كيف يمكن للمتديّنين المساهمة في المجال العام؟

كيف يمكن للمتديّنين المساهمة في المجال العام؟


12/02/2020

تتضمن مقولة "إسلامي" خللاً كبيراً وجذرياً في العمل والمجال العام؛ إذ تعني نفي الإسلام عن غير أصحاب الاتجاه نفسه من المسلمين "والإسلاميين بالضرورة"، وتعني أيضاً فهماً أو تطبيقاً واحداً للإسلام، فإن كان تعدد الأفهام والتطبيقات متقبلاً أو ممكناً، فما معنى كلمة "إسلامي"؟

اقرأ أيضاً: ما هي أبرز التحولات الدينية التي رافقت التطور التكنولوجي؟
وفي الوقت نفسه، يمكن الحديث عن إمكانية مساهمة الدين في المجال العام، من خلال المتديّنين، باعتبارهم مواطنين يملكون حق المشاركة، حيث يمكن أيضاً، من خلال تديّنهم، أن يضيفوا إلى المجال العام، فرصاً وإمكانيات جديدة للتماسك والإصلاح، ليس على أساس حق نزل من السماء أو تكليف إلهي يجب تطبيقه، لكن على أسس عقلانية تحول الخطاب الديني إلى خطاب عقلاني لا يستخدم أدلة أو نصوصاً دينية فقط، وإنما مبررات وتفسيرات عقلية تجعله من وجهة نظر أصحابه قابلاً للتطبيق الإنساني، بالدعوة إليه على أساس أنّه خطاب إنساني، وإن كان مستمداً من الدين؛ ما يعني بالضرورة، إقرار أصحابه باحتمال خطئه، وقابليته للمراجعة والتصحيح والتقييم.

يمكن للمتدينين أن يضيفوا إلى المجال العام من خلال تدينهم فرصاً وإمكانيات جديدة للتماسك والإصلاح على أسس عقلانية

إنّ العالم اليوم ينتقل إلى مرحلة جديدة، تردّ فيها الأمم جميع مؤسساتها وسياساتها إلى السؤال المنشئ لها؛ بمعنى هل ما زالت هذه السياسات ومؤسساتها مجدية؟ هكذا فإن الخطابات السياسية والدينية المنظمة للحياة المعاصرة في عالم الإسلام، والتي بدأت في التشكل أوائل القرن التاسع عشر، اكتسبت زخماً كبيراً متسارعاً في القرن العشرين؛ عندما سعت الأمم الإسلامية إلى استيعاب الحضارة المعاصرة على أساس الانسجام والمواءمة مع الإسلام، وأنشأت بالفعل دولها الحديثة المركزية المنسجمة مع الدين.
وبدأت الدولة المركزية تتعرض لتحديات وجودية كبرى، ومعها أيضاً جميع المؤسسات والقيم الناظمة للدولة والحياة المعاصرة، وبطبيعة الحال فإنّ الأمم "الإسلامية"، تنهض أو يجب أن تنهض لإعادة بناء تصورها لوجودها ومؤسساتها، وأن تسأل ذاتها السؤال الأساسي؛ هل يجب الاستمرار أو عدم الاستمرار في المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة اليوم؟ ففي ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى تنتقل الموارد والأعمال ومن ثم تنظيمها وإداراتها إلى مرحلة ومتطلبات مختلفة عن تلك التي أنشأت ما لدينا من موارد ومؤسسات وقيم وتشريعات؛ حيث نشأت الدولة الحديثة المركزية في ظل معطيات لم تعد موجودة، ومن ثم فإنّ الدولة التي تنظم وتدير شؤون الناس على نحو دقيق ومركزي، لم تعد قادرة على الاستمرار، هكذا وبطبيعة الحال، فإنّ كل ما أنجزته الدولة الإسلامية الحديثة، من تشريعات وأفكار وتطبيقات "إسلامية" في القانون والحياة والإعلام والتعليم والمناهج والتصورات والأفكار والعلاقات، أصبحت عرضة للمراجعة وربما الاختفاء؛ تماماً كما اختفت منظومات القيم والتشريع والعمل والتنظيم التي سادت في عالم الإسلام قبل الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

اكتسبت الخطابات السياسية والدينية المنظمة للحياة المعاصرة زخماً كبيراً متسارعاً في عالم الإسلام خلال القرن العشرين

ويمكن الحديث عن 4 مدونات أو مراحل للخطاب الإسلامي؛ أولها الخطاب الشفهي، الذي بدأ بالبعثة النبوية واستمر 200 عام تقريباً، وكان خطاباً اجتهادياً عقلانياً واستيعابياً للتراث والحياة القائمة، خاصة فيما يتعلق بتجارب الأمم السابقة والمعاصرة للمسلمين؛ مثل أهل الكتاب، والإغريق، والروم، والبيزنطيين، والفرس، والحبشة "إثيوبيا"، والعرب في اليمن أو الممالك التي كانت قائمة في ظل الإمبراطوريتين العظيمتين، مثل ممالك الغساسنة والمناذرة والنبط وعُمان، أو بجوارهما كالصين والهند.

اقرأ أيضاً: الصراع مع الإسلام السياسي.. مسألة دين أم سلطة؟
والخطاب الثاني؛ هو الخطاب المصاحب لصناعة الورق، أو ما يعرف بـ"عصر التدوين"، والذي صاحب فيه تنظيم وتطور ونضج الدولة الإسلامية، تدوين التراث الديني، وعمليات التأصيل، والتقعيد للعلوم الدينية واللغوية والفلسفية، ونشأت في ذلك مدونات علم الكلام؛ من الفقه والحديث والتفسير والعقيدة، فضلاً عن عمليات الترجمة والتأليف وتطوير العلوم والصناعات، التي استوعب المسلمون بفضلها الواقع القائم والمُتشكّل.
أما الخطاب الثالث، فكان مصاحباً للمطبعة والصناعة والدولة الحديثة، حيث اقتبس المسلمون عن الحضارة الغربية المتفوقة عليهم، والمهيمنة على العالم، أكثر من سعيهم لإنشاء  فلسفتهم وأفكارهم وعالمهم وحياتهم المتوافقة مع مصالحهم الخاصة، حيث تخلوا عن معظم ما كان لديهم، لإنشاء عالم جديد يُضاهي الغرب المتقدم والمتفوق، ويتشكل اليوم، عصر رابع؛ يعاد فيه النظر بكل المؤسسات والأعمال والمصالح والموارد التي تشكلت في عصر الصناعة والدولة المركزية.

لم تعد منظومات الخطاب الإسلامي المعاصر من دراسات وتشريعات تلائم مرحلة لا تؤدي فيها الدولة الدور الذي كانت تؤديه

ولم تعد منظومات الخطاب الإسلامي المعاصر من تطبيقات ودراسات وتشريعات ومناهج تعليمية في المدارس، وما تقدمه كليات الشريعة وأطروحات الماجستير والدكتوراه عن الدولة والنظام السياسي أو الاقتصادي الإسلامي، وغير ذلك من المنظومات والتطبيقات والتصورات، تلائم مرحلة لا تؤدي فيها الدولة الدور الذي كانت تؤديه من قبل، فعلى سبيل المثال؛ أصبحت معظم المؤسسات والتنظيمات الاقتصادية والخدمية، تابعة للقطاع الخاص وليس للدولة، ويتجه العالم لإسناد مجموعة أخرى من الأدوار إلى المجتمعات والمدن، حيث يصعد الأفراد كشركاء مستقلين بأنفسهم، وليس ضمن جماعات ونقابات ومؤسسات وسيطة بين الأفراد والسلطة، وتحلّ الثقافة كإطار منظم للمجال العام، بدلاً من التنظيم الاجتماعي والأخلاقي الذي تولته المؤسسات والمجتمعات على مدى القرون الماضية.
فكيف يمكن استيعاب دعوات تطبيق الشريعة الإسلامية اليوم في الدولة والتنظيم السياسي والاقتصادي ومعظمها لم يعد جزءاً من الدولة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية