هل تحولت تيارات الإسلام السياسي إلى تجمعات وظيفية معزولة؟

هل تحولت تيارات الإسلام السياسي إلى تجمعات وظيفية معزولة؟


31/12/2019

تؤشر التحولات التكنولوجية الإعلامية إلى مدى تحوّلات الإسلام السياسي نفسه، والذي يكاد يكون في أحد جوانبه وتجلّياته ظاهرة إعلامية تكنولوجية، ففي حين صعد الإسلام السياسي صعوداً كاسحاً، مستفيداً من تقنيات الطباعة والكاسيت والمهارات الشخصية في الاتصال والخطابة، واستطاع أن يوظّف هذا النجاح  الإعلامي في منجزات انتخابية في الجامعات والنقابات والبرلمانات والبلديات، وفي حشد الأنصار والمؤيدين، وتطوير التنظيمات والتشكيلات والموارد الداعمة للجماعات؛ إلّا أنّه لم يقدر على الهيمنة على الفضائيات التي ورثت انتشار وتأثير أدوات ومؤسسات الإعلام التقليدية والمركزية، وإنما تحوّل إلى شريك صغير في عالم الفضائيات، واقتصرت هذه الشراكة على الحضور الشخصي لدعاة ونشطاء الإسلام السياسي أكثر ممّا هي حضور مؤسّسي منظّم، وحقق هذا النجاح والتأثير مكاسب على مستويات فردية وشخصية أكثر منها على مستوى التنظيم والجماعة. وكان الاستثناء الوحيد في التأثير الإعلامي القوي لجماعة الإخوان هو الناشئ عن التحالف الحكومي الجماعاتي في قناة الجزيرة الفضائية القطرية، وخاصة التحالف مع حركة حماس.

أما في مرحلة شبكات التواصل الاجتماعي فإنّ الإسلام السياسي المنتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين تحوّل إلى شريك صغير محدود التأثير، وتفوّقت في هذا المجال الجماعات العنفية والمتطرفة، لكنّ الفضاء العام حول الشبكية يتجاوز الجماعات جميعها؛ فهو ساحة عامة مفتوحة تشارك فيها على نحو تفاعلي كل المؤسسات والاتجاهات كما الأفراد والجماعات.

جماعات الإسلام السياسي هي جماعات إعلامية  ليس بمقدورها أن تعمل وتؤثر إلا بتأييد من الحكومات والأنظمة السياسية

وإنّه لأمر يدعو إلى التساؤل والحيرة؛ لماذا نجحت جماعات الإسلام في التأثير من خلال الإعلام المركزي الذي تنظمه وتديره الحكومات، ولم تنجح في المجال المفتوح والبعيد عن تنظيم وتأثير الحكومات؟ ولماذا نجح الإسلام السياسي في الإعلام أكثر من الفكر برغم أنّ جماعاته تُصنّف على أنّها أيديولوجية تستمد حضورها ومبرراتها من الدعوة والفكر؟

الحال أنّ المسألة تؤكد أو ترجح أنّ جماعات الإسلام السياسي هي جماعات إعلامية أكثر مما هي أيديولوجية أو فكرية، وليس في مقدورها أن تعمل وتؤثر إلا بحبل من الحكومات والأنظمة السياسية، وليس بفرص بيئة العمل الفكري والإعلامي الحر والمفتوح؛ فجماعة الإخوان المسلمين، كبرى جماعات الإسلام السياسي، لم تُقدّم إضافة تذكر إلى المجهود العلمي الفكري في الدين والاجتماع والسياسة، ولم تُنشئ مؤسسة فكرية أو بحثية ذات قيمة إضافية، ولم تنشغل انشغالاً حقيقياً وعملياً مع قضايا المجتمعات وأولوياتها، ولم تكن في واقع الحال سوى رديف للأنظمة السياسية، ينشط عندما تحتاج إليه ويتوارى أو يدخل في أزمة وصراع عندما يتحول إلى عبء سياسي على الدول!

اقرأ أيضاً: لماذا يخلو الإسلام السياسي من المفكرين؟

وليس سراً ما يتم تداوله على نطاق واسع غير معلن في أوساط الإخوان المسلمين، أنّهم يراهنون على فرص مجهولة ناشئة عن تحولات أو ظروف أو مستجدات تجعل الأنظمة السياسية تحتاج إليهم أو تتحالف معهم، وكانت الجماعة تجد على الدوام مثل هذه الفرص في احتياجات الدول أو في اختلافاتها فيما بينها. هكذا فإنّ جماعات الإسلام السياسي لم تكن برغم نموها وانتشارها وصعود تأثيرها سوى جماعات وظيفية، بلا أيديولوجيا ولا برنامج ولا فكر حقيقي مميز تعرف به.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي في تشكلاته وتحولاته.. هل هو سياق تاريخي أم أزمة؟
في التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية اليوم تنشأ أزمات وتحديات كبرى وعميقة، لم يعرف بشأنها، تصوراً أو تفسيراً أو تحليلاً، أحد لدى الإخوان المسلمين وغيرهم من جماعات الإسلام السياسي، وعلى سبيل المثال، تتشكل فجوات كبرى في الفرص والدخل والتأثير بين المجتمعات وبين الشركات الاقتصادية والاستثمارات الجديدة، ومن البديهي عندما تطبق سياسات الخصخصة للموارد والخدمات، أن يكون المجتمع، قادراً على تنظيم نفسه وحمايتها ليستطيع الحصول على الخدمات والاحتياجات التي تحوّلت إلى سلع تجارية واستثمارية بالجودة والسعر المناسبين، وأن ينشئ مؤسساته وموارده المستقلة ليكون قادراً على توفير ما كانت توفره له السلطة التنفيذية، ويمتلك أدوات سياسية قادرة على حمايته وتحقيق توازن مع القطاع الخاص والذي قد يتحول في معظمه أو في جزء كبير منه إلى استثمارات أجنبية.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي كأزمة في تاريخ الأفكار
ولكن ما يجري بالفعل هو إعادة صياغة للتشريعات والتحالفات السياسية والاجتماعية التي تُضعف المجتمعات والمواطنين وتُحمّلهم أعباءً كبيرة وتعفي في الوقت نفسه رؤوس الأموال والشركات من التزامات مفترضة. وبالنظر إلى ما يجري من تشريعات وتطبيقات في الضرائب والعمل والأجور والعلاقة بين العمال وأصحاب العمل، والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والعلاقة مع الشركات الموردة للخدمات الأساسية أو التي تدير الموارد العامة، وما يمكن أن تؤول إليه الحالة عندما تختفي مؤسسات التقاعد والمؤسسات التعليمية والصحية الحكومية، والوضع الذي ستكون عليه المجتمعات العربية بعدعشرين عاماً على الأكثر، عندما تتجاوزنسبة كبار السن 10% من السكان وتتآكل الدخول والرواتب التقاعدية وفرص الرعاية الصحية والاجتماعية، فإنّنا في مواجهة حالة لا يمكن تلافيها إلا بدور فاعل للقيادات المجتمعية والمهنية وتشكيلات الطبقة الوسطى في المجتمع.

اقرأ أيضاً: ما تأثير الإسلام السياسي على المجتمع الجزائري؟
والمرشح الطبيعي المنظور ليقود المجتمع باتجاه مصالحه ومساعدته على التوازن في المواجهة مع الاحتكار والإقطاع والإفقار وغياب العدالة الاجتماعية والفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين فئات المجتمع هو المؤسسات والقيادات الاجتماعية المفترض أنّ جماعات الإسلام السياسي تنتمي إليها، لكنها في واد والمجتمعات في وادٍ آخر.

جماعات الإسلام السياسي غير مرتبطة بالمكان وقضيّته وفي النهاية ستكون النتيجة كارثية لأنّها ستتحول إلى تجمّعات وظيفية معزولة 

كان من الممكن أن تنشأ شراكات وتحالفات اجتماعية واقتصادية جديدة تشارك فيها الجماعات والنقابات، فقط لو أنّ جماعات الإسلام السياسي تخلّت عن المعارك والصراعات والتحالفات السياسية، أو تركت انشغالاتها برحلات العمرة والنشيد الديني وأوهام التحرير والوحدة والتحريض والدعوة إلى أعمال ومواقف هي تعلم أكثر من غيرها أنّها لن تفعل فيها شيئاً.
والتحول الآخر الذي يبدو أنّه لم يعد يعمل لصالح الإخوان المسلمين، هو أنّ الأفراد والمجتمعات أصبحت في حالة من التديّن والإقبال على الدين على نحو لم يعد الإخوان المسلمون قادرين أن يضيفوا إليه شيئاً يذكر. ولم يعد للجماعات والمؤسسات الاجتماعية مجال للعمل سوى التعليم والإسكان والبيئة والمهن والعمل والأجور والتوظيف والمشاركة والرعاية الصحية والاجتماعية والتقاعد.

اقرأ أيضاً: إشكاليات لم تتجاوزها بعد جماعات الإسلام السياسي.. ما هي؟ 
لماذا لم يكن للإخوان المسلمين مؤسسات فكرية وبحثية تمثّل مصدراً للرؤية والتخطيط للعمل العام الرسمي والمجتمعي، وتُقدّم الرؤية والبرامج البديلة وتكون بيتاً للنشر والخبرة في السياسة والاقتصاد والثقافة، وصوتاً للطبقات الوسطى وأصحاب المهن والمشروعات وساحة للتعليم المستمر والتعبير؟ ولماذا لم يستنفر كل أعضاء الجماعة ومؤيدوها وشبابها وأطباؤها ومهندسوها وأغنياؤها ليصبحوا شركاء حقيقيين في التنمية، وفي الرعاية الصحية والإسكان للفقراء والطبقات الوسطى، وفي تطوير الغابات والمراعي والمصادر المائية، وفي تنظيم المجتمعات والأحياء والبلدات وفق احتياجاتها، وإنشاء مدارس ومراكز ثقافية ورياضية وجمعيات تعاونية وإسكانية يشارك فيها الناس جميعاً وتكون موجهة للمجتمعات والأرياف والبوادي وليست استثمارات أنيقة معزولة؟ ولماذا لم تستثمر الجماعة في ترسيخ قواعد ثقافية وأخلاقية للسلوك الاجتماعي، تُنظّم حياة الناس باتجاه الرقي والتسامح والتمدن؟ ولماذا لا تُشارك الجماعات في حراك ثقافي وإبداعي عام في الشعر والمسرح والقصة والسينما والرواية والموسيقى (نعم الموسيقى)  ولماذا تبقى تنظيماً سرياً وكأنّها تشتغل في الممنوعات؟

اقرأ أيضاً: أولية العقل: نقد أطروحات الإسلام السياسي
المكان هو سر الإجابة والعمل، والتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية حول المكان هي أساس الرؤية المكافئة للعمل المطلوب والإجابة المفترضة على سؤال ما العمل؟ وبغير ذلك فإنّ جماعات الإسلام السياسي تتحول إلى مجاميع غير مرتبطة بالمكان وقضيّته، وفي النهاية ستكون النتيجة كارثية؛ لأنّها جماعات تتحول إلى تجمّعات وظيفية أو معزولة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية