ما الفرق بين احتجاجات الإيرانيين الحالية وسابقاتها؟ وما النتائج المحتملة؟

ما الفرق بين احتجاجات الإيرانيين الحالية وسابقاتها؟ وما النتائج المحتملة؟


كاتب ومترجم جزائري
05/12/2019

ترجمة: مدني قصري


بعد أن حلّل الباحث المشارك بجامعة لييج، ميشيل ماكينسكي، في الجزء الأول من الحوار، الأسباب المباشرة والأكثر عمقاً لاحتجاجات إيران الجارية منذ 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وردود الفعل من جانب السلطة، يعود في هذا الجزء إلى المتظاهرين وعددهم وأصولهم الجغرافية.

اقرأ أيضاً: قراءة عميقة في أسباب احتجاجات الإيرانيين الحالية
ويستحضر ماكينسكي، وهو مسؤول قانوني سابق في مجموعة دولية، ورئيس تنفيذي لشركة Ageromys International، في هذا الحوار مع موقع Les clés du Moyen-Orient، أحداث عامي 1999 و2009 ويوضح مدى اختلاف الحركات الحالية تماماً، من حيث تأثيرها على فئات متواضعة يائسة تتدهور ظروفها المعيشية إلى مستوى لا يطاق.

هنا نص الحوار:

كم عدد المتظاهرين، حسب تقديرات السلطة؟ حسب المنظمات غير الحكومية؟ ما هي المدن التي تتأثر بهذا الشغب؟
ذكرت Iranhumanrights.org في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أنّ الاحتجاجات بدأت في 15 الشهر الماضي، في أكبر 50 مدينة في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك قزوين وتبريز وأوروميا، وسافه. وذكرت وكالة فارس في 18 الشهر نفسه أنّ حوالي 87000 شخص، وفقاً لأجهزة الاستخبارات، شاركوا حتى ذلك الحين في المظاهرات. وهي تدعي أنّ عصابات من مثيري الشغب المدرّبين هي المسؤولة عن أعمال العنف. وذكرت فارس 1000 حالة اعتقال. وذكرت نفس المصادر مجموعات من 50 إلى 1500 شخص تجمّعوا في 100 مدينة. زُعم أنّ معظم الأضرار حدثت في محافظات خوزستان وطهران وفارس وكرمان. ووفقاً لوكالة فارس فإنّ مستوى العنف والتدهور، أعلى من مستوى عنف شتاء 2017/2018. وأبلغ مسؤولو حفظ النظام، من جانبهم، عن تجمّعات في مشهد وسيرجان وخوزستان (على الرغم من وجود النفط، فهي منطقة فقيرة)، بما في ذلك الأهواز. وتؤكد مصادر أخرى (حقوق الإنسان في إيران) أنّ اضطرابات كثيرة قد اندلعت بالفعل في مناطق كثيرة. وذكر شاهد علوي (إيران واير)، أصفهان، ودزفول، وعميدية.


في شيراز، يوم السبت، 16 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تسبّبت وفاة الشاب مهدي نيكوي في حدوث ردود فعل عنيفة. في خرمشهر، وفقاً لنفس المصادر، تصاعدت الاضطرابات وقتل شخصان، أحدهما شاب، على أيدي الشرطة. وكذلك الأمر في بهبهان التي شهدت 3 ضحايا.

اقرأ أيضاً: الإيرانيون كسروا "حاجز الخوف" بمظاهراتهم
محافظة كردستان الإيرانية هي أيضاً مضطربة للغاية، خاصة في سنندج، عاصمتها، وكذلك جافانرود في محافظة كرمانشاه، وماريفان، وفقاً لهينغاو، المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان. كما تستشهد منظمة العفو الدولية، في تعدادها الذي بلغ 106 ضحايا، بالمواقع التالية: الأهواز، عبادان، بندر، مشهر وضواحيها  وهبهان، وبوكان، وبومهان، وأصفهان، وإسلامشر، وجافانرود، زكاراج، وكذلك كرمانشهر، وخورامشهر، وماريوان، وراهمورمز، ورباط كريم، وصدرة، وساننجاي، وشهريار، وشيراز، وسرجان، وطهران.

احتلت الشعارات ضد رجال الدين الذين يهيمنون على البلاد والداعية إلى سقوطهم حيّزاً مرئيًا في المسيرات

وقد ذكر راديو فاردا أيضاً الأحياء الفقيرة في مالارد، وشهر القدس Shahr Qods ، وشاردانجه قايل حسن خان وإسلام شهر في جنوب غرب طهران. يعكس هذا التوزيع التقسيم الكلاسيكي للحاضرة الكبرى. ومما لا يثير الدهشة، أنّ الأحياء "الميسورة" في الشمال لم تتحرك أو لم تتحرك كثيراً، كما في شتاء 2017/2018.
ليس من المستغرب، كما تلاحظ إيران واير  Iranwire، أنّ وكالات الأنباء الإيرانية لا تُنتج نفس أصداء أعمال الشغب التي وقعت في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) الكاضي. يلاحظ شاهد علوي أنّ البعض قاموا بالإبلاغ ولكن ليس بنفس الطريقة التي أبلغ بها الأفراد على الشبكات الاجتماعية. وقد أمرت الوكالات الحكومية بعدم ذكرها. لقد ذكرت وكالة ايرنا IRNA الاضطرابات في سرجان دون ذكر الضحايا. لكن بعد أربعة أيام من المظاهرات، اعترفت وسائل الإعلام المرتبطة بالنظام بوجود اعتقالات واسعة النطاق: في بعض المدن الكبرى، تم إجراء المئات من الاعتقالات، بما في ذلك أكثر من 60 في يزد. وقد أشار المتحدث باسم القضاء إلى أنّه قد تم اعتقال 100 من "قادة المظاهرات".

هل الحركة الحالية جزء من الحركة الطلابية لعام 1999 و"الموجة الخضراء" لعام 2009؟
من الواضح أنّ هذه الحلقة الجديدة لا علاقة لها بالحركة الطلابية لعام 1999، أو بأعمال الشغب والقمع الدموي الذي أعقب الاحتجاجات الهائلة للانتخابات الرئاسية لعام 2009، والتي سمح التلاعب فيها بالنصر الاحتيالي لفائدة أحمدي نجاد. لا تتشابه التركيبة الاجتماعية للمتظاهرين في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 لا مع مطالب الحركات الطلابية لعام 1999 ولا مع رفض المصادرة المدبرة من قبل المرشد وحراس الثورة لانتصار مرشح إصلاحي في 2009.

اقرأ أيضاً: ما سر دعم إيران لحركتي حماس والجهاد؟
نحن أمام وجود انفجار شعبي عبّأ فئات يائسة متواضعة تدهورت ظروفها المعيشية إلى مستوى لا يطاق. إن سكان المناطق الفقيرة في البلاد، والأحياء الفقيرة فيه، هم الذين خرجوا إلى الشوارع. لقد وصلوا إلى القشة التي قصمت ظهر البعير من خلال الإعلان عن زيادة في الوقود والغاز التي ستخنقهم بشكل لا يطاق، مما يهدد وسائط تنقلهم نحو عملهم دون حل بديل، ومع الزيادات الأخرى التي ستدمّرهم. لقد غضب هؤلاء الناس المتواضعون من هذه التدابير التكنوقراطية.


على النقيض من ذلك، من الواضح أنّه في مدينة ضخمة مثل طهران، لم تشارك الطبقة البرجوازية في هذه المظاهرات الاحتجاجية، حتى وإن تأثرت ظروفها المعيشية بعواقب العقوبات، في المظاهرات الجارية. هؤلاء الأثرياء يخشون، مثل قادة البلاد، الاضطرابات والعنف التي قد تنجر عنها عواقب وخيمة. باختصار، هذه الطبقة الثرية لا تشعر بأنّها تتأثر بشكل حيوي بالشعارات والمطالب، حتى لو كانت فكرياً تفهم مضمون بعض هذه الشعارات. وصحيح  أيضاً أنّ الطلاب قد تحركوا قليلاً، خاصة في جامعة طهران وأصفهان وشيراز، لكنهم لا يمثلون الجزء الأكبر من المتظاهرين. يمكننا الاعتقاد أنّهم انضموا إلى المواكب المتظاهرة؛ لأنّهم لم يعودوا قادرين، مثل الآخرين، على تلبية احتياجاتهم الأساسية.

اقرأ أيضاً: المصالحة السعودية الإيرانية.. هل هو سيناريو واقعي؟
لسنا إذن أمام مطلب ديمقراطي ذي أولوية كما كان الحال في عامي 1999 و 2009. إنّه ضرورة اقتصادية ملحّة من أجل العيش والبقاء. لا يطالب المتظاهرون أوّلاً بحرية التعبير، وبالإصلاحات للمجتمع المدني، وبمكانة أفضل للنساء. إنّهم يريدون أن يكونوا قادرين على دفع تكاليف النقل والغذاء والمأوى والأدوية. الإيرانيون غاضبون؛ لأنّهم يرون أنّ الأموال تُستخدم لأغراض أخرى لا تهمّهم: التدخلات في سوريا والعراق واليمن ودعم حزب الله ومجموعات أخرى ومساعدة حماس إلخ.

اعتمادات مالية لمساجد مهجورة
المتظاهرون يشعرون بالسخط بسبب الإعانات والاعتمادات المالية المقدمة للهياكل الدينية التي يرون وكأنها طفيليات (إيران بلد غالباً ما تكون مساجدها مهجورة خارج المهرجانات الكبرى) ولرجال الدين الذين لا يطيقون إملاءاتهم. إنهم لا يفهمون لماذا يتم تمويل العديد من الهياكل (المؤسسات، منظمات الحرس الثوري) بشكل غير متناسب والتي لا تدفع ضرائب، أو تدفع قليلاً. إنّهم لا يطيقون قضايا الفساد التي يظل مرتكبوها دون عقاب؛ لأنّهم محميون من شخصيات بارزة في النظام. أخيراً، هناك ظاهرة كلاسيكية، وهم السكان البسطاء، خاصة في المقاطعات، الذين يقوضهم الشعور بتخلي السلطة المركزية غير المبالية بأوضاعهم، عنهم، إلا عندما يتعلق الأمر بقمع تعبير سخط الساخطين.

لم تشارك الطبقة البرجوازية في مدينة ضخمة مثل طهران في هذه الاحتجاجات حتى وإن تأثرت ظروفها المعيشية بالعقوبات

إذا كان هؤلاء الساخطون ينتقدون الأمريكيين، فسخطهم لا يكون إلا فيما يتعلق بالعقوبات التي يرونها غير عادلة، والتي هم أول ضحاياها، في حين محظوظو النظام لا يتأثرون بعواقب العقوبات؛ بل ويستفيدون منها. إنهم يأخذون على الدولة سياستها الخارجية المتمثلة في التحدي والتي تؤدي إلى خنق البلد، وبشكل خاص أكثرها فقراً: فهذا الاحتجاج يسير في خط موجة أحداث شتاء 2017/2018 التي ترتبط بها بالعديد من أوجه التشابه وبعض الاختلافات النادرة. وفقاً لمريم سيناي (راديو فاردا)، يمكننا أيضاً مقارنة التطورات الأخيرة بأعمال الشغب في الأحياء الفقيرة في مشهد عام 1992 وإسلامهار، وهي من ضواحي طهران، في عام 1995 عندما أدت إصلاحات الرئيس رفسنجاني إلى زيادة التضخم إلى 50 في المائة.
وفي أحداث 2017/2018؟
كما في كانون الأول (ديسمبر) 2017، فإنّ "الأخبار السيئة" هي التي أشعلت أحداث العنف (2017، ارتفاع أسعار البيض، 2019 زيادة في سعر الوقود والغاز). في كلتا الحالتين، ضخّم اللومُ والانتقادات التي ذكرناها للتو، حجمَ السخط. وبالمثل، فإنّ التعبئة موجودة بشكل أساسي عند المجموعات السكانية المتواضعة، حتى لو اعتبر بعضُ المحللين أنّ تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 قد جمع فئات على نطاق أوسع قليلاً. إنّ إلقاء القبض على العديد من النشطاء النقابيين، بما في ذلك سبيده قليان Sepidehh Qolian، قد يوحي بذلك، لكن ليس لدينا ما يكفي من العناصر لتقدير حجم ذلك. لقد ازداد التدهور السريع للاقتصاد منذ فصل الشتاء السابق. إنّ شدة العقوبات (الحد الأقصى من الضغط) منذ الانسحاب الأمريكي، وانهيار الريال، والتضخم الذي يتصاعد بشكل كبير، كل هذا ينذر بالخطر (حوالي 40 ٪ ، ويصل إلى 70 ٪ مع بعض السلع)، أضرت أكثر بالمحرومين ( ارتفاع النسبة المئوية للأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر) ولكنها تُوسّع أيضاً عدد السكان المعنيين.


لذلك ليس من المستغرب أن ينعكس هذا في علم اجتماع المتظاهرين. فكما كان الحال في 2017/2018، فإنّ امتيازات المؤسسات وبعض الهياكل التي ذكرناها للتو أعلاه، تعتبر في نظر الشعب غير محتملة. ولا يُستثنَى المرشد من ذلك. وكما أشار علي فتح الله نجاد في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) في مذكرة من معهد بروكينجز، فإنّ الادعاءات والشكاوى التي رافقت احتجاجات الشتاء السابق لا تزال قائمة.

اقرأ أيضاً: عُمان والكويت والإمارات تتحدث عن "فرصة" دبلوماسية مع إيران.. ما سياقها؟
الأحداث الأخيرة لا تُظهِر أعراضاً عن وجود تنسيق واضح من أي جهة. باختصار، فكما في المشهد السابق، لا يوجد "قائد جوقة" لا في الداخل أو في الخارج، ولا حتى "مؤامرة أجنبية". لا تزال الطبيعة التلقائية للحركات نقطة مشتركة (يمكننا مع ذلك أن نتساءل عن الأعمال العنيفة النادرة من جانب المتظاهرين الذين لم يتضح أصلهم بعد: يائسون، ساخطون أو عملاء محرضون من المحافظين المتطرفين و / أو المصالح الموازية؟). ذكرت مريم سيناء أنّ المحتجين والمعارضين تحدوا الرواية الرسمية للمسؤولية عن أعمال العنف. إنّهم ينسبونها إلى عملاء الحرس الثوري وعملاء "مصالح" في زي مدني.


وفقاّ لها (أي مريم سيناء)، فهم يذكّرون أنّ حراس الثورة مثل الباسيج يمارسون بانتظام "مناورات حضرية" في المدن الكبيرة للتحضير لتحييد وإبطال مفعول المظاهرات. من جانبنا، لا يمكننا أن نحسم هذه القضية. لقد وجدنا أيضاً في الفترة الأخيرة امتناع الإصلاحيين و"المعتدلين" (أتباع روحاني) الذين لم يوافقوا على المطالب الاقتصادية وكانوا، هذه المرة، أكثر تردداً في الانضمام إلى الإجراءات التي تميزت بتجاوزات عنيفة.

اقرأ أيضاً: النظام الإيراني يواجه أخطر أزمة في تاريخه
كما في عام 2017، لم تقتصر الشعارات على المطالبة بظروف معيشية أفضل. لقد وسّع المتظاهرون موضوعات شعاراتهم لتشمل مؤسسات ورؤساء النظام. لم تنجح الثورة في القضاء على الفقر، ومرة أخرى بدأ الشعب هذه المرة يفضح رؤوس النظام دون تمييز، معتدلين كانوا أو "متشددين". إنّه ينتقد روحاني، ولكن خامنئي أيضاً، ولا يتردد في حرق صور الرئيس كمرشد، ويصفه أحياناً كطاغية. سمعنا مرة أخرى: "عار على الطغاة" و"عدُوّنا موجود هنا، وليس في الولايات المتحدة" و"مباركة روح الشاه". هذه الشعارات والأعمال، اليوم كما كان الأمر من قبل، تشكل تحدياً للنظام، وليست مجرد امتداد للسخط الاجتماعي.


تجدر الإشارة إلى أنّ استحضار الشاه لا يعكس حركة جماهيرية تدعو إلى عودة الملكية، على عكس بعض الأوهام على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، ولكن حركة تطالب بنهايةٍ شيطانية مطلقة. في الواقع، هاجم غاضبون ساخطون ما يقرب من 9 مقرات دينية ومكاتب صلاة الجمعة في جميع أنحاء البلاد. لقد احتلت الشعارات ضد رجال الدين الذين يهيمنون على البلاد والداعية إلى سقوطهم ("يجب أن يذهب رجال الدين إلى الجحيم")، كما من قبل، حيّزاً مرئيًا في المسيرات. يعتقد بعض المحللين أنّ هذه الهجمات تستهدف بالدرجة الأولى رجال الدين وليس الدين. لا تزال الاستمرارية موجودة في تحدي الالتزامات الإقليمية لإيران: أريد أن أعيش من أجل بلدي وليس لغزة، والمال للبلاد ليس للحرب، إلخ. الأجنبي لا يهم الشعب الذي يريد أن يُهتمّ به.

الإيرانيون غاضبون لأنهم يرون أنّ الأموال تُستخدم لأغراض أخرى لا تهمّهم كالتدخلات بسوريا والعراق واليمن ودعم حزب الله

مقارنة بموجات 2017/2018، يمكننا أن نسجل بعض الاختلافات. لم تكن نقطة الانطلاق مكاناً رمزياً ثابتاً مثل مشهد؛ حيث بدا أنّ إحدى مبادرات المتشددين بدأت لكي تتحدى روحاني في البداية، قبل أن تفلت من مروجيها تماماً.
ثانياً، في عام 2019، استعادت السلطات سريعاً سيطرتها على الموقف؛ حيث أعاق إغلاق الإنترنت التعبئة بشكل كبير. لكن على العكس من ذلك، وفقاً لعلي فتح الله نجاد، فقد ارتفع عدد المتظاهرين الذين قدرتهم الدولة بـ 42000 (وفقاً لوزارة الداخلية) إلى 87000 (وفقاً لجهاز الاستخبارات). هذا المحلل يلاحظ زيادة هائلة للمتظاهرين في شوارع طهران.
لقد ظهر اختلاف آخر ملحوظ: القمع الذي صار أكثر عنفاً؛ فالسلطات تريد أن تخنق هذه الحركة مباشرة قبل أن تتنامى وتعظم. لكن بشكل متماثل، وفقاً لنفس الخبير، أظهر المتظاهرون تصميماً متساوياً؛ حيث واجهوا دون خوف ودون تراجع قوات الشرطة، معبّرين عن غضبهم بشكل أكبر وأعمق بكثير. كانت حملة القمع معقدة بسبب تشتت المتظاهرين. لم يترددوا كثيراً في حرق صور المرشد، لكنهم هاجموا تمثال الإمام الخميني الأيقوني. كما هاجموا بعزم مكاتب الشرطة والباسيجي، ومكاتب أئمة المساجد، والبنوك.

لم تمنع هذه الأعمال القمعية الأكثر عنفاً، حسب المصادر نفسها، أنّ المظاهرات في مجملها كانت سلمية، حتى عندما كانت قوات الأمن تُفرِّقها بقسوة غير عادية. يبقى أنّ هذه الحلقة تترك قلقاً واضحاً حتى في داخل صفوف الجيش، حيث يدرك الموظفون فيه الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها أقاربهم. أخيراً، يبدو أنّ جهات فاعلة جديدة قد ظهرت في هذا المشهد. إضراب البازار، الذي بدأ في ظروف لا تزال غير واضحة، حيث لوحظت اضطرابات كثيرة، وهي ظاهرة يجب رصدها.

ماذا يمكن أن تكون العواقب نتيجة لهذه الحركات؟
سيث جونز Seth Jones ودانيكا نيولي Danika Newlee، وهما مؤلفان (CSIS) لدراسة مقارنة حديثة للاحتجاجات في إيران، لا يؤمنان عموماً بسيناريو انهيار النظام؛ لأن هذه الحركات لا مركزية للغاية، ومصالح الأمن المسؤولة عن القمع قوية جداً. لكنهما يشيران إلى أنّ الإدامة الخطيرة للمظالم تفرض على السلطات العامة أن تأخذها في الاعتبار بسرعة.
يبقى في رأينا، أنّ عوامل داخلية وعوامل خارجية خاصة تضيف عدم يقين إلى أي سيناريو: تطور الأزمة العراقية حيث أصبح الحِملُ الإيراني المهيمن محل خلاف أكثر فأكثر، وبداية محتملة للحوار لتخفيف التوتر مع العربية السعودية.

اقرأ أيضاً: هل تقرر انتفاضة العراق مصير النفوذ الإيراني بالمنطقة؟

لا يمكن للمرء التكهن بإمكانيات التفاوض الناجح بين طهران وترامب في ظل ظروف غامضة لكلا الجانبين، لكن لا شيء مستبعد. إنّ الانسحاب التدريجي لإيران من الاتفاق النووي هو السؤال الذي يطرح نفسه داخلياً (يدفع المتطرفون والباسدران في هذا الاتجاه) وخارجياً على السواء. إنّ مخرجاً كاملاً قد يُعقّد بشكل خطير علاقات إيران مع بقية العالم. إنّ أيّ تحسن محتمل لأي حوار مالي مشروط باعتماد البرلمان الإيراني لقوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما في ذلك الانضمام إلى اتفاقية باليرمو، التي طلبتها فرقة العمل المالية لشهر شباط (فبراير) 2020 ، والتي يعارضها المتشددون وحراس الثورة. الباسدران، على وجه الخصوص، يرفضون التخلي عن دعم حزب الله.
الأمر متروك للمرشد لكي يتخذ القرار ويحسم الأمور. هناك حالة عدم يقين رئيسية أخرى: الانتخابات التشريعية القادمة المقرر إجراؤها في الربع الأول من عام 2020. فالأغلبية الحالية، كتلة المحافظين البراغماتيين التابعة لعلي لاريجاني، ومعتدلي روحاني، والإصلاحيون الضعفاء والمنقسمون، متصدعة للغاية لصالح المحافظين الأكثر تشدداً. لا نعرف ما إذا كان علي لاريجاني سيمثل نفسه، في حين يحاول المرشدون، والباسدران، ومتشدّدو النظام، تهميشَ وإقصاء جميع عائلة لاريجاني، بمن فيهم صادق لاريجاني، الرئيس السابق لهيئة القضاء، المتهم بالفساد. كل ذلك في سياق خلَفِ المرشد حيث يمثل الريسي، رئيس السلطة القضائية، الشخصَ المفضل عند خامنئي، دون أن يكون محصناً أمام المنافسين.


في هذه الفترة من عدم اليقين المتعدد، فمن المفارقات أنّه لا يمكن أن نوصي الشركات، مع الحذر الواجب واحترام العقوبات، بالحفاظ على العلاقات مع شركائهم في سياق معقد للغاية. إنّ ندرة اليورو في إيران تزن بثقلها الكامل. بالنسبة للمجموعات المصدرة التي تنتمي إلى القطاعات غير الخاضعة للعقوبات (المنتجات الزراعية، المواد الغذائية الزراعية، الأدوية)، من الضروري مراقبة التنفيذ التدريجي لأداة اينستكس Instex (1) الأوروبية. هذه الأداة لا تستبعد استخدام آليات أخرى غير مصرفية (مثل المقاصة أو إعادة شراء الذمم المدينة، إلخ) التي يعمل عليها مختلف الخبراء. بالنسبة للشركات التي تمتنع عن أي صفقة مع إيران، يُنصح بتطوير علاقات غير رسمية غير تعاقدية (في القطاعات المعفاة)، مثل زيارات الوفود والدورات التدريبية المجانية، إلخ.

اقرأ أيضاً: إيران، العراق، لبنان... المسألة الشيعية
الهدف من ذلك هو الحفاظ على علاقة مستمرة مع المحاورين الإيرانيين حتى يكونوا قادرين على استعادة التعاون والمعاملات في وقت لاحق في المستقبل، وإذا تم تطبيع الوضع على المدى المتوسط، وفي حالة رفع العقوبات. هذه مجرد فرضية، لكن من غير المرجح أن تختفي إيران كدولة صناعية حتى على الرغم من الهزات غير المريحة. لا يمكن قول الشيء نفسه عن جميع دول شبه الجزيرة العربية. ليس من العبث الرهان على مستقبل أمة تمتلك ثاني احتياطي الغاز العالمي.
 


الهوامش:
(1) اينستكس   INSTEXآلية دعم التبادل التجاري : Instrument in Support of Trade Exchanges، هي آلية مالية خاصة (SPV) أسستها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في 31 كانون الثامي (يناير) 2019 لتسهيل التبادل التجاري مع إيران بعملة غير الدولار. يقع مقر الشركة في باريس، فرنسا، ويرأسها المصرفي الألماني بير فيشر المدير السابق لكومرتس بنك، بين عامي 2003 و 2014. في أيار (مايو) 2019، اقتصر استخدام آلية دعم التبادل التجاري على السلع الإنسانية؛ مثل شراء الأغذية أو الأدوية المحظورة..
في 11 شباط (فبراير) 2019، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف أنّ بلاده ستسعى للمشاركة الكاملة في الآلية المشتركة لتسوية الحسابات المالية مع إيران، اينستكس.


مصدر الترجمة عن الفرنسية: lesclesdumoyenorient.com



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية