجتمع المتنافر والهجين، الذي يرى فيه بودريار الشكل النهائي لـ "اليوتوبيا المتحققة" للثقافة الأوروبية، والكارثة المستقبلية والمكتملة لكلّ ما هو اجتماعي.
تلتقط عين بودريار تفاصيل بالغة البساطة في الحياة اليومية في أمريكا، لكنها محملة بالدلالة ودقة الملاحظة؛ إذ يقول: "هنا عدد الناس الذين يفُكِّرون وحدهم، الذين يُغنُّون وحدهم، يأكلون ويتحدثون وحدهم في الشوارع، هو عددٌ مذهل، ورغم ذلك فإنّهم لا يُضافون إلى بعضهم؛ بل العكس، يُطرحون من بعضهم، وشبَهُهُم ببعضهم غيرُ مؤكَّدٍ".

غلاف كتاب "أمريكا" للمفكر الفرنسي جان بودريّار
عزلة الفرد داخل المجتمع
ويشير أيضاً إلى مشاهد لافتة عن عزلة الفرد داخل المجتمع، عندما يقول: "ثمة عزلةٌ بعينها لا تشبه أيّة واحدة سواها، هي عزلة الرجل الذي يُعدُّ وجبته علانيةً، فوق جدارٍ، أو فوق الغطاء المعدني لسيارةٍ، أو بطول حاجزٍ، وحيداً. هنا يشاهد المرء هذا في كلّ مكان، وهو أتعسُ منظرٍ في العالم، فالرجل الذي يأكل وحيداً على رؤوس الأشهاد أتعسُ من البؤس، أتعسُ من المتسوّل، وليس ثمة ما هو أشدّ تناقضاً من قوانين البشر أو الوحوش؛ إذ تمنح الوحوشُ بعضها دوماً شرفَ اقتسامِ أو تنازع الطعام، ومن يأكل وحده ميِّتٌ (لكن ليس من يشرب وحده، لماذا؟)".
البؤس كموضوع يحضر في فيلم "آني هال" لوودي آلان، ويعبّر عنه "ألفي" بطل الفيلم في حوار قصير مع "آني" عندما يقول لها: "أنتِ تعلمين أنّي أنا مهووس بالموت، إنّه موضوع كبير يشغلني، صحيح؟
آني: صحيح؟
ألفي: إنّ نظرتي متشائمة للحياة، يجب أن تعرفي هذا عني إذا كنا سنخرج معاً، أنا أشعر أنّ الحياة تنقسم إلى الفظيع والبائس، سيكون الفظيع، لا أعلم، كالأمور الحتمية والمكفوفين والمعقدين..
آني: أجل".

صنعت السينما الأمريكية، الهوليودية تحديداً، صوراً لا نهائية عن أمريكا والمواطن الأمريكي الخارق والعابر للأكوان ومستكشف الفضاء والرومانسي

في كتاب "أمريكا"، وخلال جولته في شوارع ومدن أمريكا، يضع جان بودريار مقارنات بين الحياة في أمريكا والحياة في أوروبا، كأن يقارن، على سبيل المثال، بين حيوية وحركة الناس بين مدينة نيويورك ومدينة باريس فيقول: "يُقال إنّ الشارع حيٌّ في أوروبا، لكنّه ميِّتٌ في أمريكا، هذا قولٌ باطل، فليس ثمة ما هو أشدُّ كثافةً، وإلهاباً وحيويةً، وتلاطماً من شوارع نيويورك؛ فهي تعجٌّ بالزحام، وحركة المرور والإعلانات، في عنفٍ تارةً، وفي طلاقةٍ تارةً أخرى، ملايين الأشخاص يحتلّون الشوارع؛ متصعلكين، لا مبالين، وعنيفين، كأنّما ليس لديهم شيءٌ آخر يصنعونه، ولا ريب في أنّهم ليس لديهم حقاً ما يصنعونه سوى أن ينتجوا سيناريو المدينة الدائم"، ويتابع بودريار كلامه: "الموسيقى في كلّ مكان، وحركة المرور كثيفة، محتدمة وصامتة نسبياً (فليست هي حركة المرور العصيبة والمسرحية على الطريقة الإيطالية)، الشوارع والطرقات لا تُفرغُ أبداً، لكنّ الهندسة الواضحة والفسيحة للمدينة تستبعد الاختلاط المشوَّش المختنق للشوارع الأوروبية الضيقة".
الصور الباهتة
تبهت صورة أوروبا في عين بودريار أثناء تجواله في أمريكا، هو بالأحرى يضعها خلف ظهره أثناء تأمله وتدوين ملاحظاته عن كلّ المظاهر الاجتماعية التي تلتقطها عينه في شوارع أمريكا، لكن قبل ثمانية عشر عاماً على صدور كتابه "أمريكا"؛ أي في عام 1968 كان لحركة الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها فرنسا، في شهر أيار (مايو)، تأثيراً بالغاً على المجتمع الأمريكي الذي كان يشهد تحركات واحتجاجات اجتماعية وسياسة، سبقت عام 68، كانت حركة "الهيبيز" الاجتماعية في أيام عزّها؛ إذ كان شباب الهيبيز مناهضين للقيم الرأسمالية في أمريكا؛ فالحركة برزت في أوائل الستينيات من القرن العشرين، وسرعان ما انتشرت أفكارها بين طلاب بعض الجامعات في أمريكا، كظاهرة احتجاج وتمرد على قيادة الكبار ومظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك، فقام بعض الشباب المتذمر بالتمرد على هذه القيم والدعوة لعالم تسوده الحرية والمساواة والحب والسلام.
موجة تمرد عالمية
يقول المؤرخ والأكاديمي الألماني، نوربرت فراي، في كتابه "1968 الثوار الشباب موجة تمرد عالمية" (دار صفصافة، ترجمة د. علا عادل، 2017)، في توثيقه للاحتجاجات التي شهدتها أمريكا مطلع الستينيات: "لم يكن من الصعب التعرف على أهم رواد وقدوات وبدايات الحركة الثورية التي غدت عالمية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فقد نشأ هناك، في معقل الرأسمالية الحديثة، نمط متطرف لنقد النظام، لا يستند في توجهه إلى التحيز لصالح الشيوعية الكائنة بالفعل، لكنّه سلك في بدايته الأولى مساراً ذا تأثير بالغ ينطلق من الدفاع عن حقوق المواطنين، والمشاركة السياسية الشاملة، وتحقيق حلم المدينة الفاضلة بشكل ملموس في المجتمع الجديد".

التحولات الاجتماعية التي شهدتها أمريكا كانت مختلفة عن التي شهدتها أوروبا

لكنّ التحولات الاجتماعية التي شهدتها أمريكا، كانت مختلفة في الطريقة والأسلوب عن التحولات التي شهدتها أوروبا في الثمانية عشر عاماً من احتجاجات أيار (مايو) 1968، ويعبّر عنها بودريار في كتابه أمريكا بكلّ وضوح، عندما يقول: "كلُّ ما تمّ ببطولة لعبه وتدميره في أوروبا تحت راية الثورة والإرهاب (بالأحرف الكبيرة)، قد تحقّق عبر الأطلنطي بأبسط الطرق وأشدها إمبيريقية (يوتوبيا الثروة، والقانون، والحرية، والعقد الاجتماعي، والتمثيل)، وبالمثل؛ فإنّ كلّ ما حلمنا به تحت راية الراديكالية للثقافة المضادة، لتخريب المعنى، وتدمير العقل، ونهاية التمثيل"، مضيفاً: "كلّ هذه اليوتوبيا- المضادة التي أطلقت في أوروبا عنان كثير من الاختلاجات النظرية والسياسية، الجمالية والاجتماعية، دون أن تتحقق على الإطلاق (ومايو 68 هو أحد الأمثلة الأخيرة)، كلّ ذلك تحقق هنا، في أمريكا، بأبسط الطرق وأشدها جذرية".

اقرأ أيضا: لماذا يميل مسلمو أمريكا إلى اليسار؟

مات جان بودريار عام 2007؛ أي قبل بداية الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وما تلاها من أزمة الدين الحكومي اليوناني، واحتجاجات "وول ستريت" في أمريكا، وثورات "الربيع العربي"، ووصول الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى سدة الحكم. ربما الكارثة الاجتماعية التي تنبأ بها قد تحققت بشكل أو بآخر، وبالتأكيد أمريكا اليوم غير أمريكا التي تجوّل فيها عام 1986.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية