في ذكرى البوعزيزي: كأنك يا "سيدي بوزيد" ما غزيت!

تونس

في ذكرى البوعزيزي: كأنك يا "سيدي بوزيد" ما غزيت!


16/12/2019

قالت (لا) في وجه من قالوا (نعم)، وأنهت نظاماً استبدّ لثلاثة وعشرين عاماً، ثمّ صدّرت ثورتها إلى باقي دول العالم العربي؛ سيدي بوزيد، أو كما يطلق عليها "مركز الثورات العربية" التي كانت خارج التاريخ والجغرافيا، وخرجت من الصفر، لكنّها لم تبتعد عنه كثيراً، حتّى إنّها ما تزال ترزح تحت الفقر والتهميش ذاته الذي ثارت ضدّه، ولم يزهر ربيعها بعد.

اقرأ أيضاً: تكتلات جديدة في البرلمان التونسي لمواجهة حركة النهضة

بعد 9 سنوات من الثورة مطالب سيدي بوزيد مازالت نفسها
عامٌ آخر يمرّ، لتحيي محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب العاصمة تونس) الذكرى التاسعة للثورة التونسية، وسط كثيرٍ من مشاعر الغضب والإحباط حيال تدهور الأوضاع، الاجتماعية والاقتصادية، التي تطغى على أهالي مدينة محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه قهراً، في 17 كانون الأوّل (ديسمبر) عام 2010، احتجاجاً على مصادرة عربته التي كان يبيع عليها الخضار، وهي الواقعة التي أدّت إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ واسعة، انتهت بإطاحة نظام الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، في 14 كانون الثاني (يناير) 2011.

عبد الوهاب الجلالي: ما يُمارس في حقّ سيدي بوزيد التي منحت البلاد الحريّة والكرامة فضيحة ونوع من نكران الجميل

ولا يبدو أنّ الأعوام التسعة التي مرّت كانت كافيةً لتغيير وجهة المدينة، التي ثارت في وجه نظام التهميش، الذي أحكم قبضته على حكم تونس لـ 23 عاماً، ولا منوالها التنموي، أو حتى حركة الاقتصاد فيها، إذ ما تزال منشآتها الحيوية، التي تعدّ على الأصابع، كما كانت، وما يزال العاطلون عن العمل يحتجّون ويرفعون الشعارات ذاتها التي رفعوها في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010.
وعلى خلاف محافظات تونس الثلاث والعشرين، تحيي محافظة سيدي بوزيد كلّ 17 كانون الأول (ديسمبر) ذكرى الثورة، وتدخل وحدها في عطلةٍ رسمية، تعلّق خلالها الدروس، وتُغلق المؤسسات الحكومية والمتاجر والفضاءات العامة؛ في وقت تحيي فيه باقي المحافظات ذكرى الثورة يوم 14 كانون الثاني (يناير)، تزامناً مع تاريخ هروب الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، من تونس.

قطار التنمية متوقّف

ولم تكن الوعود الكبيرة التي تلقاها أهالي سيدي بوزيد، وساقتها الأحزاب السياسية أثناء حملاتها الانتخابية على امتداد عقدٍ من الزمن، في تحريك مؤشّرات التنمية، وتغيير الأوضاع إلى الأحسن، سوى مسكّناتٍ وقتية، استخدمها الطامحون للمناصب السياسية، في الوصول إلى أهدافهم الشخصية على حساب مصالح كبرى تهم قضايا التنمية، وتغيير واقع الجهة، وفق ما أكده عبد الوهاب الجلالي، رئيس "جمعية 17 ديسمبر" الناشطة بالمحافظة.
ويشير الجلالي في حديثه لـ "حفريات" إلى أنّ جميع المطالب التي رفعها المتظاهرون خلال أحداث الثورة، لم يتحقق منها شيء، لافتاً إلى أنّ شباب "الحراك الديسمبري"، لم يجنوا سوى الخيبة واليأس، وأنّ جزءاً منهم غرقوا في البحار عند محاولتهم الهجرة من البلاد خلسةً، فيما مات الجزء الآخر على يد الإرهابيين.

لزهر الغربي: الأعوام التسعة التي مرّت عمّقت الفوارق الاجتماعية بين محافظات البلاد وفاقمت مشاعر الغبن لدى سكانها

الجلالي كشف أنّ الحكومات التي تعاقبت على الحكم، منذ 2011 حتّى اليوم، قدّمت وعوداً كبيرةً لأهالي الجهة، منها إحداث كلية طبّ، تمّت برمجتها في قانون موازنة 2012، إلى جانب إحداث مستشفى جامعي، تمت أيضاً برمجته عام 2012، فضلاً عن التسريع في إحداث سوق إنتاج كبرى بالوسط يكون مقرّه سيدي بوزيد، ومشروعٍ تجاري يستوعب أكثر من 6000 عاملٍ، لكنّها ظلّت حبراً على ورق، وانتهت بانتهاء المصالح.
ولفت رئيس "جمعية 17 ديسمبر"، إلى أنّ رؤساء الحكومات المتتالية قرّروا، للمرّة الرابعة منذ عام 2011، آخرها في 2019، أن يتم بعث مجلسٍ أعلى للجماعات المحلية، وأن يكون في سيدي بوزيد، وهو وعدٌ آخر كاذب، واصفاً ما يُمارس في حقّ الجهة التي منحت البلاد الحريّة والكرامة بـ "الفضيحة" والنكران للجميل.

وتشير إحصائيات حديثة لمركز الدراسات الإحصائية صلب الاتحاد العام التونسي للشغل؛ إلى أنّ "40% من سكان الجهة يعيشون على خطّ الفقر، مع انعدام المرافق الأساسية، كالماء الصالح للشراب، وتردي البنية التحتية الضرورية.

اقرأ أيضاً: تونس: من يوقف الانتهاكات ضد النساء في "عاصمة المرأة العربية"؟

ولم تعرف محافظة سيدي بوزيد مشاريع تنموية كبيرة بعد الثورة باستثناء إنشاء مصنعٍ وحيدٍ للحليب، نجح في تشغيل حوالي 300 عاملٍ، رغم الوعود التي قطعها عدد من المسؤولين بجلب مستثمرين وإحداث مركبات صناعية، ليبقى اقتصاد سيدي بوزيد قائماً على الزراعة، التي تعد من أكثر القطاعات المشغلة في المنطقة.
يأتي ذلك في وقت يرى فيه كثير من السياسيين في تونس وعبر العالم؛ أنّ ثورة تونس استطاعت العبور على الصعيد السياسي، وتعدّ الأنجح بين ثورات الربيع العربي.
عربة البوعزيزي رمز الثورة التونسية تتوسط الشارع الرئيسي لسيدي بوزيد

اقتصاد متعثّر واحتقان متواصل
هذا ويجمع خبراء الاقتصاد في تونس على أنّ الوضع الاقتصادي في بلدهم، الذي تميّز بانهيار قيمة الدينار أمام العملات الصعبة، وارتفاع نسبة التضخم وغلاء المعيشة، ما يزال صعباً للغاية، بل معقداً، رغم بعض علامات الاستقرار على مستوى التضخم وسعر الصرف وعجز الميزانية.
ومنذ اندلاع الثورة لم تحقق البلاد نمواً اقتصادياً قويّاً؛ إذ لم يتجاوز في أحسن أحواله هذا العام 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبةٌ ضعيفة بكل المقاييس، لا تمكّن من تحقيق التنمية، ولا امتصاص جزء من البطالة العالية، أو الحدّ من الفوارق الاجتماعية، وفق ما قاله عضو اتحاد الشغالين بسيدي بوزيد لزهر الغربي.

حياة عمامي: سيدي بوزيد باتت أكثر سوءاً مع استمرار خروقات حقوق الإنسان، والاعتقالات التعسفية، إلى جانب المحاكمات السياسية

ولفت الغربي، في تصريحه لـ "حفريات"، إلى أنّ الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، والذي يُسيّر بالآلية نفسها والرؤية القديمة ذاتها، غير قادرٍ على إيجاد حلولٍ للإشكاليات الصعبة، في ظلّ غياب خطّةٍ إستراتيجيةٍ جديدةٍ تقطع مع الفقر والتهميش، مشدّداً على أنّ الأعوام التسعة التي مرّت عمّقت الفوارق الاجتماعية بين محافظات البلاد، وأنّ المناطق التونسية الداخلية باتت تعيش غبناً أكبر من الأعوام التي سبقت الثورة.
عضو اتحاد الشغالين بسيدي بوزيد أقرّ كذلك بأنّ منظمته تسجّل شهرياً تحرّكاتٍ احتجاجيةٍ منها المطالبة بالتشغيل، وأخرى بالماء الصالح للشرب والنقل، وتهيئة الطرقات، وأنّ البلد يعيش سنوياً على وقع حالات الانتحار حرقاً، تنديداً بالأوضاع الاجتماعية السيئة، كما حصل خلال شهر تشرين الثاني (أكتوبر) بسيدي بوزيد.

وكان ممثل البنك العالمي القار بتونس، توني فارهايجن، قد أكد أنّ البنك منح 15 ألف مليار منذ الثورة، وأنّ حجم التمويلات التي وضعها البنك على ذمة البلاد منذ عام 2011 فاقت ما يسند عادةً إلى بلدٍ في حجمها من الناحية الاقتصادية، وشدّد بداية كانون الأوّل (ديسمبر) الحالي، على أنّ الحكومة التونسية عاجزة عن إنجاز المشاريع الممولة من البنك العالمي رغم توفر الأموال، وأنّ البنك "يجد نفسه اليوم أمام وضعية فشلٍ تقريباً".
التشغيل ما يزال الجرح النازف
وتظل معضلة البطالة أحد أبرز مظاهر الهشاشة الاجتماعية في المنطقة؛ إذ تشير آخر الإحصائيات إلى أنّ 80% من أصحاب الشهادات العلمية في المحافظة لا يشتغلون، وأنّ نسبة العاطلين عن العمل في تونس إجمالاً، تقارب 18%، أي قرابة 800 ألف شخصٍ بحسب الأرقام الرسمية للمعهد التونسي للإحصاء.
كما تؤكد آخر إحصائيةٍ رسمية، من خلال التعداد العام للسكان والسكني للعام 2014؛ أنّ نسبة البطالة بسيدي بوزيد تصل إلى 17.7 بالمائة، ولئن كان مطلب التشغيل أحد أبرز المحاور المحرّكة للاحتجاج الاجتماعي في سيدي بوزيد، منذ 2010، فإنّ السياسات العامة لم تتجه نحو إيجاد حلول هيكلية لهذه الظاهرة، أو على الأقل محاولة الحدّ منها.

اقرأ أيضاً: إخفاق جديد لحركة النهضة في البرلمان التونسي

وفي الوقت الذي لم يلعب فيه القطاع الخاص دوراً كبيراً في خلق فرص التشغيل والتنمية، لا سيما في الجهات المحرومة، تم غلق الباب أمام الانتداب في الوظائف الحكومية، لارتفاع كتلة الأجور الجاثمة على جزءٍ كبيرٍ من موازنة الدولة المرتكزة على الاقتراض.
وفي هذا السياق؛ تشير عضو الاتحاد الجهوي للمعطلين عن العمل بسيدي بوزيد، حياة عمامي، إلى أنّ "المحافظة التي ثارت ضدّ التهميش، لم تجنِ بعد سوى المزيد من الفقر والرداءة على مستوى معدّلات البطالة، بعد أن كانت في حدود 13%، قبل عام 2010، وعلى مستوى الصحّة التي ما انفكّت تتراجع بتراجع أطباء الاختصاص، وأيضاً على مستوى تطوّر المشاريع التنموية، التي كان من الممكن أن تساهم في القضاء على بطالة الشباب الغاضب".

اقرأ أيضاً: تونس: هل قطع راشد الغنّوشي الأغصان التي كان يقف عليها؟
حياة عمامي أكدت لـ "حفريات"؛ أنّ الوضع بات أكثر سوءاً باستمرار مظاهر اختراق حقوق الإنسان والاعتقالات التعسفية، إلى جانب المحاكمات السياسية، التي حاربوا نظام بن علي بهدف القضاء عليها.
من جانبه، أفاد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في تقرير شهري يرصد فيه التحركات الاجتماعية في تونس؛ بأنّ وتيرة الاحتجاجات تصاعدت خلال شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، بنسبة ناهزت 20 بالمئة، مقارنةً بحصيلة الشهر نفسه من العام الماضي، وأنّ خريطة الحراك الاحتجاجي لم تتغير، وما تزال محافظة القيروان في مقدّمة الولايات الأكثر غضباً، تليها سيدي بوزيد، والقصرين (محافظات الوسط التونسي).
ورغم هذه المناخات، فقد أنجزت تونس، بعد سقوط النظام السابق، أول انتخابات تأسيسيةٍ نزيهة، انبثق عنها دستور 2014 الذي يكرس الحقوق والحريات، فضلاً عن مبدأ التداول السلمي على السلطة، إلى جانب إجراء أوّل انتخاباتٍ بلدية يعلق عليها التونسيون آمالهم لتحسين شؤونهم المحلية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية