ياسين الحاج صالح: سوريا اليوم تحت خمسة احتلالات

ياسين الحاج صالح: سوريا اليوم تحت خمسة احتلالات


17/12/2019

أجرى الحوار: سامر مختار


لا يمكن اليوم الحديث عن الكتّاب السوريين المنخرطين في الكتابة بالشأن العام السوري، منذ انطلاقة الثورة السورية مطلع عام 2011، الذين ارتبطت أسماؤهم ومصائرهم الشخصية، وممن نظروا لها على مدار الأعوام التسعة الماضية، إلا ويحضر مباشرة في أذهاننا الكاتب السوري ياسين الحاج الصالح (مواليد 1961).
قضى ياسين الحاج الصالح 16 عاماً في السجن؛ إذ جرى اعتقاله عندما كان عمره 19 عاماً (1980) على خلفية انضمامه للحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، وانتمائه لتيار اليسار الديمقراطي في سوريا آنذاك، ففي 9 كانون الأول (ديسمبر)؛ اختطفت الناشطة السورية، سميرة الخليل، زوجة ياسين الحاج صالح، مع ثلاثة ناشطين حقوقيين؛ رزان زيتونة، ووائل حمادة، وناظم حمادي، أثناء إقامتهم في حيّ دوما بريف دمشق، عندما كانت ميليشيات "جيش الإسلام" تسيطر على المنطقة، ولا معلومات مؤكدة عن مكان وجودهم إلى الآن.

يعيش ياسين الحاج صالح اليوم في ألمانيا، وما يزال يكتب عن سوريا وأفقها وتحولاتها ومآلاتها.
هنا نصّ الحوار الذي أجراه موقع "حفريات" مع ياسين الحاج صالح:

 من أبرز الكتّاب اليساريين السوريين

اقرأ أيضاً: التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا ليس الوحيد لكنه الأخطر

لاحظتُ في مقالاتك الطويلة التي كتبتها مؤخراً في موقع "الجمهورية. نت" مثل مقال "ما هي الثورة السورية؟" وقبله "الأبد، الطوائف كأوابد، والإبادة"، و"الانقلاب المديد: تحولات سورية طويلة الأمد"، على سبيل المثال لا الحصر؛ أنّ هناك نوعاً من التأريخ للمرحلة التي تمرّ فيها سوريا، كما ذكرت في أكثر من مناسبة أنّ الثورة السورية قد انتهت وتحولت إلى "القضية السورية"؛ فهل ترى أنّه بات من الضروري اليوم التأريخ، والنظر أبعد من اللحظة الراهنة؟

لست مؤرّخاً، ولا أزعم أنّ ما أعمل عليه هو تأريخ، وباعتقادي؛ التأريخ لحدثٍ كبير كالثورة السورية يحتاج إلى جيل أو أكثر اليوم، لا نستطيع أن نؤرخ للحدث بينما هو يجري أمام أعيننا، لكن ربما نستطيع أن نوفر تحليلات وشهادات وأفكاراً وتغطيات، هي بمجموعها محاولة لتمثيل التجربة الجارحة جداً لعدد كبير من الناس.
من جهتي؛ أمثلها بأدوات الكاتب، الكلمات والمعاني، ويمثلها غيري بأدواتهم، من ألوان ونغمات وصور وأداء وغير ذلك.
إذاً هو ليس تأريخاً، إنما محاولة تمثيل، اشتباك مع من يتحدى التمثيل في تجاربنا الرهيبة في الأعوام التسعة التي مضت.

هذا التحدي هو في الوقت نفسه دافع فيما يخصني، يعطيني حافزاً لمواصلة تطوير الأدوات ومحاولة وضع قصتنا نحن السوريين في سياقات أوسع في عالم اليوم.
ما يجري في سوريا لم يأتِ من وراء ظهر العالم؛ بل جرى تحت أنظار وأسماع العالم كلّه، ومنطقة الشرق الأوسط هي بكلّ الأحوال المنطقة الأشدّ تدويلاً، أي المنطقة الأشدّ عالميةً؛ فهي في قلب العالم جغرافياً، وتتكاثف فيها مصالح متعددة، وسوريا تقدّم المثال على ذلك، سوريا فيها اليوم خمسة احتلالات مثلما قلت في مقالة "الانقلاب المديد: تحولات سورية طويلة الأمد"، وهذه الاحتلالات الخمسة ليست متعادية فيما بينها، ولا يوجد حرب بينهم، إسرائيل تضرب الإيرانيين بين وقت وآخر، لكن يبدو أنّ مشكلتها هي السلوك الإيراني، وليس الوجود الإيراني في سوريا، وهو ما يذكّر بما كان يقوله الأمريكيون بخصوص النظام السوري، وما يقولونه اليوم بخصوص إيران نفسها.
إذاً العالم عندنا تقريباً، وفي الوقت نفسه؛ نحن تناثرنا في العالم، في كلّ مكان، ومن ناحية أخرى، توجد في المنطقة دولة زائدة ودولة ناقصة: الدولة الزائدة هي إسرائيل، والدولة الناقصة هي كردستان أو دولة كردية، وسوريا هي البلد الوحيد الذي شكّل مساحة تقاطع بين الدولة الناقصة والدولة الزائدة، البلدان التي يوجد فيها أكراد ليست مجاورة لإسرائيل، والبلدان الأخرى المجاورة لإسرائيل لا يوجد فيها أكراد، مثل مصر والأردن ولبنان.

اقرأ أيضاً: الأطفال في إيران وسوريا وقود لأيديولوجيا الحرس الثوري

وقبل ذلك، بلدنا يضجّ بتعدّده الأهلي وفرض عليه طوال نصف قرن نظام واحدي مفرط، جعل من قتل السياسة الشكل الوحيد للوحدة الوطنية، فإذا عمل السوريون على الانبعاث سياسياً أو العودة إلى الحياة سياسياً، جرى قتلهم بالألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف. 

أحاول أن أُظهر الأوجه المختلفة لهذا الوضع المعقد، أنا كاتب، وصدف أنني معايش لجيلَين في الصراع السوري؛ أيام حافظ الأسد وأيام ابنه، وأنا كنت في السجن، وانخرطت في الثورة السورية من البداية، وأنت تعرف باقي القصص الأخرى، مثل قضية اختطاف زوجتي الناشطة سميرة خليل، وأخي فراس، وأصدقائي، وعيشي لاجئاً في بلدين إلى اليوم، ومثلما سوريا هي نقطة تقاطع لصراعات متعددة، أجد نفسي في نقطة تقاطع لقصص متعددة، ويصادف أيضاً أنّني من الرقة، ومن تل أبيض، التي كانت واحدة من المناطق البائسة والمهملة في سوريا، مستعمرة داخلية بالفعل، وسكّانها محتقرون، بينما هي اليوم أحد مسارح التاريخ؛ فيها الأتراك، والحرب الأهلية التركية منقولة لهذه المنطقة، ويوجد فيها الأمريكيون بشكل من الأشكال، وروسيا وتابعها الأسدي.
ككاتب يعيش التجربة، وكناجٍ من أسوأ وجوهها، خلافاً لكثيرين من أحبابي وأصدقائي، أحاول تمثيل هذا الوضع، عندما يأتي مؤرّخون بعد جيل أو جيلين أو أكثر، أرجو أن يجدوا أشياء قد تفيد قليلاً.

 

هل أحد الدوافع لهذا التمثيل هو مرتبط أيضاً بكتاباتك السابقة التي تناولت فيها صورة المثقف؟ وتحديداً كتابك "الثقافة كسياسة" تحدثت فيه عن المثقف السوري في فترة الخمسينيات والستينيات، والذي كان دوره أكثر طوباوية، مترفعاً عن الانغماس بالسياسة والقضايا اليومية وبعيداً نوعاً ما عن الشأن العام، إضافة إلى التقاطعات التي تحدثت عنها؛ تقاطع الشخصي بالعام، هذا يذكرنا كثيراً بثنائية الخلاص الفردي والخلاص الجمعي، الثورة كخلاص جمعي، وعزلة المثقف وابتعاده عن الكتابة والانشغال بالشأن العام ربما تكون، في جانب من جوانبها، خلاصاً فردياً؟

أنت تعلم أنّني أنحدر من خلفية شيوعية، وكنت عضواً في تنظيم شيوعي معارض للنظام، ومما أحمله من البيئة الشيوعية، فيما وراء اختلافاتها وتنازع تنظيماتها، شعور بالالتزام بالقضايا العامة، مفهوم المثقف الملتزم لم يتولد في إطار شيوعي، لكن جان بول سارتر، عندما طوَّرَ المفهوم في الستينيات، كان شديد القرب سياسياً من الماركسية ومن الحزب الشيوعي الفرنسي.

اقرأ أيضاً: "حفريات" توثّق عمليات مصادرة ممتلكات الأكراد في سوريا وسرقة أعضائهم في أنقرة

أنا أنحدر من هذا التراث، لا أصف نفسي منذ زمن طويل كشيوعي، ولا حتى كماركسيّ، لكني على ولاء مقيم لهذا التراث: كاتب منخرط بالصراع السياسي والاجتماعي والفكري في عصره ولا ينأى عنه، تفكيري وعملي مرتبطان جداً بهذه الصراعات منذ صادف أن دخلت السجن في مطلع الشباب، فكأنّ ما حدث قطعَ عليّ أيّ طريق للرجعة أو للذهاب في اتجاهات أو نحو خيارات أخرى، خياري كان الخيار التقليدي للمثقف ذي المنابت اليسارية، لكن عملي يكاد يقتصر على الكتابة، أساساً أنا كاتب، قد أقوم ببعض الأشياء الأخرى، لكن إذا سألتني: كيف أُعرّف نفسي؟ أقول: أنا كاتب سوري، ومعتقل سابق، وزوج لمختطفة وأخ لمختطف وصديق لمختطفين ومغيبين منذ أعوام، وهذا التعريف يحكي القصة كلّها تقريباً، فيه تلتقي اضطرارات قاسية مع اختيارات حرة بقدر ما، لتصنع مصيراً شخصياً أتقبله بمزيج من التسليم والغضب، الربط بين الكتابة والسياسة والقضايا العامة ربطاً نهائياً لا ينعكس ولا حياد عنه هو هذا المصير. لا أتذمر، لكنّني لست سعيداً بهذا المصير: أحياناً المرء يحبّ أن يعمل على تجارب مختلفة قليلاً، وأن يكون خالي البال للعمل على أشياء أقلّ انخراطاً في الصراع، وأقلّ تورطاً انفعالياً ونفسياً وذهنياً، لكن فات الوقت على هذا الشيء، ولن أحزن وأتحسّر على فواته.

 

 

لا مجال للخلاص الفردي أو للانعزال أو لفنّ الحياة الشخصية؛ لأنّه لم يعد هناك شيء شخصي، وقد عبّرت عن هذا الشيء بأكثر من مناسبة؛ بأنّ "الشخصي سياسي والسياسي شخصي"، وهذا أحد الشعارات الأساسية للنسوية المعاصرة، وينطبق عليّ تماماً، فإذا أنا تركت السياسة وأدرت لها ظهري، فهي لن تدير لي ظهرها، وخصوصاً بعد خطف وتغييب زوجتي سميرة الخليل، وبصورة أعم؛ لم يعد هناك ما هو شخصي في شروطنا السورية المعلومة، الثورة سيّست الجميع، والمآسي التي طالت كثيرين هي مآس سياسية، السياسة مصيرنا، ووعي المصير أول ما يلزم لتقريره.

اقرأ أيضاً: قطر تضع مبررات لتأييدها العدوان التركي على سوريا

أما فيما يخصّ المثقفين؛ فأنا من جيل آثر أساتذته الانخراط عن بُعد في الصراع السياسي أو لم ينخرطوا أبداً، هذا رغم أنّهم من جيل المثقف الملتزم والنضال التقدمي القومي والوطني والاشتراكي، عندي نوع من الخيبة الشخصية في جيل أساتذتنا صراحةً، وأتمنى ألّا أسمع شيئاً مشابهاً من الشباب الذين من عمرك وأصغر منك قليلاً، يحكوه عني وعن الناس الذين من جيلي، قبل نحو عامين ونصف، ميزت في مقالة بين جيل الأساتذة، وهو مكون بقدر طيب من أكاديميين، درسوا في جامعات غالبيتها كانت جيدة، وسعوا لتحقيق "التقدم" والعقلنة، حضور التجربة الحيّة متواضع في أعمال أساتذتنا، من أمثال: المرحوم صادق جلال العظم، وأدونيس، والمرحوم جورج طرابيشي، وبرهان غليون الذي كان تأثيره بالغاً علي في فترة السجن وأعوام بعدها، وأيضاً عزيز عظمة، كانوا مثقفين مهمين في وقت من الأوقات، وبشكل من الأشكال مهمين اليوم، لكنّ مستوى الانخراط في صراعات بلد شهد طغياناً عاتياً، سال فيه كثير من الدم وتعرض كثيرون من أبنائه للتعذيب والوحشية، كان مؤسفاً.


يخجلني، كسوريّ؛ أنّه لم تكتب مقالة واحدة عن سجن تدمر في الثمانينيات والتسعينيات، أو عن حماه، ناهيك عن كتّاب ممن كانت الكتابة عملهم وتعريفهم، لا أحب بالفعل أن أستخدم كلمات قاسية لكن هذا لا يُشرّف، ويصعب تفادي الشعور بقدر من عدم الاحترام على السكوت على الفظائع، أضع مكانة على مسافة محددة لبرهان غليون، الذي كان أقرب لتناول ما حدث بالثمانينيات والتسعينيات، وإن كان عبّر عن الأمر بلغة عمومية، لا تسمي ولا تفصل.

اقرأ أيضاً: تقرير: طموحات تركيا في سوريا خير دليل على اتباع أردوغان النهج العثماني للتغيير العرقي

هناك جيل لاحق، جيلنا، كانت لديه تجارب مباشرة وحيّة وعنيفة مع الدولة، وحضور للتجربة الخاصة، فأدب السجون كتبه جيلنا بشكل أساسي، ومبني بقدر واسع على التجربة الشخصية، لذلك ما عاد هناك من يكتب عن أدب السجون من غير من خاضوا التجربة؛ لأنّ من كانوا في السجن هم من تولوا المهمة بأنفسهم، وهناك اليوم جيل أصغر، عندهم تجربة كبيرة وتجربة هائلة جداً لعدد كبير منهم، ولعلّهم بحكم العمر مؤهلون لامتلاك وتطوير أدوات التمثيل تتحصل من الكتب، بما في ذلك معرفة شيء عن الثورات وعن تاريخ العنف.
اقرأ أيضاً: "اللاعبون الكبار" في سوريا.. بين سيناريوهات التعاون والاصطدام

نحن السوريين لسنا أول من تعرضوا لهذا العنف الهائل، هناك كثيرون أصابهم ما أصابنا قبلنا، وتجب علينا معرفتهم ومعرفة ما جرى لهم، وأن نضع قصتنا ضمن قصة تاريخ العنف وتاريخ الإبادة والتعذيب والتحطيم لمجتمعات وشعوب متعددة، وباعتقادي هذا واجب اليوم، وجيل الشباب هو المؤهل لعمل هذا الشيء، من هم في عمر الشباب بوضع جيد كي يستطيعوا فعل أشياء أفضل: تعلم اللغات الأجنبية، الدراسة في جامعات جيدة، وهم ليسوا معلبين ضمن أيديولوجية خاصة تحتكر السمع والبصر والفؤاد، والخيال والذاكرة، وهم لذلك مؤهلين لفعل شيء أفضل، وأرجو أن نرى نتائج هذا في الأعوام القادمة.


نعم، فإذا عدنا مرة أخرى لمقالك "الانقلاب المديد" في الفقرة الأخيرة تحديداً، التي وضعت لها عنوان فرعياً "كوّة أمل"، والتي راهنت فيها على حضور اللاجئين السوريين في العالم، هناك رهان ما على أن يفعلوا شيئاً ما أو يحدثوا تأثيراً ما، بما أنّهم انخرطوا في ثقافات مختلفة، بالمقابل هناك "مملكة صمت" جديدة، تشكّلت داخل سوريا بعد تحطيم الثورة السورية؛ هل تتأمل في لحظة ما مصير الأجيال التي يتشكّل وعيها في سوريا اليوم؟ هناك خوف مهيمن في أذهان هذه الأجيال مرتبط بصور بشعة عن التعذيب والاعتقال والإبادة، هذا عدا انشغال الناس في الصعوبات المعيشية؛ كيف ترى فرصة هذه الأجيال في الانخراط بالشأن العام، بشكل مباشر أو غير مباشر؟

بخصوص الشباب والشابات وعموم السوريين داخل البلد، أدرك القسوة الهائلة للظروف، وأن النظام عمل الكثير لإعادة تسوير "مملكة الصمت" بجدار من الخوف، لكن آمل أن تتاح للبعض فرص من أجل تمثيل هذه التجربة وتغطيتها بأشكال مختلفة: كتابة اليوميات، تأريخ للحياة اليومية بأكبر قدر من التفاصيل، التصوير، القصة والرواية والشعر، الكتابة بأسماء مستعارة؛ ننشر في "الجمهورية" مواد تأتينا من الداخل بأسماء غير صريحة، ونحن سعداء بذلك، ونرحب بالمزيد، الأمر مختلف في الخارج؛ لأنّ بعضنا، على الأقل، غير مضطرين لممارسة رقابة ذاتية، وتتاح للأفتى منا فرص تعليمية جيدة، تؤهلهم وتؤهلهن لإحداث تغيّر ثقافي مهم، نحن في حاجة إلى جيل ذهبي، يعمل على ثورة في الثقافة، وأرجو أن يكون الشباب الذين في العشرينيات أو الثلاثينيات من عمرهم هم هذا الجيل، وأن يجدوا بعض المساعدة من الناس الأكبر. لست غافلاً عن الصعوبات، فاللاجئون السوريون في الخارج لا يعيشون في النعيم، ووراء كثيرين منهم تجربة اقتلاع راضّة في كثير من الأحيان، وخسائر متنوعة، فضلاً عن مصاعب وفيرة في بيئات العيش الجديدة، لكن يخيَّل إليَّ أنّ حياة اللجوء مثل حياة السجن، لا يمتنع أن تتاح لنا فيها فرص للتعلم والإبداع، للتحرر وتغيير النفس، ليس بفضل السجن أو اللجوء، لكن رغماً عنهما؛ هذا محقق منذ الآن بقدر ما، وهو ليس شيئاً خاصاً بنا، فقد سبق لغيرنا من شعوب أخرى أن عاشوا تجارب مماثلة وأنتجوا إبداعات عظيمة، تكرّم هذه الإبداعات المآسي الرهيبة لمن سقطوا ومن سحقوا ومن لم تروَ قصصهم ولم ينجوا.

نحن الشهود الناجون الذين من المفترض أن نروي القصة بألف طريقة وطريقة، وفي رأيي؛ إذا استطعنا أن نفعل هذا الشيء نكون قد كرّمنا الثورة المقتولة وكرمنا الضحايا والشهداء والعذابات الأليمة خلال الأعوام التسعة الفائتة، وهذا شيء لا سوابق له في تاريخنا نحن؛ إذ إنّه عندما كان كثيرون في السجن، وكثيرون عذِّبوا وقتلوا في عقود سابقة، لم يتوفر لسوريا أناس يحاولون أن يمثّلوا التجربة في طرق مختلفة، اليوم هناك فرق، وأرجو أن يكون فرقاً كبيراً وحاسماً، لست متأكداً بعد من أنّ الإنجاز سيكون كبيراً، لكن أرجو ذلك، بل أميل للاعتقاد به سلفاً.
أودّ أن أضيف أنّني أرفض خلق استقطاب جديد أو ثنائية جديدة بين داخل وخارج، نحن نحمل سوريا معنا، عندما يكون هناك ستة ملايين وستمئة ألف من الناس هُجِروا خارج البلد، لم تعد هناك شرعية للحديث عن داخل وخارج، هذا غير أنّه بات لسوريا دواخل كثيرة، هناك أربع أو خمس سوريات اليوم، على الأقل، بالمقابل هناك لسوريا خوارج كثيرة، السوريون متناثرون في بلدان متنوعة، صار كثيرون من الخارج داخلاً، وكثيرون من الداخل خارجاً، لذلك صار من الضرورة تجاوز الثنائيات الساكنة المبتذلة التي يبدو أنّ البعض يستثمرون فيها من أجل حيازة أفضلية خاصة، وهو مسلك غير جدير بالاحترام في رأيي، كان من الأفضل مئة مرة لو استطعنا البقاء في بلدنا، قليلون منّا فقط خرجوا من البلد لأنّهم أرادوا الخروج، لم يكن أحد يخطط لذلك؛ أما وأنّنا خرجنا، فيجب علينا أن نحاول أن نعمل أفضل ما يمكن من وضع سيئ، وهو تحدٍّ مماثل لذاك الذي واجهناه من قبل في السجن، لكن في شروط أقل سوءاً.

اقرأ أيضاً: "حفريات" توثّق الانتهاكات التركية في سوريا: اعتقالات عشوائية وتحويل المدارس إلى سجون

قضيتنا اليوم هي الاستجابة المؤثرة لهذا التحدي؛ سوريا اليوم هي، برأيي، القضية السورية، ليست الثورة السورية التي تحطمت من داخلها وخارجها، ولا هي طبعاً "سوريا الأسد"، ولا هي العنوان المجرد لبلد اسمه سوريا، وكأنّها صندوق أسود لا حياة فيه ولا سياسة ولا فكر ولا ثقافة، أحبّ أن أتصور أنّ مدار جهدنا اليوم هو محاولة صنع القضية السورية.

اقرأ أيضاً: العملية التركية في سوريا: هل ارتكب حلفاء تركيا جرائم حرب ضد الأكراد؟

شهد هذا العام منذ بدايته ثورات عديدة؛ ثورة في الجزائر والسودان، ومؤخراً في العراق وفي لبنان، التي وصفت بالموجة الثورية الثانية في المنطقة؛ كيف رأيت ما حدث خلال هذا العام؟ هناك استمرار للثورات في المنطقة، على عكس ما كان متوقع بعد ما حدث في سوريا واليمن وليبيا؛ إذ رأى البعض أنّ ما حدث في هذه البلدان درس لباقي بلدان المنطقة لعدم تكرار هذه التجربة. المفارقة أنّ الشعوب التي شهدت على كلّ هذا الدمار والقمع والتعذيب والتشرد، لم تنعدم لديها الرغبة في إشعال ثورات جديدة؛ كيف رأيت الثورة في لبنان مثلاً باعتبارها بلداً ملاصقاً وقريباً جداً من سوريا؟ كيف تأمّلت هذه الارتباطات بين ما حدث بـين عامَي 2011 و2019؟

أنا متفائل وسعيد بالثورات، أشعر بانتماء طبيعي لها، وأرى فيها تكريماً للثورة السورية ولآلام السوريين، وهناك إبطال للدرس الذي يريد أن يُلقن للشعوب القريبة والبعيدة؛ وهو موضوع إدخال الإبادة كسياسة عادية، أو إدخال المجزرة كمنهج للحكم، بما في ذلك مجازر السلاح الكيماوي، وتحت أنظار وأسماع العالم، وبتقبل دولي.
الصفقة الكيماوية بـ 2013 علامة كبيرة على هذا الطريق، والنظام السوري استخدم الأسلحة الكيماوية مراراً وتكراراً بعدها؛ هل تأدّبت فينا الشعوب؟ لا لم تتأدب خلافاً لما كنا نخشى، ومن الجيد أنهم لم يتأدبوا، وخصوصاً اللبنانيين والعراقيين، البلدين المجاورَين لنا، فمن هذين البلدين هناك أناس ساهموا في قتل السوريين، والثورة فيهما بقدر لا بأس به ضدّ هؤلاء القَتَلة، هناك مساحات التباس ليست هي الأساسية في الثورات، لكنّها في الجوهر موجهة ضدّ التركيبة التي أسهمت في قتل السوريين، أشكّ في أنّ هناك أحداً كان ضدّ الثورة السورية وهو اليوم مع الثورة اللبنانية، وبخصوص ما يجري في العراق؛ أقرّ بأنّ معرفتي أقلّ، لكنّ العدو هناك هو عدونا، هو نفسه الذي أرسل ميليشيات لتقتل السوريين، وكلاء مركز التخطيط الامبراطوري الفرعي أو الإمبريالية الفرعية في طهران، والتي – في رأيي- هي منبع الإلهام الشرير الذي لا يغتفر، إلهام سياسة الوحشية والإبادة التي سحقت سوريا كبلد ومجتمع، هناك مخاطر كثيرة في المستقبل، وتفاؤلنا اليوم لا يعني أنّنا لا نرى مخاطر كثيرة مثل ما جرى من عدة أيام؛ إذ جرى شيء أشبه بالمناورة الحربية من طرف حزب الله الذي يريد حرباً يستثمر فيها أفضليته كميليشيا مسلحة ويخلط الأوراق بصورة تنفعه في لبنان وتنفع دولة الولي الفقيه في طهران، من الأشياء الجيدة التي تحصل اليوم هو أّن حسن نصر الله، بعد الثورة اللبنانية، بات يظهر عارياً أكثر وأكثر، سيطرة عارية لا معنى لها من غير إيران، ولا حياة مادية لها دون إيران، كأنّما الإسلام السياسي والحربي الشيعي يلتحق بنظيره السنّي في الانحدار والعدمية.
اقرأ أيضاً: ما هي عواقب العدوان التركي على سوريا؟

وباعتقادي؛ هذه الموجة الثورية هي نفسها التي أطلق عليها "الربيع العربي"، رغم أنّني لست راضياً كثيراً عن هذه التسمية، الميزة الإيجابية لتسمية "الربيع العربي" أنّها توفر إطاراً مشتركاً، أو مقولة، أو عنواناً موحّداً، لوصف مجمل ما حدث ويحدث خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والعيب فيها اعتبارها نوعاً من الظواهر الطبيعية مثل تعاقب الفصول، مثل حدوث الزلازل، وما إلى ذلك، شيء يغيِّب أهلية الناس وفاعليتهم واختيارهم.
لسنا حيال موجتين، العملية مستمرة بلا توقف تقريباً؛ تنحسر، تتراجع، تتحطم، لكنّها مستمرة، واللاحق يتعلم من السابق ويطبق ما تعلمه، لكن من الممكن القول إنّه ليس لدينا بعد الأدوات الكافية للإحاطة فيها، وعموماً الظواهر الاجتماعية لم تكن من أجل أن يحاط بها بشكل كامل، المعرفة ليست مفصّلة لاستيعاب كلّ شيء، ولا تجاربنا في العالم موجودة كي تُعرف، بكلّ بساطة؛ قد لا تعرف، والموضوع متوقف على الناس وقدراتهم وإمكانياتهم في التفكير والتمثيل ووصف تجاربهم وقدرتهم على ترجمة هذا التجارب إلى أفكار، لكن لديَّ أمل بأن يحدث تقدم على هذا المستوى، وأن تنطلق ألسنة أعداد أكبر من الناس وأقلامهم، وأن تظهر نظريات ومفاهيم حول هذه الثورات، ويتشكّل تقليد ثوري جديد، هذا أهم شيء باعتقادي؛ نحن السوريين وجدنا أنفسنا جزء من هذا التقليد الثوري الذي يتشكل، والذي دفعنا ثمنه الباهظ، وهذا لا يرتب علينا فقط أن ننحاز للثورات في أيّ مكان، وإنما كذلك أن نساهم في التعبير عنها وفي ترجمتها وتمثيلها مثل ما قلت قبل قليل.

اقرأ أيضاً: أردوغان ومشروع الجيب الإخواني شمال سوريا
بعيداً عن فكرة الكتابة بالشأن العام، بالنسبة إلى الكتابة الأبدية، وتحديداً الرواية السورية؛ إذ إنّ هناك آراء مختلفة حول فنّ الرواية بين الكتّاب من السوريين اليوم، على سبيل المثال؛ هناك كتّاب يرون أنّ تناول اللحظة الراهنة روائياً ما يزال مبكراً. سورياً وعربياً اليوم، هناك ميل حتى قبل بداية الثورات العربية لكتابة رواية تعود في التاريخ إلى حقب زمنية مضت؛ كيف ترى المشهد الأدبي السوري عموماً؟

هناك ثلاث نقاط في هذا الشأن؛ الأولى: أنني لست مؤهلاً تأهيلاً كافياً للحديث عن المشهد الأدبي السوري؛ لأنّ متابعتي تشكو من ثغرات كبيرة كوني لم أقرأ الكثير، قرأت بعض الأعمال فحسب.
ثانياً: كُتِبَتْ أعمال في الحقيقة تواكب الحدث، وأثارت اهتماماً متفاوتاً، بعضه لا بأس به أو كبير.
ثالثاً: في اعتقادي لم تكتب رواية الثورة السورية، ولا أعرف إن كانت ستكتب في يوم من الأيام ومتى.
لا أوافق الرأي الذي يقول إنّ الأدب يتأخر، ويجب أن يتأخّر في الكتابة عن الثورات، يمكن لكتابة التاريخ أن تتأخر قليلاً أو كثيراً؛ لأنّنا لا نملك المعلومات عن كثير مما يجري، وقد تتاح هذه المعلومات مع الزمن، وكذلك تهدأ الانفعالات ويتكلم بـ "رواق" من يؤرخ، لكنّ هذا لا يجب أن يكون ذريعة لأن لا نكتب الآن، ونسوغ ذلك بأنّ الكتابة الآن حتماً ستكون مباشرة، لا أجد ذلك وجيهاً، هناك أناس كتبوا أشياء كثيرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكتب بعض الناجين من الهولوكوست والذين كانوا في معتقلات النازية عن تجاربهم بعد وقت قصير، بعض ما كتب عظيم وبعضه ليس كذلك، لكن ليس للأمر علاقة حتمية بالمسافة الزمنية عن الحدث، لا توجد قاعدة في هذا الشأن، من الممكن أن يُشتغل على أدب جيد بتقديري في كلّ وقت، الأمر يتعلق بأدوات الأدباء ويتعلق بمساحة تفاعلهم مع التجربة، وبنوعية المعادِلات التي يتوسلونها في تمثيلها.

اقرأ أيضاً: الحركة السياسية الكردية في سوريا.. ما هي أبرز مراحلها وتحوّلاتها؟
وفي المجال الذي يعمل به أمثالنا، مجال الإنسانيات، أعتقد أيضاً أنّه لم يظهر شيء معادل للثورة السورية، لكنّ هذا لا يمنع أن نعمل بقدر ما نستطيع من كثافة اليوم، نحن أقرب للتجربة، نحن من نحمل رضوض وجروح التجربة ونحن من يشتبك مع تحديها للتمثيل فنخسر ونربح، ليس هناك وجاهة للقول إنّك لا تستطيع أن تكتب أثناء الحدث، أخشى أنّ فكرة "العظمة" ترخي بثقلها على ما يكتب اليوم، فتسحق التجربة وتهرسها هرساً، لو نتحرر من هذه الفكرة أفضل، وبكلّ الأحوال لا أرى أنّ ما يكتب عن أشياء أقدم عظيم. 
أوضح، تجنباً لسوء الفهم؛ أنّ الكلام يجري على أدباء وكتّاب، المسافة جزء من تعريفهم سلفاً، وهم طوروا قدرة على الانفصال عن الحدث أو عدم التماهي به حتى حين يكونون منحازين، ما لا تستقيم الكتابة معه هو التماهي لا الانحياز، الكاتب لا متماهٍ تكوينياً في رأيي.

لا أوافق الرأي الذي يقول إنّ الأدب يتأخر ويجب أن يتأخّر في الكتابة عن الثورات
ماذا تقرأ اليوم؟ ما هي الكتب الموجودة على مكتب عملك حالياً؟  
طوال هذا العام، الذي شارف على نهايته، كنت أستأنف القراءة في مجال الإبادة وما يتصل بها من فكر ونظريات؛ هناك مكتبة هائلة في هذا الشأن، لا مجال إلا لقراءة القليل منها، ومعظم المتاح يتناول "الهولوكوست"، وهذا بما فيه من ضغوط وتوترات. "الهولوكوست"؛ لأنّه قصة أوروبية، وبسبب مستوى التعليم ومستوى الجامعات في أوروبا، وعدد كبير من المثقفين، لأنّ الشعور بالذنب نحو اليهود الأوروبيين عالٍ، القصة مُمَّثلة جداً، وهذا قد يستخدم لأغراض متعددة، لكن برأيي من المفترض أن نكون نحن جزءاً من هذا النقاش، الهولوكوست لنا وليس لإسرائيل، نصيبنا فيه أكثر من نتنياهو وأشباه نتنياهو، ومن المهم باعتقادي أن يتوسع اطلاعنا على هذه القصة الهائلة وعلى السجل ككل، من أجل وضع قصتنا في سياق قصص عالمية كبيرة أخرى.

اقرأ أيضاً: "التايمز": تركيا تستخدم أسلحة محرَّمة ضدّ الأكراد بسوريا
لم يعد مقبولاً، بالنسبة إلينا نحن السوريين، أن نحكي عن قصتنا كما لو كانت سوريا كوكب أو جزيرة منعزلة، لا يصحّ أن نحكي عن السجون والتعذيب والموت الأسدي، دون أن نحكي كيف مات غيرنا وكيف سجن وعُذب غيرنا وما إلى ذلك، نميل نحن السوريين للاعتقاد بأنّ ما حدث لنا خارق ولم يحدث لغيرنا، وهذا غير صحيح، لقد حدث لشعوب غيرنا ذلك وأكثر من ذلك أيضاً، أما الشيء الفظيع في قصتنا؛ فهو أنّه يجري تجديد البيعة للقتلة بما يتراوح بين الحماسة واللامبالاة دولياً، وهذا لم يحدث بعد الهولوكوست؛ فقد أسقط النازيون وجرى نزع النازية، ولم يحدث في كمبوديا بعد عملية الإبادة الجماعية على يد نظام الخمير الحمر (1975 - 1979)؛ فقط أسقط نظامهم ولوحِقوا، ولم يحدث في راوندا (1994) التي أسقط النظام المسؤول عن الإبادة فيها كذلك.

اقرأ أيضاً: هل يدرك النظام العربي الرسمي أنّ سوريا أصبحت قضية دولية؟
التجديد للانتداب الأسدي على سوريا يعني حتماً المزيد من التعذيب والموت والدمار في جولة لاحقة، ويتضمن من كلّ بدّ تمديداً للجريمة وإرجاء للعدالة، وبإشراف دولي عملياً.
هذا من بين ما يجب التركيز عليه في تصوري، وأرجو أن أستطيع في الأعوام المقبلة قول شيء في هذا الشأن، أريد أن أقول للسوريين شيئاً عن العالم، وللعالم شيئاً عن سوريا والسوريين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية