العراقيون ثائرون: إبرة واحدة تخيط ثوب العرس والكفن

العراقيون ثائرون: إبرة واحدة تخيط ثوب العرس والكفن


05/12/2019

كان رئيس الوزراء العراقي، المخلوع شعبياً، عادل عبد المهدي، ومعه زمرة السياسيين وحزب المعممين، ممتلئين بتوقع أنّ الإعصار الشعبي العراقي، يمكن بقليل من الوقت والذكاء السياسي أن يتحول إلى زوبعة في فنجان، فأمسك العصا من طرف واحد، وظلّ الشعب العراقي بأجمعه، بسنّته وشيعته، ليس أحسن حالاً ممن يرمِّق العيش على برص.


حاولت زمرة السياسة العراقية الفاشلة أن تعيد إنتاج نفسها عبر إعلانات أخلاقية مباشرة، لكنّ هذه الزمرة نسيت أنّ أرذل أنواع الأوغاد يمكنهم - كما قال غوستاف لوبون - أن يتحلوا بمبادئ أخلاقية صارمة حين يحاولوا أن ينخرطوا في الجمهور، وحاولوا مراراً تشويه العراقيين، وتشويه احتجاجاتهم، كما حاولت إيران أيضاً أن تعبث بصفو الثورة ونقائها، ووصم الثوار الجياع، والغاضبين على بلدهم العراق العظيم، بأنّهم متآمرون ومارقون وسارقون.
لكنهم نسوا أو تناسوا أنّ الشعب الذي امتلأت رئتاه بهواء فاسد، أنتجته آلة الفساد الحكومي طيلة سنوات صعبة ومرّة، وهو يحاول أن ينهض ويقاوم، لا يمكنه أن يسرق وهو يحتج على السارقين، أو يخون وهو ينتفض ضد الخونة، أو أن يكون لصاً وهو يقاوم اللصوص، ولن يكون وغداً وهو قد رأى الأوغاد يصادرون حاضره ويقامرون بمستقبله.

الجوع كافر حقاً، يستطيع أن يكفر بالسياسة والسياسيين، ويكفر بأصحاب العمائم، ويطاردهم في شوارع النجف وكربلاء وبغداد

يعرف العراقيون المثقفون بالفطرة، أنّ الجمهور الثائر في الثورة الفرنسية الثانية عام 1848، حين اقتحم قصر التويلري وأسس الحكم الدستوري والجمهورية الثانية، لم يسرق أي تحفة ثمينة من تحفه، وكانت واحدة منها كافية لإطعامه أياماً عدة، ولم يخن ولم يتآمر؛ فالشعب حين ينتفض لكرامته وقوت يومه وطعام أطفاله ومستقبل أبنائه، لا يمكن أن يسطو أو يسرق، القياس بالفرنسيين ليس ترفاً؛ لأنّ الشعوب واحدة في رفضها للظلم والجوع وهدر الكرامة.
كاد العراق أن يسقط فريسة في أيدي التجار وسماسرة الدم، أو أنّه سقط فعلاً وتحديداً لما قبل هذه الثورة الحادة التي عرفت من أين تبدأ طريقها. والسياسيون والحكوميون الذين راهنوا على الثورة وعدم قدرة الثوار على الصمود لوقت أطول، باعتبار أنّ الوقت أقوى المحاربين ضد الناس العاديين، أخطأوا بلا شك، ويخطئون أكثر إذا ضلوا على قناعتهم أنّهم يستطيعون بأسنانهم الحادة أن "يقضموا كل شيء، حتى أرجل الناس الذين يمشون في الشوارع غاضبين".

اقرأ أيضاً: هل يسمّي قاسم سليماني رئيسَ الوزراء العراقي الجديد؟
"الطفران غلب السلطان"، تلك حكاية مستمرة للتاريخ وللشعوب المظلومة وللناس المغلوبين على أمرهم؛ فالجوع كافر حقاً، يستطيع أن يكفر بكل شيء، كأن يكفر مثلاً بالسياسة والسياسيين ورموز الدولة الحكوميين، وأن يكفر بأصحاب العمائم، ويطاردهم في شوارع النجف وكربلاء وبغداد، وأن يكفر بالطوائف والطائفية والطائفيين والعنصريين.
قدّم العراق درساً مهماً وقاسياً، ليس للعراقيين وحدهم، بل لكل الشعوب التي تعيش الفقر والحرمان وغياب العدالة والطائفية البغيضة، وسياسات الفشل، والنخب الملوثة بفقدان المروءة، درساً بليغاً أنّ الشعب الذي احتمل كل ذلك وصبر على أمل وألم، يمكنه أن يحتج ويغضب وينتصر، فإنّ "إبرة واحدة فقط تخيط ثوب العرس والكفن".

اقرأ أيضاً: نصر الله ومشروع العراق الحلوب
"الحكومات، كل الحكومات تقريباً، بطبيعتها ليس لها ضمير، وأحياناً يكون لها سياسة"، هكذا يقول ألبير كامو في كتابه "الإنسان المتمرد"، لكن أن تكون بلا ضمير وبلا سياسة سوى سياسة التجويع والتركيع والتخويف، فهذا ما لم يقله أو يعترف به لا عادل عبد المهدي ولا إياد علاوي ولا سواهما، وبالمناسبة، يقول إياد علاوي إنه سُجن مع عادل عبد المهدي قُبيل انقلاب عام 1963، بسبب أنّهما كانا يتزعمان مظاهرة في جامعة بغداد، وفي يوم الانقلاب خرجا من السجن معاً على ظهر دبابة، هذا ما قاله في أحد الحوارات معه، الموضوع لا يُراد منه التأويل، فقط هي حادثة تُذكر، في سياق الحديث عما فعله هؤلاء بالعراق منذ أن خرجا من السجن على ظهر دبابة.

نسيت الزمرة السياسية الفاسدة أنّ الشعب الذي امتلأت رئتاه بهواء فاسد، أنتجته آلة الفساد الحكومي وهو يحاول أن ينهض ويقاوم

حادثة أخرى - على سبيل المثال - فعادل عبد المهدي والده هو الوزير عبد المهدي المنتفكي، كان وزيراً للمعارف في حكومة جعفر العسكري عام  1926، وفي عهده حدثت أولى الفتن الطائفية في العراق وهي قضية "أنيس النصولي" المدرس السوري المعار إلى العراق، وصاحب كتاب "الدولة الأموية في الشام"، الذي أثار الضجة الطائفية الأولى، والتي لم تُحلّ إلا بتدخل الملك فيصل الأول، فقد اعتبر وجهاء الشِّيعة أنّ الكتاب ضد الطائفة الشِّيعة؛ لأنه يمتدح دولة بني أمية، أما إياد علاوي، فاعترف بأنّه تعاون مع أكثر من أربعة عشر من أجهزة الاستخبارات الدولية لتحقيق أهدافه السياسية، وهو أول رئيس وزراء في عام 2004، والتي جاءت بعد حكم الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر.


هذا ما يذكره الباحث العراقي علاء اللامي، متسائلاً أيضاً: "هل هي المصادفة التي جعلت عادل عبد المهدي وأحمد الجلبي وإياد علاوي كنعان مكية، التي جعلت هؤلاء جميعاً يتخرجون من كلية بغداد  (Baghdad College، تختصر إلى BC)  التي تأسست عام 1931م على يد الآباء اليسوعيين الأمريكيين، وأُغلقت بعد أن اتُهمت من قبل الحكومة العراقية بأنّها وكر للتجسس سنة 1972"، ذلك أيضاً حديث آخر؛ فالعراقيون لم يثوروا على هؤلاء إلا لأنهم يعرفونهم جيداً، تاريخاً وحاضراً.
هؤلاء الذين ولغوا في الصحن العراقي النظيف حتى سمّموه بلعابهم، الذين نصبوا أنفسهم سلاطين العراق الجدد، هؤلاء هم الذين يغلبهم الطفران اليوم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية