هل نحن على موعد مع مد أيديولوجي غير مسبوق في أوروبا؟

هل نحن على موعد مع مد أيديولوجي غير مسبوق في أوروبا؟


17/12/2019

"في حال أجريت الانتخابات التشريعية غداً فإنّ الفائز الأول سيكون اليمين المتطرف"، هكذا علّق المراقبون في بلجيكا في أعقاب نشر نتائج استطلاع للرأي أجري في البلاد في الفترة ما بين 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي و9 كانون الأول (ديسمبر) الجاري. فقد منحت تلك النتائج حزب "المصلحة الفلامانية" اليميني المتطرف المرتبة الأولى في نوايا التصويت، بنسبة تفوق 27 في المائة، بفارق كبير عن الحزب الرئيسي في البلاد وهو "التحالف الفلاماني الجديد"، الذي حصل فقط على نسبة 22 في المائة في نوايا التصويت.

وأظهرت تلك النتائج المفاجئة أنّ اليمين المتطرف في بلجيكا صار أكثر حضوراً في المشهد السياسي ويعزز نفوذه بشكل تدريجي منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أجريت في شهر أيار (مايو) الماضي، وحصل فيها الحزب على 13 في المائة من أصوات الناخبين، بحيث ارتفع عدد المقاعد التي عادت إليه داخل البرلمان من 15 إلى 18 مقعداً.

اليمين المتطرف في بلجيكا صار أكثر حضوراً في المشهد السياسي ويعزز نفوذه بشكل تدريجي منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة

وتعني نتائج الاستطلاع المشار إليها أنّ حزب "المصلحة الفلامانية" تقدم بما يزيد على عشر نقاط خلال بضعة أشهر فقط، وهو مؤشر له دلالته المنذرة بالتحولات السلبية المرتقبة.

ويتميز البرنامج السياسي لهذا الحزب بموقفه السلبي من المهاجرين بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، وكراهية الأجانب الذين يعتبر وجودهم في بلجيكا خطراً على الهوية القومية والدينية للبلاد، كما يهدف إلى تقسيم البلاد عبر فصل قسمها الشمالي عن قسمها الجنوبي الناطق باللغة الفرنسية، وبالطبع يشكك في مشروع الاتحاد الأوروبي، مثله مثل سائر الأحزاب اليمينية في القارة الأوروبية.

اقرأ أيضاً: هل صعود اليمين المتطرف مرتبط حقاً بتنامي تيار الإرهاب؟

بيد أنّ بلجيكا، التي هي قلب الاتحاد الأوروبي وعاصمته، ليست سوى نموذج صغير لما يمكن أن يحصل في بلدان أوروبية أخرى خلال السنوات القليلة القادمة. فمن إسبانيا إلى النمسا مروراً بهولندا هناك شعور قوي بأنّ أوروبا على موعد مع "باراديغم" سياسي وإيديولوجي جديد غير مسبوق، إذا استثنينا فترة الثلاثينيات إلى السبعينيات من القرن الماضي في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا مع النازية والفاشية. ولعلّه من باب السخرية أو الطرافة أنّ تسمية "القارة العجوز" قد تنطبق على المشروع الليبرالي الذي ربما بلغ من العمر عتياً وآن الأوان للانقلاب عليه من الداخل، بعد أن أصبح عاجزاً وغير قادر على تغذية يوتوبيا التغيير لدى جيل الشباب الجديد.

من إسبانيا إلى النمسا مروراً بهولندا هناك شعور قوي بأنّ أوروبا على موعد مع "باراديغم" سياسي وإيديولوجي جديد غير مسبوق

هذا التصاعد الحاصل في المشهد السياسي الأوروبي، والذي يميل ناحية اليمين أكثر رويداً رويداً، لاحت مؤشراته بشكل كارثي في شهر أيار (مايو) الماضي، بمناسبة الانتخابات الأوروبية. فقد أظهرت النتائج الرسمية لانتخابات البرلمان الأوروبي أنّ الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة في البلدان الثمانية والعشرين المشكلة للاتحاد حققت نتائج مهمة غير مسبوقة على حساب الوسط واليسار، وتصدر النتائج اليمين المتطرف ممثلاً في التجمع الوطني بفرنسا وحزب الرابطة بإيطاليا بوجه خاص. وكان أمراً مثيراً للجميع أن تعطي الانتخابات داخل الاتحاد الأوروبي ـ الذي أنشئ للدفاع عن الوحدة الأوروبية ـ نتائج متقدمة لأحزاب يمينية لا تؤمن بالوحدة الأوروبية بل تشكك في المشروع الأوروبي برمّته.

اقرأ أيضاً: هل يختلف اليمينيون عن الإسلامويين؟ وما علاقة التطرف بـ "الجوع الديني"؟

غير أنّ صعود اليمين المتطرف في بعض البلدان الأوروبية التي شهدت في فترات ماضية بروز هذه الظاهرة يطرح تساؤلات محيرة، ذلك أنّه من المفارقات الكبرى والمثيرة أنّنا نجد هذا اليمين المتطرف الجديد يتنامى في بلدان لديها سوابق كارثية مع التطرف السياسي والإيديولوجي، مثلما هو الحال مع ألمانيا مثلاً التي كانت ضحية النازية الهتلرية، أو إسبانيا التي عانت طويلاً مع سياسات الجنرال فرانكو على مدى عقود طويلة (1939-1975) قبل أن تهب رياح الديمقراطية في النصف الثاني من السبعينيات.

وقد يكون مرد هذا الأمر من ناحية أنّ الجيل الذي يقود هذه الحركات المتطرفة هو جيل جديد لم يعش تلك المرحلة الساخنة والمتوترة في الحياة السياسية الداخلية في أوروبا، ولم يكتوِ بنيرانها ولم يؤدِّ ثمنها كما أداه الأجداد والآباء، ومن ناحية ثانية أنّ هذا الجيل نفسه ولد في مرحلة التراجع في المشروع الليبرالي وأزمة الحداثة الغربية.

اقرأ أيضاً: مخاوف في ألمانيا من اختراق اليمين المتشدد لأجهزة الاستخبارات قبيل الانتخابات

وبإطلالة عجلى على رموز وزعامات هذه التيارات السياسية الجديدة، التي تجمع بينها كراهية الآخر والتمرد على الليبرالية والانقلاب على الديمقراطية، سوف نجد أنّهم جميعهم من جيل السبعينيات، وهي بداية الكساد السياسي في أوروبا بعد عقود من الرخاء، وذلك أمثال زعيم حزب "فوكس" الإسباني سانتياغو أباسكال البالغ من العمر 43 عاماً، والذي ولد في مدينة بلباو في إقليم الباسك الشهير بصراعه العنيف مع الدولة المركزية في مدريد منذ الستينيات والرغبة في تحقيق استقلاله السياسي؛ أو تييري بودي، زعيم منتدى "من أجل الديمقراطية" الهولندي، البالغ من العمر 36 عاماً، أو تينو تشوبايا، زعيم حزب "البديل من أجل ألمانيا"، البالغ من العمر 44 عاماً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية