عن "الانقلاب" الصدري و"عجز" التظاهرات

عن "الانقلاب" الصدري و"عجز" التظاهرات


08/02/2020

مشرق عباس

ليس أكثر فداحة من أن يخوض العراقيون صراعا داخليا فيما بينهم بسبب الطبقة السياسية الحاكمة التي استثمرت في أزمة الاحتجاجات بديلا عن محاولة حلها.

ففي الأول من أكتوبر من العام الماضي، كان الشعب العراقي قد وصل إلى أقصى حالات الكرب واليأس من احتمالات التغيير الايجابي، ومن الانتخابات التي شابتها تهم التزوير والمقاطعة الشعبية عام 2018. وهذا ما أدى إلى تكريس ذلك اليأس مع قدوم مجموعات مسلحة لاختطاف القرارين السياسي والأمني من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ووضع البلاد ومستقبلها في قلب صراع إيراني ـ أميركي لا ناقة للعراقيين فيه ولا جمل.

لهذا تحديدا كانت شعارات الجمهور الغاضب في ذلك اليوم حادة وشاملة وتتلخص بعبارة "إسقاط النظام".اعتبرت المجموعات السياسية والميليشياوية الحاكمة هذا الشعار مبررا لفتح النار على المتظاهرين والتورط في جرائم حرب بشعة ضد المدنيين العزل.

لكن هذا الشعار الكبير سرعان ما تراجع وسط وعي عميق لدى الشباب المتظاهرين وظهور دعوات ونداءات من المثقفين والناشطين البارزين بضرورة إيجاد خريطة طريق بديلة عن الثورة الشاملة، تتضمن استقالة الحكومة وتشكيل حكومة مستقلة تشرف على مرحلة انتقالية لا تتجاوز مدتها العام الواحد، يتم خلالها إقرار قانون انتخابات عادل، ومفوضية انتخابات نزيهة تحت إشراف دولي، وبمشاركة تيار يمثل المنتفضين والمقاطعين العراقيين.

لم يتم التعاطي مع هذه الخريطة المقترحة بمسؤولية من قبل المجموعات المسيطرة على حكم العراق، وبدلا من ذلك تم إقرار قانون للانتخابات لا يرضي المتظاهرين بشكل كامل، قيل إنه قد فصّل على مقاس التيار الصدري الذي كان حتى ذلك الحين يتصرف كممثل للمتظاهرين في البرلمان، وتحت هذه الصفة مرر التيار نفسه قانون مفوضية الانتخابات الجديد الذي تشوبه نواقص وأسئلة عديدة ويخضع إلى نظام غير مفهوم في اختيار المفوضين.

ومع أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي قدم استقالته فعلا، مصدرا رسالة استقالته بآية قرآنية توحي أنه تنحى استجابة لدعوة المرجع الديني علي السيستاني، من دون الإشارة إلى مطالب المتظاهرين، فإنه ومن خلفه مجموعة القوى السياسية المرتبطة بإيران والتي تحمل اسم "تحالف البناء" كانوا يسعون إلى بقائه في منصبه لأطول مدة ممكنة، وقدموا أسماء بديلة غير مقبولة يدركون جيدا أنها سترفض من المتظاهرين لتمديد فترة بقاء عبد المهدي أملا بالتوصل إلى إنهاء التظاهرات بالقوة، وإعادة تكليفه برئاسة الحكومة.

وبشكل مفاجئ وغير مفهوم، وبالتزامن مع تصاعد الصراع الأميركي ـ الإيراني الذي وصل أعلى مستوياته بقتل زعيم فيلق القدس قاسم سليماني في بغداد، انتقل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى الضفة التي وقفت فيها الأحزاب السياسية والمليشيات المرتبطة بإيران، لإدانة التظاهرات وشيطنتها، والحديث عن أنها بلا أهداف ولا غايات، وأنها (أي التظاهرات) مدعومة من أميركا، ويجب تطهيرها من خلال مليشيات "القبعات الزرقاء!".

شكل موقف الصدر صدمة في العراق، لأنه في صميمه يسعى إلى نسف خريطة الطريق التي اقتنع بها المتظاهرون على مضض بضغوط مجموعات من المثقفين والناشطين وأصحاب الرأي، متنازلين عن مفهوم الثورة الذي صدّر سيناريو إسقاط النظام والدستور وبناء نظام جديد بقواعد مختلفة.

والانقلاب الصدري، وهو انقلاب يربك الجميع حتى الصدريين أنفسهم، كان في صميمه يمثل إضعافا للأصوات الوسطية التي حاولت إيجاد حلول ممكنة التطبيق لمنع سيل الدم، لكنه في وجه آخر مثل استعدادا صارخا وغير مسؤول لوضع العراقيين أمام مواجهة شعبية كبرى وخطيرة، ليس على مستوى المدن الشيعية الثائرة فقط، بل أيضا على مستوى فتح الطريق وتعبيده بتعمد لدفع "المدن السنية" و"الإقليم الكردي" إلى خيار التقسيم تحت ضغط الفوضى الأمنية، والفشل السياسي، وعجز المنظومة المليشياوية الحاكمة عن إنتاج حلول تحفظ وحدة العراق واستقلاله عن النفوذ الخارجي.

إن القول بعجز التظاهرات عن إنتاج أهداف، يفتقر إلى أدنى شروط الموضوعية، فالتظاهرات ناهيك عن مساعيها إلى انتزاع الدولة من براثن المليشيات وإعادتها إلى الطريق الديمقراطي الذي انحرفت عنه عبر تكريس ما يمكن أن يطلق عليه "الشفاء الديمقراطي" الذي تمثله الانتخابات النزيهة العادلة، فإنها مثلت في جوهرها إحساسا جماعيا عفويا بالخطر الوجودي الذي يقاد العراق إليه على يد حكامه.

ربما سيلام بعد حين كل من آمن بهذا الشفاء الديمقراطي المفترض، وربما سيحكم التاريخ على من تبناه بأنه أسهم في عرقلة مد ثوري كاسح كان عليه أن يقلب تربة الأرض ويكافح عفونتها بأشعة الشمس العراقية الحارقة مهما كان ذلك مكلفا، لكن الواقع هو الواقع، وما زال بالإمكان فرض الخيار الديمقراطي على الطبقة السياسية المليشياوية المتسرطنة في قلب الدولة العراقية، لمنع أن يدفع العراقيون أثمانا جديدة لعجز هذه الطبقة وانتهازيتها.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية