جلال الدين السيوطي: هاجِر السلاطين ووارث علوم الأنبياء

جلال الدين السيوطي: هاجِر السلاطين ووارث علوم الأنبياء


15/12/2020

وصفه أحدُ تلاميذه بأنّه كان أعلمَ أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه، وأنّه كان يحفظ مائتي ألف حديث. وروى عنه قوله: "ولو وجدت أكثر لحفظته".
ويتوالى التقريض بمناقب الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي، الذي يعتبره تلميذه عبد القادر بن محمد الشاذلي، وفق كتاب إياد خالد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي "الأستاذ الجليل الكبير، ... وارث علوم الأنبياء عليهم السلام، فريد دهره، ووحيد عصره، مميت البدعة، ومحيي السنّة... العلاَّمة البحر الفهامة، مفتي الأنام، وحسنة الليالي والأيام، جامع أشتات الفضائل والفنون... وأوحد علماء الدين، إمام المرشدين، وقامع المبتدعة والملحدين".

اقرأ أيضاً: كيف قرّر المتصوف الهندي أوشو: بتواجد الحب تتواجد الكراهية؟
كما يروي عنه تلميذه المؤرِّخ البحَّاثة ابن إياس بأنّه "كثير الاطِّلاع، نادرة في عصره، بقية السلف وعمدة الخلف، وبلغت عدَّة مصنفاته نحواً من ست مائة تأليف، وكان في درجة المجتهدين في العلم والعمل".

غلاف كتاب "الإتقان في علوم القرآن"
وُلِد السيوطي في القاهرة في تشرين الأول (أكتوبر) 1445م، وعاش فيها. وهو سليل أسرة اشتهرت بالعلم والتديّن، وكان أبوه من العلماء الصالحين ذوي المكانة العلمية الرفيعة التي جعلت بعض أبناء العلماء والوجهاء يتلقون العلم على يديه. وقد تُوفِّي والد السيوطي ولابنه من العمر ست سنوات، فنشأ الطفل يتيماً، واتجه إلى حفظ القرآن الكريم، فأتمّ حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة مثل: العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك؛ فاتسعت مداركه، وزادت معارفه.

اقرأ أيضاً: القرآن رائع ونموذج للسلوك الإنساني.. هكذا قال عضو الكونغرس الأمريكي
وكان السيوطي محل العناية والرعاية من عدد من العلماء من رفاق أبيه، وتولّى بعضهم أمر الوصاية عليه، ومنهم (الكمال ابن الهمام الحنفي) أحد كبار فقهاء عصره، وتأثر به الفتى تأثراً كبيراً، وبخاصة في ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة، على ما يفيض في تبيانه كتاب "النور السافر عن أخبار القرن العاشر".
لمعان نجم السيوطي
وفي مثل هذه البيئة الزاخرة بالعلماء والفقهاء، لمع نجم السيوطي الذي كان واسع العلم غزير المعرفة؛ حتى قال عن نفسه: "قد رُزقتُ -ولله الحمد- التبحّر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع"، فضلاً عن إلمامه الكبير بأصول الفقه والجدل والتصريف، والإِنشاء والترسُّل والفرائض والقراءات التي تعلمها بنفسه، والطب، غير أنّه لم يقترب من علميْ الحساب والمنطق، على ما يذكر في كتابه "التحدث بنعمة الله".

غلاف كتاب "الإكليل في استنباط التنزيل"
ويُروى أنّ السيوطي أقام مسافة بينه وبين السلاطين، وكانت علاقته بهم متحفّظة، وسلك معهم سلوك العلماء الأتقياء، فإذا لم يقع سلوكه منهم موقع الرضا قاطعهم وتجاهلهم. وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته ويعرضون عليه الأموال النَّفيسة فيردها، وأهدى إليه أحد القادة خَصِيّاً وألف دينار، فردَّ الألف وأخذ الخصيَّ، فأعتقه وجعله خادماً في الحجرة النبوية، وقال لقاصد السلطان: لا تعُدْ تأتينا بهدية قطُّ؛ فإن الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك. وطلبه السلطان مراراً فلم يحضر إليه، وألَّف في ذلك كتاباً أسماه "ما وراء الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين"، ويؤيد هذه الرواية ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في خبر من ذهب".

بلغت مصنفات السيوطي نحو 600 كتاب، وكان في درجة المجتهدين في العلم والعمل. ولما توفي صلّى عليه خلائق لا يحصون

وكان منهج السيوطي في الجلوس إلى المشايخ هو أنّه يختار شيخاً واحداً يجلس إليه، فإذا ما توفِّي انتقل إلى غيره، وكان عمدة شيوخه (محيي الدين الكافيجي) الذي لازمه السيوطي أربعة عشر عاماً كاملة، وأخذ منه أغلب علمه في التفسير والأصول والعربية والمعاني، وأطلق عليه لقب (أستاذ الوجود). ومن شيوخه (شرف الدين المُنَاويّ) وأخذ عنه القرآن والفقه، و(تقي الدين الشبلي) وأخذ عنه الحديث أربع سنين، وأخذ العلم أيضاً عن شيخ الحنفية (الأقصرائي) و(العز الحنبلي)، و(المرزباني) و(جلال الدين المحلي) و(تقي الدين الشمني) و(علم الدين البلقيني)، وغيرهم.
تلقى العلم على نساء
ولم يقتصر تلقي السيوطي على الشيوخ من العلماء الرجال، بل كان له شيوخ، كما يقول الطبّاع، من النساء اللائي بلغن الغاية في العلم، منهن (آسية بنت جار الله بن صالح الطبري)، و(كمالية بنت عبد الله بن محمد الأصفهاني)، و(أم هانئ بنت الحافظ تقي الدين محمد بن محمد بن فهد المكي)، و(خديجة بنت فرج الزيلعي)، وغيرهن كثير.
زادت مؤلفات السيوطي على الثلاثمائة كتاب ورسالة. عدَّ له بروكلمان (415) مؤلَّفاً، وأحصى له حاجي خليفة في كتابه (كشف الظنون) حوالي (576) مؤلفاً، ووصل بها البعض كابن إياس إلى (600) مؤلف.
غلاف كتاب "الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور"

ومن مؤلفات الإمام السيوطي في علوم القرآن والتفسير:
1- الإتقان في علوم القرآن.   
2- متشابه القرآن.
3-الإكليل في استنباط التنزيل.
4- مفاتح الغيب في التفسير.
5- طبقات المفسرين.          
6- الألفية في القراءات العشر.
7 -التحبير في علوم التفسير. 
8- الناسخ والمنسوخ في القرآن.
9 - التفسير المسند المسمَّى (ترجمان القرآن).
10- الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور.

غلاف كتاب "التحبير في علوم التفسير"

وألّف في الحديث وعلومه، عشرات الكتب، من بينها:
1-إسعاف المبطأ في رجال الموطأ.  
2- تنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك.
3- جمع الجوامع.              
4- الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة.
5- طبقات الحُفّاظ.

وفي الفقه ألَّف الإمام السيوطي:
1-الأشباه والنظائر في فقه الإمام الشافعي. 
2- الحاوي في الفتاوي.
3- الجامع في الفرائض. 
                           
وفي اللغة وعلومها كان للإمام السيوطي فيها أكثر من مائة كتاب ورسالة، منها:
1- المزهر في اللغة.                 
2- الأشباه والنظائر في اللغة.
3- الاقتراح في النحو.   
وللسيوطي مؤلفات كثيرة في البديع والتاريخ والطبقات والأطعمة والحكمة والطب، وسواها.
غلاف كتاب " الحاوي في الفتاوي"

منهج متميّز في التفسير
وكان للسيوطي منهج متميّز في التفسير، يقوم على ذكر مكان نزول السورة، وهل هي مكية أم مدنية. كما يذكر ما ورد في هذه السورة من فضائل، ثم يروح يقسّم السورة إلى مقاطع، فيذكر الآية أو الآيتين في السُّوَر المدنية الطوال، أو مجموعة من الآيات في السور المكية القصار.

أقام السيوطي مسافة مع السلاطين، وكانت علاقته بهم متحفّظة، فإذا لم يقع سلوكه منهم موقع الرضا قاطعهم وتجاهلهم

وبعد ذلك، يفسِّر الكلمة أو الجملة، مبيِّناً فيها سبب النزول إن وجد، والقراءات إن ورد فيها قراءات، والناسخ والمنسوخ، وشرح غريب اللفظ، ومبهم العبارات. وإذا كانت الآية تتضمن أحكاماً فقهية، فإنه كان يبيّنها.
وفي مثل هذه الروحيّة الدقيقة كان السيوطي يؤرخ الوقائع، فكان حريصاً على ذكر المصادر التي أخذ عنها معلوماته، "فبركة العلم نسبة القول إلى قائله، بل هو في التاريخ أكثر ضرورة؛ نظراً لحاجة التاريخ لمصدر يوثق الحادثة".
كما كان يحرص على توضيح المسائل المُشكِلة بإبراز الأقوال التي جاءت فيها، والردود التي وردت باسم صاحبها؛ وذلك نظراً لسعة اطِّلاعه على المرويات والأخبار، وفق الطبّاع الذي يلفت إلى أنّ السيوطي اتّبع منهج المحدِّثين بتتبع الأخبار ونقدها، كما بيَّن ذلك في فصل له بعنوان (فصل في بيان كونه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف، وسرُّ ذلك)، حيث أظهر رأيه في آخر الروايات التي ذكرها، ودفع المتعارض منها.
وكان يمكن للسيوطي، لو طال به العمر، أن يضيف إلى المكتبة أصنافاً أخرى من مؤلفاته المتعددة الحقول، لكنّه، مات عن إحدى وستين سنة، بعدما أصيب بورم شديد في ذراعه اليسرى، فمكث سبعة أيام، تُوُفِّي بعدها، في منزله بروضة المقياس على النيل في القاهرة، في العام 1505م.
ونُقل عنه أنّه قرأ عند احتضاره سورة "يس"، وصلى عليه خلائق بجامع الأباريقي بالروضة عقب صلاة الجمعة، كما صُلِّي عليه غائبة بدمشق في الجامع الأموي. وصلى عليه مرة ثانية خلائق لا يحصون، وكان له مشهد عظيم، وكما يقول تلميذه الشاذلي: "لم يَصِلْ أحدٌ إلى تابوته من كثرة ازدحام الناس". ودُفِن بحوش قوصون خارج باب القرافة بالقاهرة، ومنطقة مدفنه تعرف الآن بمقابر سيدي جلال نسبة إليه، وقبره معروف هناك.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية