في وداع صالح علماني.. أدخلنا عالماً ساحراً بحب ومضى

صالح علماني

في وداع صالح علماني.. أدخلنا عالماً ساحراً بحب ومضى


04/12/2019

مضى أمس ثقيلاً بعد إذاعة نبأ وفاة المترجم العربي الكبير صالح علماني؛ حيث خيّم الحزن على قلوب القراء قبل المترجمين والكتاب الذين رأوا في رحيله خسارة كبيرة للساحة الثقافية العربية والعالمية.
ونعى كتاب ومترجمون وقراء الراحل، مؤكدين أنّ اسمه سيظل محفوراً، بسحره وبريقه، في صفحات المكتبة العربية بوصفه أهم من نقل الأدب المكتوب بالإسبانية إلى لغة الضاد، بعد حياة حافلة، فارقها أمس في إسبانيا، عن سبعين عاماً.

اقرأ ايضاً: رحيل صالح علماني صوت الإسبانية العربي
متفوقاً على الواقعية رغم الموت، ينتصر السحر هذه المرة لمن نقله إلى العربية، واستحق ألقاباً عديدة، منها "عراب الأدب اللاتيني" و"المترجم برتبة الكولونيل" و"ناقل الكنوز"، كلها أسماء أخرى لمترجمٍ لا يموت، اختارها له محبوه وأصدقاؤه وزملاؤه. فكيف ترك علماني هذا الأثر الذي لا يزول؟

اللغة اختارته

بعد ولادته لأسرة فلسطينية فقيرة في مدينة حمص السورية العام 1949، انتقل صالح علماني للعيش مع عائلته إلى مخيم اليرموك في دمشق، ونشأ هناك؛ حيث راودته منذ شبابه فكرة أن يكون كاتباً روائياً. لكن علماني، الذي اجتاز امتحان الثانوية (البكالوريا) ذهب إلى إسبانيا حتى يتابع دراسته الجامعية في مهنة الطب، وهناك بدأت ظروف عائلته الصعبة تنعكس عليه، حيث ترك الطب بعد فترةٍ غير طويلة.

غسان حمدان: نطمع في أن نكون مثل صالح علماني متفانين في الترجمة واختيار الصياغة الأفضل

ويقول علماني "تركت الطب لأني لم أحتمل أن يصرف أهلي عليّ في ظروفهم الصعبة تلك.. اتجهت بدلاً عنه إلى الصحافة، التي سرعان ما تركتها لأنّها تحتاج إلى وقتٍ طويل للدراسة، لم أكن أملكه، لأنّي بدأت العمل في مهنٍ متنوعة حتى أعيل نفسي"، بحسب حوارٍ معه على موقع "مؤسسة فلسطين للثقافة" في العام 2011.
وفي ذلك الحين، عمل كعامل بناء، وعامل ميناء، وبقي يحاول جاهداً تحصيل رزقه. ولم يبق له من إسبانيا في النهاية، سوى ما تعلمه من لغتها، في معهد اللغات هناك، فأتقنها تماماً، ومكّنه الاختلاط مع الناس، من تَعرُّف لهجاتها بصورةٍ ممتازة.

اقرأ أيضاً: وفاة إمام عبدالفتاح.. ناسك الفلسفة وإمامُ الترجمة
خلال تلك الفترة، تعرف علماني على ماركيز، من خلال روايته "مئة عام من العزلة" إلا أنّه أهمل ترجمتها مبدئياً. وظل مشدوداً إلى ماركيز وسحره، حتى قام بترجمة أول عملٍ له إلى العربية، وكان "الكولونيل لا يجد من يكاتبه"، بعد ذلك، نقل إلى العربية "بحب" رائعة ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" وعرّف القارئ العربي على أشعار بابلو نيرودا وإبداعات يوسا وإيزابيل أليندي وغيرهم الكثير، لتكون بوابته إلى القراء كمترجمٍ مميز. وهو يعبر عن كل ذلك ببساطةٍ حين يقول "لقد اختارتني مهنة الترجمة، لست أنا من اختارها" وفق المصدر ذاته.

أعمال كثيرة وعظيمة ترجمها كجسر إنساني وجمالي بين الثقافات

قدوة للمترجمين

يقول المترجم عن الفارسية والكاتب العراقي غسان حمدان عن صديقه صالح علماني "تعود بداية معرفتي بالراحل إلى العام 1999 وذلك بعد الانتقال من إيران إلى سوريا؛ حيث تعرفت على مسؤولي دار المدى وترجمات علماني.. ومع أنّني كنت قد قرأت "خبر اختطاف" و"قصة موت معلن" مترجمتين إلى الفارسية، لكنني شعرت بسلاسة الترجمة العربية ودقتها، وسرعان ما انسجمت معها؛ فالترجمة الفارسية كانت عن لغة وسيطة هي الفرنسية، في حين ترجمة علماني كانت مباشرة عن الإسبانية، لذلك لم أشعر وكأنّه قد ترجم الكتابين، بل رأيت أنّه كتب النسخة العربية لهما".

سارة النمس: كل مرة أكتشف ترجمته الساحرة أعانق الكتاب ممتنّة لنعمة وجود إنسان ومترجم اسمه صالح علماني

وبسؤاله عما يميز الراحل في حقل الترجمة، أجاب حمدان في حديثه لـ"حفريات": "بعد انضمامي لدار المدى في العام 2003، ازدادت معرفتي به، بل صرنا نلتقي مرة أسبوعياً، على الأقل، وهنا تعرفت على شخصيته ورأيته دمثاً محباً للمزاح ومتواضعاً كريماً، وبعدما دخلت عالم الترجمة بتشجيع منه، حاولت أن أجتهد في هذا الدرب الشاق جداً... ولا أخفي أبداً أنّ أغلب المترجمين وأنا منهم، نطمع في أن نكون مثله متفانين في الترجمة واختيار الصياغة الأفضل ليكون العمل سلساً محبباً لدى القراء".
ويختم حمدان حديثه: الدماثة وحسن الأخلاق هما الصفتان البارزتان للصديق صالح علماني الذي فتح نافذة أدب ما وراء البحار المغلقة، وجعلنا نتوه مع الجنرال بوليفار ونطير مع الحسناء مرسيدس، وننتظر وصول رسالة للكولونيل.

وجهةٌ للقراء والروائيين
لا يخفى أنّ علماني مد جسوراً حضارية وثقافية وإنسانية، من خلال ترجمته لأدب أمريكا اللاتينية وواقعيته السحرية إلى العربية، وكان واحداً من رواد ترجمة هذا الأدب إلى العربية والأميز، مما جعل ترجماته تنعكس على روح القراء والكتاب العرب على حد سواء.
وتشير الروائية الجزائرية سارة النمس إلى هذه النقطة، فتقول "أنا من عشّاق أدب أمريكا اللاتينية، وأفضلُ الروايات التي قرأتها كتبها روائيون وروائيات من هناك، أكثر الأماكن التي أحلم بزيارتها هي مدنٌ في أمريكا الجنوبية أيضاً، أما كيف تعرفتُ على كل هذا السحر؟ فبفضل المترجم الفلسطيني السوري الرائع صالح علماني".

اقرأ أيضاً: الترجمة.. كتابة جديدة توازي التأليف
وتوضح النمس في حديثها لـ"حفريات": "لم أشعر يوماً بأنّني أقرأ أدباً مترجماً؛ بل كنت أشعر بأنّ الكاتب يفرغ في قلبي ومخيلتي كلماته مباشرةً! كان حضور المترجم غائباً وهذا من فرط براعته، وبقيت في كل مرة أكتشف فيها كتاباً ساحراً، أعانق الكتاب ممتنّة لتلك النعمة، المتمثلة في  وجود إنسانٍ ومترجم اسمه صالح علماني على وجه الأرض، واليوم ها هو يفارقنا، ولكن صدّقوني سيظل موجوداً، لقد ترك إرثاً عظيماً لنا يخلّد اسمه ووجوده".
بدوره، أكد الروائي المصري وحيد الطويلة لـ "حفريات" أنّه سُحر بترجمات علماني كقارئ، ثم تعمق في فهم أسلوبه وصياغاته كروائي؛ "عرفنا ماركيز الحقيقي مع صالح علماني، نكهة أخرى للترجمة، تعلّمنا مع صالح جمال أمريكا اللاتينية وجمال الإسبانية معاً، لقد بذل علماني جهداً وافراً، وإصراراً حثيثاً على اختيار الدرر، إنّه مترجم بحجم مؤسسة، وهو المترجم الذي جعل العديد من المترجمين يقفون بأبواب المكتبات بين فترة وأخرى ليسألوا: هل هناك ترجمة جديدة لصالح علماني؟".
ويتذكر صاحب رواية "حذاء فيلليني" معرفته الشخصية بعلماني والبصمة التي تركها مثقفاً "يكفيه أنّه لن يُنسى، دخل إلى مكتبات العالم وقلوب القراء من باب المعرفة والخلود والاحترام لمنجزه الكبير".

يعمل ببساطة وتواضع في استخراج كنوز الأدب العالمي وترجمتها إلى العربية

شغف بالترجمة
غير بعيدٍ عن عالم الواقع، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر وفاة علماني في مدريد، فوصفه كثيرون بالمترجم العظيم، والرجل الذي سوف يستضيفه ماركيز في عالمه، بينما علّق البعض على مواقفه السياسية منتقدين إياه، مع حفاظهم على قيمته العظيمة كمترجم. 

معاوية عبد المجيد: علمنا أنّ الغزارة والاجتهاد شرطان أساسيّان في هذه المهنة وأنّ اللغة الأدبيّة العربيّة صالحة دوماً للتلقّي والتلاقي

وكان علماني، الذي شارك في العديد من المؤتمرات العربية والدولية حول الترجمة. وأشرف خلال حياته بصورة دورية على ورشات عمل تطبيقية في الترجمة الأدبية بمعهد ثربانتس بدمشق، قد أقامت له مدرسة المترجمين في طليطلة (جامعة كاستيا لامنتشا) حفل تكريم في العام 2013، ومنحه رئيس دولة فلسطين محمود عباس وسام الثقافة والعلوم والفنون (مستوى الإبداع) في 2014.
كما كرمه اتحاد الأدباء والكتاب العرب في حفلي تكريم بمدينة طنجة المغربية في 2015، وبمدينة أبوظبي في العام نفسه، وحصل على جائزة خيراردو دي كريمونا الدولية للترجمة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.  وكذلك، نال جائزة الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولية للترجمة (فرع جهود الأفراد) في العام 2016، وقد حقق إنجازاتٍ كبيرة، منها ترجماته التي تجاوزت مئة عمل مترجم. وكان حلمه الكبير، هو أن يزور بلده فلسطين قبل موته، لكن ذلك لم يتحقق.
رحل  صالح علماني بعد أن عاش حياة غنية مفتاحها اللغة الإسبانية، وكان همّه ألا يحرم قارئ العربية من مشاركته هذه المتعة في ذلك العام الساحر؛ وعن ذلك كتب المترجم السوري معاوية عبد المجيد على صفحته بموقع فيسبوك: "علّمنا أنّ الشغف بالترجمة أمرٌ ممكن. علّمنا أنّ احتراف الترجمة ضروريّ رغم كلّ الصعوبات. وأنّ الغزارة والاجتهاد شرطان أساسيّان في هذه المهنة الشاقة. وأنّ اللغة الأدبيّة العربيّة صالحة دوماً للتلقّي والتلاقي. وأنّ سلاسة التركيب ومتانة التعبير هما سرّ النجاح في ترجمة الرواية. علّمنا أنّ الترجمة الأدبيّة هي أقرب إلى الأدب منها إلى الترجمة. وأنّه حتّى لو تكلّم أهلُ الأرض لغةً واحدة، سيكونون في حاجة دائمة إلى مترجم. صالح علماني، وداعاً".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية