دماء في ذمة الولي الفقيه

إيران

دماء في ذمة الولي الفقيه


27/01/2020

في تقليد ديني مؤثر يعود عمره إلى تسعين عاماً، يتوافد المسلمون الشيعة إلى مدينة كربلاء، جنوب بغداد؛ لإحياء أربعينية الإمام الحسين، والتي تعرف بـ "مسيرات الأربعين"؛ إذ ينضمّ إليها الملايين بهدف زيارة ضريح ثالث الأئمة لدى الشيعة؛ حيث قتل الحسين مع أفراد عائلته ومناصريه في واقعة تعرف بـ "الطف"، وقد دفن في مكان الواقعة، بينما أصبح ضريحه، الذي أقيمت فيه العتبة الحسينية، مزاراً مقدساً، يحجّ إليه الشيعة من مختلف البلدان، لإعادة مسرحة وتمثيل تلك المأساة والمظلومية التاريخية.

تطييف السياسة

بيد أنّ تلك المناسبة الدينية التي جرى تسييسها وتوظيفها الأيديولوجي، بواسطة النظام الإيراني، عبر أربعة عقود، تزامنت في نهاية العام الماضي، مع اندلاع الاحتجاجات في العراق ولبنان، ضدّ توغّل نفوذ الولي الفقيه وهيمنة وكلائه المحليين على مصير وواقع البلدين، خاصة أنّ الحادثة التي تستحوذ على وجدان المسلمين الشيعة بوجه خاص، تعتمد على تنظيم قوافل للسير لمسافات طويلة، سواء من مدن العراق، أو من مناطق الأغلبية الشيعية؛ كالنبطية، وجنوب لبنان، وكذا المدن الإيرانية، وصولاً إلى كربلاء.

الانتفاضات الشعبية في "المركز" الإيراني و"المحيط" العربي تشكل خطراً وجودياً عليه، لم يعهده في حكمه المستمر منذ 40 عاماً

تنطلق المسيرات والقوافل قبل موعد الذكرى الأربعينية بنحو عشرين يوماً، سيراً على الأقدام، كما أنّ هناك من يسافر جواً بالطائرات؛ إذ يقومون بإحياء المناسبة، في يومَين متتاليين، حتى يصلوا إلى مقام الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومنه إلى النجف.
"بغداد حرة حرة.. يا فاسد اطلع برا" "بغداد حرة حرة.. إيران برا برا"، بهذه الهتافات التي رددها المتظاهرون العراقيون أثناء إحياء ذكرى أربعينية الحسين في كربلاء، واحتجوا على ما وصفوه بـ "فساد إيران" في بلادهم، وهيمنتها السياسية والميدانية والاقتصادية على واقعهم، كانت الأرض تهتز تحت أقدام النخبة الدينية والسياسية في طهران، لطالما كانت تلك الذكرى بما تحمله من رمزية دينية وأيديولوجية، هي أحد سبل "الولي الفقيه" لتجديد شرعيته وتطييف السياسة، بواسطة المناسبات الدينية المختلفة، بغية نقل رسائل عديدة حول تمثيله السياسي للطائفة الشيعية.

اقرأ أيضاً: إيران: طريق العودة للواقعية

وفي ظلّ التوتر العراقي الإيراني على خلفية الاحتجاجات، صرّح يحيى رحيم صفوي، كبير مستشاري المرشد الإيراني، بأنّ الاحتجاجات في العراق إنما تستهدف التأثير على المراسم الأربعينية، من خلال إحداث حالة انعدام للأمن، بهدف ترهيب الناس، كما طالبت الخارجية الإيرانية الوفود الإيرانية المسافرة إلى الأراضي العراقية، بضرورة توخي الحذر وتأجيل رحلاتهم.

التجسس الإيراني

لكنّ إعلان قائد الوحدات الخاصة في الشرطة الإيرانية، حسن كرمي، تخصيص نحو 11 ألفاً من جنود الوحدات الخاصة لمرافقة مسيرات الأربعين في إيران والعراق، بالتزامن مع الاحتجاجات العراقية، ساهم في تأجيج الغضب الشعبي العراقي، ومنح الاتهامات الرائجة عن وجود عناصر من الحرس الثوري وميليشياته في بغداد لقمع المتظاهرين وقتلهم الوجاهة والمبرر المنطقي؛ إذ كشف النائب في البرلمان العراقي، أحمد الجبوري، أنّ هناك غرفة عمليات في بغداد، يقودها حاج حامد، أحد مساعدي القائد السابق لفيلق القدس، قاسم سليماني، بالحرس الثوري الإيراني، ومهمته متابعة الوضع الميداني، وقمع الشعب العراقي بواسطة ميليشيات الحشد الشعبي، وعصائب الحق، اللتين تستهدفان قتل المتظاهرين من خلال القناصة وغيرها.

اقرأ أيضاً: هل سلّمت الولايات المتحدة العراقَ إلى إيران؟
وغرّد ناشطون عراقيون على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، أنّ طهران والميليشيات التابعة لها، تعمد إلى قتل المتظاهرين السلميين من خلال ملثمين، يتبعون ميليشيات "سرايا الخراساني" و"كتائب سيد الشهداء" المنضويين تحت قيادة "الحشد الشعبي"، وذلك بإطلاق الرصاص الحي.
ومن جهته، يوضح الباحث في منتدى فكرة، رستم محمود، أنّه في العراق، وإلى حدّ أقل في لبنان، يبدو النفوذ الإيراني الخانق من بين الأسباب الرئيسة التي فجرت الانتفاضتين، وفي العراق، كما في لبنان، ثمة شعور عام بأنّ الانتفاضتين هما بداية تأسيس استقلال حقيقي من طغيان طبقة سياسية دينية اقتصادية، تحتكر السلطة في البلدين، ولإخراج العراق ولبنان من الفلك الإيراني.

اقرأ أيضاً: اهتزاز صورة المرشد في إيران بعد مقتل سليماني
ويؤكّد أنّ ثورات التحرر من النفوذ الإيراني، في سوريا ولبنان والعراق، وحتى في إيران نفسها، ستكون حالة مواجهة محضة مع هذه الميليشيات التي لو انهزمت في لحظة ما، فإنّ هذه المناطق ستتعايش طويلاً مع تراث وأثر تلك الميليشيات في مجتمعاتها، وستكتشف تاريخاً مريعاً أحدثه هذا النفوذ الإيراني، بعدما احتكر طاقة الهيمنة الاقتصادية والسياسية العليا في هذه المناطق على ديناميكية واحدة دون غيرها، وهي إنتاج الميليشيات.

العنف الوحشي للحرس الثوري

كشفت وثائق للاستخبارات الإيرانية، نشرتها مؤخراً صحيفة "نيويورك تايمز"؛ أنّ إيران كانت تساعد عادل عبد المهدي قبل وبعد ترأسه للحكومة العراقية.
وعليه؛ فإنّ العنف الوحشي الذي استخدمه الحرس الثوري لقمع التظاهرات، سواء في طهران، أو من خلال وكلائه في بغداد أو بيروت، الذي يبدو غير مسبوق، حسبما يشير الباحث في منتدى "فكرة"، إنما يعكس قناعة النظام الديني في طهران، بأنّ هذه الانتفاضات الشعبية في "المركز" الإيراني و"المحيط" العربي تشكل خطراً وجودياً عليه، لم يعهده في حكمه المستمر منذ 40 عاماً.

اقرأ أيضاً: شوط جديد مع إيران والاتحاد الأوروبي لم يتعلم الدرس
من جانبه، قال حسن كرمي، في مقابلة مع وكالة "مهر" للأنباء الإيرانية: إنّ "7500 من أفراد الوحدات الخاصة سيكونون حاضرين، بشکل مباشر، في 24 کتيبة، خلال مسيرة الأربعين، إضافة إلى 4 آلاف شخص سيکونون بمثابة قوة احترازية، ناهيك عن 30 ألفاً من قوات الشرطة سيکونون بقلب مسيرة الأربعين".

اقرأ أيضاً: كيف تحولت المؤسسات الدستورية في إيران إلى أدوات للصراع السياسي؟
وأوضح كرامي؛ أنّ جنود الوحدات الخاصة في مسيرة الأربعين ستمثل "أصعب جزء من الرقابة على الزوار التي تتحملها الوحدات الخاصة، لأنّها تتمرکز على بعد 10-15 كيلومتراً من الحدود، كما أنّهم يقومون بعمل استخباراتي قوي للغاية؛ حيث يتواجد أناس وسط الزوار للرقابة".
ورغم وجود عناصر من الحرس الثوري وميليشياته، وقواته الخاصة، في مسيرات الأربعين، خلال الأعوام الماضية، إلا أنّ العام الأخير بلغ الغضب حدّاً متفاقماً، إثر الاحتجاجات وسقوط قتلى؛ إذ طاولت الاتهامات تلك العناصر بقتل المحتجين، وقمع المتظاهرين السلميين، حيث تجاوزت أعدادهم المئة.

وبينما وصف قائد الحشد الشعبي، فالح فياض، في مؤتمر صحفي، مشاركة القوات الإيرانية في قمع معارضي الحکومة العراقية بأنّها محض "إشاعات"، إلا أنّه، وعلى طريقة زعيم حزب الله في لبنان، حسن نصر الله، رفض أن تحدث ثورة في العراق بالوقت الحالي، كما رفض حدوث تغييرات على مستوى الحكومة والطبقة السياسية الراهنة.

الباحث محمد السلمي: الاحتجاجات الراهنة في إيران تعدّ استمراراً للتذمّر الشعبي بين الأوساط المجتمعية بشرائحها كافة

وإلى ذلك، يؤكد الدكتور محمد بن صقر السلمي، في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية؛ أنّ الاحتجاجات الراهنة في إيران تعدّ استمراراً للتذمّر الشعبي بين الأوساط المجتمعية الإيرانية، بكافة شرائحها، وبغضّ النظر عن مسار الاحتجاجات ومدى إمكانية استمرارها من عدمه، فإنّ ما شهدته إيران، وقبل ذلك موجة الاحتجاجات، في العراق ولبنان، إنّما تقودنا إلى نتيجة واحدة، تتمثل في أنّ هذه الشعوب التي وقعت تحت وطأة سياسة الولي الفقيه وأيديولوجيته، بشكل مباشر أو غير مباشر، تسعى نحو التحرر من قبضته.
ويضيف في دراسته المنشورة: "الخيط الناظم لكلّ هذه الاحتجاجات الشعبية، في العراق ولبنان وإيران، هو الأيديولوجيا التي انطلقت عام 1979، بواسطة نظام الخميني، كما أنّ معالجة ذلك والخلاص من هذا الداء المعضل، يتمثل في الخلاص من عقلية الانقياد للأيديولوجيا العابرة للحدود، أو تلك التي تتجاوز الحاضر لتغسل أدمغة الشعوبِ بالتفكير في مستقبل مجهول، يرتهن لرموز مجهولين، ربما لو ظهروا في هذا الوقت لتبرّؤوا منهم قبل غيرهم".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية