لماذا حرمنا ابن قتيبة من نظرية في الشعر العربي؟!

لماذا حرمنا ابن قتيبة من نظرية في الشعر العربي؟!


20/01/2020

يتقاسم ابن قتيبة والجاحظ العديد من الملامح المشتركة؛ فالاثنان مثقفان كبيران عابران للتخصّصات، وهما عدوان كبيران للشعوبية المناوئة للعروبة، وهما متسامحان جداً بخصوص حق اللغة في التعبير عن المعنى المراد بمفرداتها المكشوفة ما دامت أكثر وفاء بالدلالة. لكنهما يتقاطعان في ملمحين رئيسين أيضاً؛ فالجاحظ كان مثقفاً شعبوياً خالصاً بكل ما في الكلمة من معنى، وأما ابن قتيبة فقد كان انتقائياً؛ أي إنّه يعمد لتوظيف الشعبوية من باب الإيحاء بسعة الصدر وخفّة الظل، لكنه في الواقع مثقّف نخبوي دون ريب. والجاحظ كان متكلّم أهل الاعتزال فيما كان ابن قتيبة متكلّم أهل السنّة، كما يلاحظ ابن تيمية على نحو يدعو للإعجاب.

اقرأ أيضاً: حمّاد الرّاوية وخلف الأحمر المملوكان اللّذان عاثا في الشعر العربي فساداً
ثمّة ملمح آخر يتقاسمه الاثنان أيضاً، ويتمثّل في أنّ العديد من كتبهما قد نجت من الضياع ووصلت إلينا وحُقِّقت ونُشرت. وعلى كثرة الكتب التي ألّفها ابن قتيبة ووصلت إلينا – في الفقه والحديث واللغة والأدب- فإنّ كتاب (الشعر والشعراء) يكاد يكون أشهر هذه الكتب وأكثرها احتواء على المقولات والنصوص التي يمكن استنطاقها فكرياً، بدءاً من استيعابه المدهش لمفهوم الحداثة وبالمعنى المعاصر - ما جعله يختار الشعر الذي يحقق شروط هذا المفهوم بغض النظر عن زمن أو مدى شهرة قائله- مروراً بانتباهه لضرورة المطابقة بين الشكل والمضمون - رغم أنّ الحظ لم يحالفه أحياناً في التمثيل لهذه المطابقة- وليس انتهاء بذلك النص الفريد الذي أورده بخصوص تفسير أحجية الوقوف على الطلل وقوانين المرور الصارمة والناظمة لعمود الشعر العربي!

الانشداد إلى الماضي بمفرداته المأساوية والجافة ليس ضرباً من ضروب استبداد الذاكرة بل هو استسلام لدكتاتورية الحنين المرضي

ومع ضرورة التذكير بأنّ الوقفة الطّللية وقوانين المرور في القصيدة الجاهلية، لا تمثل إشكالية شعرية فقط، بل هي مرشحة للتمديد والتوسيع بحيث يمكن اعتبارها معادلاً موضوعياً لبنية التفكير العربي التي ظلت تنتج ويُعاد إنتاجها حتى زمننا الراهن، فإنّ النص الفريد الذي يورده ابن قتيبة ينطلق من نقطة مرجعية تتمثّل بأنّ (مقصّد القصيد) الذي تنطبق مواصفاته مبدئياً على امرئ القيس، قد بكى وشكى واستوقف الربع والرفيق حتى يسترعي انتباه المتلقي ثم ثنّى على ذلك باستدعاء ذكر الحبيب الذي رحل حتى يميّل نحوه القلوب ويستأثر تماماً باهتمام المتلقي، نظراً لما أودعه الله من حب النساء في قلوب الرجال – ومن حب الرجال في قلوب النساء بالضرورة- وأتبع ذلك بوصف الرحلة وإنضاء الراحلة وعَنَت الطريق الموحش، حتى إذا استوثق تماماً من أنّ المتلقي/ الممدوح قد أُنضح نفسياً وذهنياً وصار مستعداً لتقديم ثمن هذا الإنضاج، انهال عليه بالثناء وبالغ في ذلك، حتى يضمن الحصول على أكبر مكافأة مادية ممكنة!

اقرأ أيضاً: هل نعلن الوطن العربي منطقة منكوبة فكرياً؟
وإذا كانت الموضوعية التامة تدفعنا للاعتراف بأنّ هذا النص يتفرّد بوصف عمود الشعر العربي من ألفه إلى يائه – بما في ذلك التحذير من مخالفة بعض تفاصيله مثل الوقوف على البيوت العامرة بدلاً من الداثرة أو الارتحال على الحمير والبغال بدلاً من الإبل أو وصف الحدائق والجنان بدلاً من وصف الصحاري والشيح والعرعر!- فإنّ الموضوعية ذاتها تدعونا للاستدراك على مصداقية هذا النص بأنّ الغالبية الغالبة من شعراء الجاهلية لم يتكسبوا بشعرهم خلافاً لمن تلاهم من شعراء الدولة الأموية والعباسية، كما أنّ طائفة منهم لم يولوا الوقفة الطللية العناية المطلوبة كما نلاحظ في قصائد الشعراء الصعاليك بوجه خاص.

الوقفة الطّللية يمكن اعتبارها معادلاً موضوعياً لبنية التفكير العربي التي ظلت تنتج ويُعاد إنتاجها حتى زمننا الراهن

ومع أنّ هذا الاستدراك لا يقلل من أهمية التفسير النفسي اللامع للدور الوظيفي الذي يضطلع به الوقوف على الأطلال واستدعاء ذكر المحبوب الراحل ووصف أهوال الطريق إلى الممدوح، إلا أنّ ابن قتيبة يفجعنا تماماً حين يسبق هذا النص بالقول: (وسمعت بعض أهل الأدب يذكر)!!! أي إنّ ما تضمّنه هذا النص الفريد من تنظير عال ليس له، بل إنّ صيغة الإسناد (وسمعت بعض أهل الأدب) توحي للمتلقّي بأنّ رتبة (أهل الأدب) هؤلاء ليست عالية وليست موثوقة علمياً، ولو كانت كذلك لما تردّد ابن قتيبة في التصريح بأسمائهم. ورغم هذا التهوين المضمر من شأن المعنيين، إلا أنّنا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التساؤل: إذا كان مثل هذا التنظير العالي متداولاً في الأوساط الثقافية العامة، فلماذا لم يستثمره ابن قتيبة على نحو خلاّق ولم يبن عليه نظرية متماسكة في الشعر العربي؟ والأهم من هذا التساؤل: لماذا يصرّ كثير من الباحثين والدارسين العرب والأجانب على مواصلة نسبة هذا النص لابن قتيبة الذي نسبه على نحو لا يحتمل اللبس إلى (بعض أهل الأدب) لغاية في نفسه لا يعلمها إلا الله!

اقرأ أيضاً: المعلّقات بين المقدّس والمدنّس
وبعيداً عن جدل المتخصصين بخصوص ملامح الذوق العربي البدوي الخالص في الشعر وملامح الذوق الفلسفي العقلي الذي أطلقه أبو تمام والمتنبي وأبو العلاء المعري، فإنّ هذا النص الفريد الذي يورده ابن قتيبة، يفصح إلى حد بعيد عن مدى تمسّك المخيال العربي بـ(الثابت) رغم كل التحوّلات، وضيقه الشديد بـ(المتحوّل) رغم كل الوقائع التي يمكن أن تنفيه، فالانشداد إلى الماضي بمفرداته المأساوية والجافة ليس ضرباً من ضروب استبداد الذاكرة، بل هو استسلام تام لدكتاتورية الحنين المرضي، إلى درجة اعتقال المخيال في اللحظة الرثائية وتأبيد انغراسه في قسوة الصحراء، حتى لو كانت اللحظة الراهنة منقوعة في نهري دجلة والفرات ونوافير بغداد وبساتينها وحدائقها!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية