الدين والدولة في آسيا.. البوذية كأداة سياسية

الدين والدولة في آسيا.. البوذية كأداة سياسية

الدين والدولة في آسيا.. البوذية كأداة سياسية


26/03/2024

ترجمة: علي نوار


يمتد تاريخ الديانة البوذية في قارة آسيا لما يزيد عن ألفين وخمسمئة عام، إلّا أنّ علاقتها بالسياسة في الدول التي تنتشر فيها هذه الديانة تختلف كثيراً من بلد إلى آخر. فبينما يهيمن البوذيون في دول مثل ميانمار على المشهد السياسي، يغيبون تماماً بالكاد عن الساحة في دول أخرى على غرار اليابان وسنغافورة. كما تُستعمل البوذية كأداة سياسية في بلدان أخرى كالهند والصين من قبل الحكومات. أما في شبه جزيرة الهند الصينية، فقد نجحت الأنظمة الاشتراكية في ترويض الرهبان البوذيين لتقضي بالتالي على أي فرصة للحراك ضدّها.

 

 

تُعدّ البوذية أحد عوامل الجذب التي تتمتّع بها آسيا. وإذا تجوّل المرء بين أرجاء المنطقة الواقعة بين الهند وشبه الجزيرة الكورية وإندونيسيا، فإنّ ناظره سيقع وبصورة يومية على الرهبان الذين يلتفّون بأردية برتقالية أو حمراء تشدّ أعين الأجانب. أمّا بالنسبة للسكّان المحلّيين فالأمر ليس خارجاً عن المألوف على الإطلاق؛ فالديانة البوذية حاضرة في المنطقة منذ ألفي عام على الأقل.
بدأت رحلة هذه الديانة في العام 523 قبل الميلاد، حين وصل الأمير سيدارتا جوتاما إلى الاستنارة بعد قضائه أعواماً من التأمل بشكل منفرد في شمال الهند. ومنذ ذلك الحين، أصبح جوتاما معروفاً بلقب "بوذا" أو المستنير، وكرّس حياته لنقل ما عرفه كطريق لبلوغ المعرفة الحقيقية والتحرّر من المعاناة. ويُطلق على هذا الفكر اسم "دارما" ويمكن تلخيصه في عدد من المبادئ الأساسية التي ينبغي على كل بوذي تطبيقها. وتنصّ هذه المبادئ على أنّ كل وجود يحمل في طيّاته المعاناة، ومصدر المعاناة هو الرغبة والتعلّق والجهل؛ لكن يمكن التغلّب على المعاناة؛ أما طريقة تجاوزها فهي التأمّل والتهذيب.

93% من مواطني تايلاند يعتنقون البوذية لكنّ وضع السانغا مزر بسبب حالات الفساد التي ظهرت حول قيادات الرهبان

انتشرت البوذية سريعاً في جنوب وشرق آسيا، وقد ظهرت نسخ عديدة من هذه الديانة. ومن وقتها اتّسمت عملية تطوّر البوذية ورهبانها "سانغا" بالتباين وبلغت كذلك مستويات مختلفة من التأثير على المجتمعات الحاضرة بها في المنطقة. ورغم ذلك، يمكن اعتبار حقبة الاستعمار نقطة مشتركة في تاريخ البوذية بجميع دول المنطقة. فإذا كانت هذه الديانة قد وصلت لوضع مهيمن بالكثير من المجتمعات الآسيوية حتى القرن الثامن عشر، فإنّ علاقة البوذية بالدولة تغيّرت منذ ذلك الحين في جميع المناطق التي كانت تنتشر بها. وفي وقتنا هذا لا تحظى البوذية بقوّة مؤثّرة في الملفّات السياسية سوى في ميانمار وسريلانكا. وعلى النقيض من ذلك في دول كانت سابقاً حجر الأساس في تشكيل مجتمعاتها مثل كوريا الجنوبية واليابان، وحيث بات الرهبان "سانغا" يلعبون دوراً هامشياً تقريباً.

 

 

ميانمار وسريلانكا وتايلاند: البوذية فوق كل شيء

أدخل الإمبراطور آشوكا، الذي كان يحكم الإمبراطورية الماورية في القرن الثالث قبل الميلاد البوذية إلى ميانمار وسريلانكا وتايلاند. وقد حظيت هذه الديانة في الدول الثلاث بحماية الملوك طيلة قرون، إلّا أنّها تعرّضت للقمع في ميانمار وسريلانكا خلال الحقبة الاستعمارية حين عكفت القوى الأوروبية- وفي مقدّمتها الإمبراطورية البريطانية- على تعزيز التبشير بالمسيحية. لكن اعتباراً من القرن التاسع عشر بدأت تظهر في هذه الدول حركات وطنية مرتبطة للغاية بالبوذية تضيّق الخناق على الأقلّيات المسلمة والمسيحية والهندوسية التي تعيش بأراضيها.

اقرأ أيضاً: بوذيون يتواطؤون مع جيش ميانمار.. في مجازر ضد الروهينغا

أمّا في حالة سريلانكا، فإنّ الأمر راجع بالأساس إلى تعمّد البريطانيين تهميش الأغلبية العرقية في البلاد "السنهاليون" الذين يدين أغلبهم بالبوذية، وفي المقابل منح أقلّية التاميل الهندوسية- الذين ينحدرون من شمال الهند- معاملة تفضيلية. لذا وفور إعلان استقلال البلاد عام 1948، سيطر السنهاليون على مفاصل الحكومة واعتمدوا سياسة الانتقام، وطبّقوا سلسلة من الإجراءات كانت تهدف بالأساس إلى تأكيد وضعيتهم المهيمنة وإقصاء التاميل: فضلًا عن جعل البوذية الديانة الرسمية للدولة. وردّاً على ذلك، بدأ التاميل في تنظيم أنفسهم والمطالبة بالحكم الذاتي بعيداً عن سيطرة الحكومة المركزية، الأمر الذي تسبّب في تصاعد حدّة التوتّر بين العرقين بشكل سريع للغاية. وكانت نتيجة هذا الموقف هو حرب أهلية اندلعت عام 1983 وانتهت عام 2009 حين انتصرت الحكومة على "نمور التاميل" وهي جماعة إرهابية نشرت الفوضى في شمال البلاد حيث يعيش أغلبية الهندوس.

ومنذ ذلك الوقت، عرفت البلاد استقراراً نسبياً من الناحية السياسية، أسهم في عودة التاميل لشغل مقاعد في البرلمان الوطني. بيد أنّ التوتّر العرقي-الديني لا يزال يخيّم على الشوارع، لكن الضحايا هذه المرة هم في العادة من المسلمين. ويعود هذا الأمر لشنّ أتباع تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي "داعش" هجمات أودت بحياة 300 شخص في نيسان (أبريل) من العام 2019، الأمر الذي حلّت عواقبه على عدد من المسلمين الذين تعرّضوا لاعتداءات كوسيلة للردّ من جانب القوميين السنهاليين.

أكد 35% فقط من المواطنين في كوريا الجنوبية إنهم يعتنقون البوذية بينما كشف نصف الكوريين تقريباً أنّهم لا دينيون

وقد جرى شيء مشابه في ميانمار. فقد عملت ممالك عدّة على إسباغ الحماية على البوذية في البلاد طيلة قرون، قبل أن يعمد البريطانيون على إقصاء هذه الديانة بعد احتلالهم للبلاد في العام 1886. وفي القرن التاسع عشر تصاعدت وتيرة مولد منظّمات مثل "اتحاد الشباب البوذيين" التي طالبت بإعادة المحتلّين الاستقلال لبلادهم كي تتمكّن من العودة لجذورها الدينية. وفي أعقاب الاستقلال، الذي حدث عام 1948، كرّرت الحكومات المتعاقبة منح الحماية للبوذية إدراكاً منها بأنّها مكوّن رئيس في بنية المجتمع. إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ كل شيء سار على ما يُرام بالنسبة للرهبان البوذيين. فقد كانت نتيجة الاحتقان السياسي والممارسات السيئة للمجلس العسكري الذي كان يحكم البلاد منذ عام 1962، خروج الـ"سانغا" إلى الشوارع عام 2007 حين قادوا "ثورة الزعفران" ضد الحكومة متحالفين مع زعيمة المعارضة أونج سان سوو كي.

اقرأ أيضاً: هل يواجه مسلمو الروهينغا تطهيراً عرقياً من المتطرفين البوذيين؟

كانت "ثورة الزعفران" دليلاً دامغاً على أنّه لم يعد ثمة وقت أمام المجلس العسكري، لذا بدأت في عام 2015 عملية التحوّل الديمقراطي. ووصل الحزب الذي تتزعّمه أونج سان سوو كي، ذو المرجعية البوذية، إلى السلطة وباتت زعيمة المعارضة رئيسة للحكومة. لكن الأعوام الأخيرة شهدت نشوء منظّمات بوذية متشدّدة مثل "ما با ثا" التي مارست ضغوطاً عنيفة كي تتمكّن من التحرّك ضد الأقلّيات الدينية في البلاد، لا سيما المسلمين، ودعمت، على سبيل المثال، قانوناً يحظر الزيجات بين أشخاص من ديانات مختلفة.

تواجد البوذية في آسيا

بل أنّ الجيش النظامي للبلاد ارتكب انتهاكات فادحة بحقّ أقلية الروهينغا المسلمة ووجّهت له منظّمة الأمم المتحدة اتهامات بشنّ عملية تطهير عرقي. وكان المجلس العسكري قد حرم قبل عقود هذه العرقية من حقّ الحصول على الجنسية، ومنذ ذلك الحين عانوا ملاحقة مستمرّة أسفرت عن مقتل 10 آلاف ضحية ومليون نازح في الخارج تقريبًا. أما أونج سان سوو كي، التي لم تبد أي نيّة لطرح حلّ كما كان الكثيرون يأملون، فقد رضخت لضغط البوذيين الأكثر تشدّداً، وبالفعل وفي عام 2015، أقصت المسلمين من قوائمها الانتخابية، لتبرّر بذلك ضمنيًا الانتهاكات ضدّهم.

تُعدّ الديانة البوذية أحد عوامل الجذب التي تتمتّع بها آسيا

وفيما يتعلّق بتايلاند، فقد كان للبوذية تأثير عميق بها، رغم أنّ وضعها مثير للجدل مثلما هو الحال في الدول التي سبق استعراض موقفها. فـ93% من مواطني تايلاند يعتنقون البوذية، لكنّ وضع السانغا مزر بسبب حالات الفساد التي ظهرت حول قيادات الرهبان. والواقع أنّ تردّي وضعية هيكل الرهبان في تايلاند يجعل عملية اجتذاب الشباب إلى الدين وتحت إمرتهم غاية في الصعوبة. ورغم عجزها عن تعزيز البوذية بين القواعد العريضة في البلاد، يسعى الرهبان للتأثير في السياسة عن طريق الضغط على الحكومة. وقد طالب السانغا في أكثر من مناسبة تعديل الدستور لجعل البوذية الدين الرسمي في البلاد، بيد أنّهم قوبلوا دوماً برفض زعماء البلاد الذين لا يريدون إحداث مشكلات مع باقي الشرائح المحلّية. لكن الدستور لا يزال ينصّ على أنّ ملك البلاد يجب أن يكون بوذياً، ومنذ 2017 أصبحت الدولة ملزمة بحماية البوذية في مواجهة الأديان والمعتقدات الأخرى القائمة في تايلاند.

اقرأ أيضاً: كيف تنظر الديانات الكبرى إلى التسامح؟

لكن على الرغم من كل شيء، فإنّ تايلاند لا تخلو بدورها من الخلافات بين أبناء الديانات المختلفة: ففي عام 2004 اندلع تمرّد في إقليم يسكنه مواطنون من عرق الملايو- وأغلبهم من المسلمين- الذين نما لديهم شعور بالقومية في مواجهة الهوية التايلاندية البوذية. وراح ضحيّة هذا النزاع ستة آلاف قتيل، ولا تزال نهايته غير واضحة المعالم.

 

 

البوذية في الهند والصين.. أداة سياسية

تتمتّع البوذية في الهند والصين بثقل تاريخي هائل، لكن ذلك لم يحل دون إقدام حكومات البلدين على الفصل بينها وبين المجتمع، وتحويلها لأداة سياسية في خدمة مصالحها.

من المعروف أنّ الهند كانت مهد البوذية حيث ولد بوذا وأدرك التنوير وبشّر به للمرّة الأولى. انتشرت هذه الديانة سريعاً في الأراضي الهندية، لكن بمرور الوقت، اكتسبت أديان أخرى مثل؛ الإسلام والمسيحية والسيخية أرضاً أوسع، بحيث بات 0.7% فقط من الهنود اليوم يمتثلون لتعاليم جوتاما. لكن الإرث التاريخي والثقافي للبوذية لا يزال حاضراً بقوة كبيرة في الهند، التي تضمّ عدّة أماكن مقدّسة بالنسبة للبوذيين، كما أنّها تؤوي الدلاي لاما- الزعيم الروحي للبوذيين منذ فراره من إقليم التبت عام 1959 رفقة مجموعة من أتباعه بعد سلسلة من المواجهات مع الإدارة الصينية.

اقرأ أيضاً: "بن لادن البوذي": تعرف على التطرف المعادي للإسلام في أكثر الديانات شهرة بالسلام

وتدرك الحكومة الهندية جيّداً أنّ الإرث البوذي للبلاد يضعها في موقف مواتٍ لبناء علاقات طيّبة مع دول المنطقة التي يدين سكّانها بالبوذية. لذا فقد ركّز رئيس وزراء الهند نارندرا مودي أثناء زياراته على مدار الأعوام الأخيرة لأماكن مثل سريلانكا والصين، على أنّ البوذية تلعب دوراً كرابطة تجمع هذه الدول من أجل تقديم صورة إيجابية للخارج. لكن ومن وراء الأبواب المغلقة، يتبنّى مودي أجندة هندوسية بالكامل تقريباً؛ حيث ينتهج تياراً فكرياً يدور حول أنّ الهند هي أرض الهندوس، وأنّ أي شخص لا يؤمن بهذه العقيدة ينبغي أن يدرك أفضليتها. حتى أنّ دستور البلاد يؤكّد على هذه الرؤية، نظراً لأنّه يعتبر البوذية فرعاً من الهندوسية وليس ديانة مستقلّة بذاتها بسبب تشاركهما في كثير من الخصائص.

انتشرت البوذية سريعاً في جنوب وشرق آسيا، وقد ظهرت نسخ عديدة من هذه الديانة

ويرتبط الوضع في الصين بنظيره في الهند، لكن ما يعتبره البعض مزية يرى البعض الآخر أنّه يمثّل مشكلة. فقد تسبّبت المواجهات بين الحزب الشيوعي الصيني ورهبان التبت البوذيين خلال حقبة الخمسينيات في لجوء الدلاي لاما وعدد كبير من أتباعه إلى الهند. وهذا الأمر يعزّز فرضية الإرث البوذي، لكنّه يعدّ تهديداً خطيراً بالنسبة للصين؛ حيث يسعى إقليم التبت للحصول على قدر من الحكم الذاتي بعيداً عن هيمنة الإدارة المركزية في بكين، الشيء الذي يثير قدراً من التوتّر.

والدليل على ذلك هو الصراع حول مستقبل البوذية التبتية بين الدلاي لاما والحكومة الصينية التي تحاول الاستئثار بهذا المذهب. ففي 1995 منح الدلاي لاما طفلاً عمره ستة أعوام لقب بانشين لاما- ثاني أرفع منصب في البوذية التبتية والمنوط به تسمية الدلاي لاما الجديد بعد وفاة السابق. وهنا رأت حكومة بكين الفرصة السانحة وبعد شهر من تسميته، اختطفت الصغير وعيّنت آخراً بدلًا منه. ومن ذلك الحين يعمل الحزب الشيوعي الصيني على تأهيل هذا الفتى الجديد بانشين لاما وفقاً لمصالحها بحيث يعيّن دلاي لاما جديد موالِ لها عندما يحين الوقت، وتفريغ بالتالي المعارضة التبتية من زخمها.

 

الاشتراكية والبوذية في لاوس وكمبوديا وفيتنام

كان للأنظمة التي قامت في دول لاوس وكمبوديا وفيتنام خلال النصف الثاني من القرن العشرين تصوّر متشابه للبوذية؛ فقد عمدت البلدان الثلاث للسيطرة على طبقة الرهبان، بصورة أو بأخرى، من أجل ضمان عدم تحوّلهم إلى منظّمة قادرة على تجييش حركة معارضة للإدارة المركزية. ورغم أنّ هذه الحكومات نجحت في مقصدها بشكل عام، لكنّ أيّاً منها لم يسلم من الاحتجاجات التي خرجت ضدها من قبل السانغا في هذه الدول.

اقرأ أيضاً: الديانات السماوية الثلاث تحت سقف واحد

ففي لاوس، وصلت البوذية في القرن الثامن الميلادي وحصلت على حماية من ممالك محلّية عدّة، ويعتنق 70% من سكّانها تقريباً هذه الديانة، رغم أنّ نيّة الحكومة في البداية كانت عكس ذلك. وخلال الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد في الفترة بين 1964 و1973، تقاربت حركة (باتيت لاو) الشيوعية التي كانت تحصل على الدعم من الثوريين في فيتنام، مع السانغا لكسب مزيد من الشعبية وتحريك البوذيين للإطاحة بالنظام الملكي. لكن فور وصول (باتيت لاو) للسلطة عام 1975 فرضت إجراءات تستهدف الحد من تأثير البوذيين في المجتمع، مثل منع تعليم البوذية في المدارس أو إرسال الرهبان إلى معسكرات العمل.

93% من مواطني تايلاند يعتنقون البوذية لكنّ وضع السانغا مزر بسبب حالات الفساد التي ظهرت حول قيادات الرهبان

إلّا أنّ البوذية كانت قد انتشرت بالفعل بين الناس بحيث اصطدمت الحكومة سريعاً بمعارضة قطاع كبير من الشعب. وهو ما أجبرها على التراجع للوراء واتّخاذ موقف جديد حيال الدين: وجرت إعادة تفسير التعاليم البوذية لجعلها أكثر ملاءمة مع الماركسية، بداعي أنّ الأيديولوجيتين تدعوان للمساواة بين الأشخاص وترفضان الملكية الخاصة على سبيل المثال. وبهذه الطريقة ضمنت الحكومة إنهاء دور السانغا في البلاد دون الحاجة للتخلّي عن الأفكار، رغم أنّها لم ترفع الرقابة عن أنشطة الرهبان.

وحدث أمر مماثل في كمبوديا. فهناك وحين تولّى نظام الـ(بول بوت) السلطة بين عامي 1975 و1979، تعرّض السانغا للتنكيل بهم بضراوة، حيث كان الهدف هو محو ماضي البلاد بالكامل. واتّسمت هذه الأعوام بالملاحقة والقتل للرهبان، وكذلك التدمير الممنهج للمعابد البوذية. وبعد انتهاء حقبة (الخمير الحمر) الدكتاتورية لم يكن يتبقّى سوى 100 راهب بوذي تقريباً.

وتحسّن الوضع بعد وصول الحزب الشعبي الكمبودي إلى سدّة الحكم في 1979. وبوصفها حكومة موالية للاشتراكية الفيتنامية بصورة كبيرة، كان التحسّن جزئياً: حيث جرى تشجيع تنظيم رجال الدين من جديد لكن تحت سمع وبصر السلطات. وحين عُيّن هون سين رئيساً للوزراء عام 1989- والذي لا يزال على رأس السلطة- رفع جانباً من القيود التي كانت مفروضة على الرهبان.

التنوع الديني في آسيا والمحيط الهادئ

ولا يزال مجتمع الرهبان في كمبوديا يخضع فعلياً لرقابة الحكومة عن طريق (الأب الأعلى) للبوذية في البلاد تيب فونج وهو حليف وثيق وعضو سابق في الحزب الشعبي. وقد دفعت صرامة فونج عند توقيع العقوبات بحقّ الرهبان الذين يكشفون عن آراء مغايرة لرواية الحكومة، الكثيرين للتحرّك كنشطاء من أجل قضايا اجتماعية، ورفض السياسة وتركيز جهودهم على حماية الغابات والنضال من أجل حقوق سكّان المناطق الريفية، حيث ترتفع فرص نجاحهم.

من المعروف أنّ الهند كانت مهد البوذية حيث ولد بوذا وأدرك التنوير وبشّر به للمرّة الأولى

وتتكرّر القصة في فيتنام. فخلال الحرب (1955-1975)، كان الجنوب تحت سيطرة حكومة نجو دينه ديم الكاثوليكي الذي كان يتطلّع لإعلاء ديانته على حساب البوذية. وجرى تقييد حرية الرهبان، وكان ردّ فعلهم تنظيم احتجاجات للمطالبة بحقوقهم. وتوتّر الموقف لدرجة أنّ الراهب تيتش كوانج دوك أقدم على إشعال النار في نفسه يوم 11 حزيران (يونيو) 1963 في عرض الطريق بمدينة سايجون (هو شي منه الآن)، ليعبّر عن سخط البوذيين تجاه السياسات القمعية للحكومة. وخلال فترة التظاهرات، اعُتقل ألف و400 راهب بينما اختفى آخرون.

لم يكن الوضع أفضل حالًا بكثير تحت النظام الشيوعي الذي تولّى حكم البلاد بعد إعادة توحيدها في 1975. لم تكن الحكومة تنظر بعين الرضا لوجود تنظيم مستقلّ للرهبان والذي أسّس عام 1981 الكنيسة البوذية الفيتنامية، وهي جهة تحت إدارة سيطرة السانغا بالكامل وتُعدّ المؤسّسة الوحيدة البوذية ذات الوضع القانوني في البلاد. ومنذ ذلك الحين، تعرّض الرهبان للملاحقة خاصّة هؤلاء الذين كانوا يرفضون الانخراط تحت لواء الكنيسة البوذية الفيتنامية، وأفضى القمع المُعمّم ضد البوذية إلى تراجع أعداد المؤمنين بها لدرجة أنّ 12% بالكاد من الفيتناميين يمارسون شعائرها اليوم.

اقرأ أيضاً: الدمّ سائل الحياة: كيف نظرت له الأديان والمعتقدات؟

البوذية بعيداً عن الأنظار: سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية

ينبغي التطرّق إلى الدور الهامشي للسانغا في سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية. فعلى النقيض مما حدث في البلدان التي سبق استعراضها، لا تملك التنظيمات البوذية ثقلاً ضخماً في المجتمع، وتعدّ نقاط تلاقيها مع الحكومات المحلّية محدودة للغاية.

اقرأ أيضاً: أتباع الأديان إذ يحوّلون الإيمان إلى عصبيات

فبالنسبة لسنغافورة، حيث يؤمن 33% تقريباً من المواطنين بالبوذية، بدأ السانغا بعد استقلال البلاد عام 1963 في التحرّك كمجموعة ضغط "لوبي" دفاعاً عن البوذية المحلّية. وكان "الاتحاد البوذي في سنغافورة" يتمتّع بنفوذ ذي شأن على الحكومة، وطيلة عقود، ضغطت على السلطات لوقف وصول تيارات بوذية من الخارج والحيلولة دون وجود هياكل أخرى من الرهبان مختلفة عن مجموعتهم في البلاد. بيد أنّ هذه المجموعة اصطدمت بالدستور الذي يكفل حرية العقيدة للسنغافوريين.

وبمرور الوقت، اتّجه السانغا في سنغافورة للانخراط أكثر في الحراك الاجتماعي. وكان أبرز مثال على ذلك هو الراهب يين بي الذي أسّس عام 1981 "سنجابور بوديست ويلفير سرفيسز" وهي منظّمة تعمل على ثلاثة أنشطة أساسية هي رعاية المسنّين والتبرّع بالأعضاء والوقاية من إدمان المخدّرات.

اقرأ أيضاً: دراسة توضح حالة المجموعات الدينية المرتبطة بالأديان في العالم

وتقتصر البوذية في كوريا الجنوبية أيضاً بصورة كبيرة على الأنشطة الاجتماعية. ويؤكّد 35% فقط من المواطنين أنّهم يعتنقون البوذية، بينما يكشف نصف الكوريين تقريبًا أنّهم لادينيون. ومن بين أهم أنشطة السانغا الكورية تبرز إدارة المستشفيات ودور الرعاية والمدارس لضمان حصول القطاعات المهمّشة من الشعب على الخدمات الأساسية. لكن رغم ذلك تدخّل الرهبان في السياسة خلال الأعوام الأخيرة، حتى لو بصورة طفيفة مثلما حدث في 2016 حين تكشّفت وقائع فساد أبعدت رئيسة الوزراء السابقة بارك جيون هي، ليطالب زعيم المؤسسة البوذية جوجي علانية باستقالتها، فيما أضرم راهب النار بنفسه احتجاجاً عليها.

وفي اليابان، خاضت البوذية مغامرة سياسية لكنّها كانت قصيرة ودُفنت في الماضي. كان ذلك في الستينيات حين أنشأت حركة (سوكا جاكاي) البوذية حزباً سياسياً هو (كوميتو) بهدف نقل الأجندة البوذية إلى السياسة الوطنية. ورغم أنّه وصل لأن يصبح ثالث أكبر حزب في البلاد، إلا أنّ (كوميتو) تورّط في فضيحة تزوير انتخابي وتلوّثت صورة الحركة والحزب. لذا نأت (سوكا جاكاي) بنفسها عن (كوميتو) عام 1970، ومنذ ذلك الحين أُبعدت الأجندة البوذية وبات الحزب ينادي بقيم مثل السلام والرفاه الاجتماعي. وشارك (كوميتو) في تشكيل الحكومة في ست مناسبات، كان آخرها عقب انتخابات 2017 ليسهّل استمرار رئيس الوزراء شينزو آبي في الحكم.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن الساينتولوجيا.. أحدث الديانات على الكوكب؟

لكنّ البوذية يبدو أنّها تتراجع في اليابان؛ حيث لا يشعر الكثير من الأشخاص بالميل نحو تعريف أنفسهم كبوذيين، لا سيما منذ إقدام طائفة متطرّفة على قتل 13 شخصاً أثناء هجمات وقعت في مترو العاصمة طوكيو عام 1995. وبالفعل يتوقّع أن تشهد الفترة بين 2015 و2040 غلق 27 ألف من إجمالي 72 ألف معبد بوذي في اليابان حالياً، بسبب النزوح من الريف بشكل أساسي؛ حيث ينزح الناس إلى المدن تاركين الضواحي خاوية، دون أن يهتمّ أحد بالمعابد أو يمنحها التبرّعات.

إنّ متابعة العلاقة بين الدين والدولة أمر مهم للغاية لفهم ديناميكية بلد ما؛ وفي هذه الحالة، فإنّ البوذية تسمح بفهم طريقة عمل الأنظمة الآسيوية. وقد مرّت البوذية في أغلب البلدان الآسيوية بمراحل معقّدة طيلة القرون الأخيرة ولعلّ العامل المشترك هو فقدان الاستقلالية ثم اكتساب حكومات ما بعد الاستعمار لنفوذ أكبر، ثم لجوؤها لإبعاد المتدينين عن الحراك السياسي وقصر نشاطهم على القضايا الاجتماعية حيث بالكاد يمكن افتعال أي ضجيج.


رابط الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/38W3zzS



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية