سيد قطب لم يكن ديمقراطياً..

سيد قطب لم يكن ديمقراطياً (9)

سيد قطب لم يكن ديمقراطياً..


04/03/2024

لم يكن سيد قطب ديمقراطياً. يكفي أن تتطلع على آخر كتاباته حتى تدرك ذلك بوضوح. لا يعني ذلك أنّه كان شخصية استبدادية بالضرورة؛ فالرجل لم يصبح رئيساً، ولم يتحمل مسؤولية قيادة حركة الإخوان المسلمين أو غيرها من التنظيمات، كما لم يتولَّ إدارة مجموعة التفّت حوله وخاض معها أو بها تجارب تنظيمية حتى يتم الحكم عليه بكونه مستبداً برأيه، ولم يكن ديمقراطياً في قيادته وتسييره. فالذين عرفوه عن قرب يشهدون بأنّه كان شخصية مؤدبة ولطيفة وحساسة، إضافة إلى كونه مستمعاً جيداً للآخرين. لكن رغم ذلك لم يكن الرجل مع الديمقراطية كنظام سياسي يصلح للمجتمع المسلم الذي دعا إلى إعادة تأسيسه من جديد.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: تأملات في مشروع ملغوم (1)
النوايا الطيبة غير كافية وحدها لمنح الثقة في الأشخاص، وإنما يجب النظر في مجمل أقواله وأفعاله حتى يمكن الاطمئنان لهم والحكم عليهم بكونهم فعلاً ديمقراطيين. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أنّه عمد منذ السطور الأولى التي خطها في كتابه "معالم في الطريق" إلى التأكيد على أنّ الديمقراطية "انتهت إلى ما يشبه الإفلاس حيث بدأت تستعير ببطء من أنظمة المعسكر الشرقي وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية تحت اسم الاشتراكية". كما لم يكن قطب يستسيغ الحديث عن "ديمقراطية الإسلام"، وهو ما تجلى بوضوح في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام".

لم يكن قطب مع الديمقراطية كنظام سياسي يصلح للمجتمع المسلم الذي دعا إلى إعادة تأسيسه من جديد

اعتبر سيد قطب أنّ ربط الإسلام بالديمقراطية محاولة من تلك "المحاولات الذليلة التي لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة، التي لا تثبت على حال باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله!". وعلل ذلك بقوله إنّ الديمقراطية "نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر..، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضاً" في حين أنّ الإسلام "منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي، والنظام الاجتماعي الاقتصادي، والنظام التنفيذي والتشكيلي. وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب.. فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله، سبحانه وتعالى، عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله، سبحانه وتعالى - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟!

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الوجه المطمئن مقابل الوجه الآخر (2)
وصف ذلك بـ "الشرك"، مؤكداً "أنّ الإسلام هو الإسلام. والاشتراكية هي الاشتراكية. والديمقراطية هي الديمقراطية.. ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له، والصفة التي وصفه بها.. وهذه وتلك من مناهج البشر. ومن تجارب البشر.. وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس.. ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله، أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب. وهو يحسب أنّه يحسن إلى دين الله!".
لم يقف عند ذلك، بل تقدم خطوة أخرى نحو التأويل الخطأ عندما نقل الجدل حول هذه المسألة من المجال السياسي العملي إلى المجال العقائدي الصارم الذي يجعل قراءه أمام علاقتهم بخالق الكون حين كتب "إنّ الله غني عن العالمين، ومن لم يستجب لدينه عبودية له، وانسلاخاً من العبودية لسواه، فلا حاجة لهذا الدين به".

اقرأ أيضاً: سيد قطب: القفز نحو المواقع الخطرة (3)
لم يدرك قطب أنّ الحرية السياسية لا تقوم إلا من خلال تغيير طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولا يحصل ذلك إلا بإعادة سلطة القرار إلى الشعوب التي لها صلاحية الاختيار والمحاسبة ووضع السياسات. ولا يتجسد ذلك، خاصة في المجتمعات المعقدة والمتعددة، إلا من خلال إقامة نظام ديمقراطي فعلي ومحصن بآليات قوية ومؤسسات فاعلة.
تعديل الأنظمة السياسية لا علاقة له بالإيمان والكفر، أو المساس بالربوبية ومحاولة التمرد على حكم الله والتخلي عن الإسلام كدين رباني. عندما يقع تنظيم انتخابات لاختيار حاكم ما لتسيير أحوال الناس لفترة محددة، ما هي المخاطر التي سيترتب عن ذلك ومن شأنها أن تمس من الذات الإلهية وتخرج المجتمعات من الإيمان إلى الكفر؟.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الجاهلية نظرية في الخروج من التاريخ (4)
لم يدرك سيد قطب أنّ الدولة شأن بشري، وأنّ تاريخ الدولة هو تاريخ الإنسان في علاقته ببني جنسه، وأنّ بناء الدولة أو سقوطها، الانفراد بها أو مأسستها، طريقة إدارتها ووضع سياساتها، اختيار الصيغة الأفضل لاتخاذ القرار داخلها، كلها مسائل متحركة وليست ثابتة، يحددها الناس بمطلق إرادتهم، وليست جزءاً من الوحي الإلهي المفروض على المؤمنين، ولا خيار لهم فيه.

أسهم قطب مساهمة ضخمة ومعقدة في تأخير وعي الإسلاميين بأهمية الديمقراطية وأخر كثيراً في انخراطهم في تبنّيها كمنظومة

لا شك في أنّ التعددية السياسية التي كانت في مصر قبل حركة "الضباط الأحرار" التي تمت خلال 1952 كانت تجربة مريضة، نخرها الفساد، واستغلها الاستعمار والعائلة المالكة لتحقيق مآرب أخرى. لكن الاستناد إلى هذا المثال ليس كافياً للحكم على بطلان الديمقراطية والتخلي عنها. مع ذلك، فإنّ تلك التجربة المريضة والمهزوزة هي التي أفرزت كاتباً يحمل اسم سيد قطب، وبوأته ليكون من صناع الرأي في مصر.
أسهم قطب مساهمة ضخمة ومعقدة في تأخير وعي الإسلاميين بأهمية الديمقراطية، وأخر كثيراً في انخراطهم في تبنّيها كمنظومة والدفاع عنها كاختيار استراتيجي. والذين تولوا الدفاع عنه بالقول إنّه قد أسيء فهمها في هذه المسألة قد زادوا الطين بلة؛ لأن موقفه من الديمقراطية كان واضحاً شديد الوضوح. لقد وصفها بالصنم، وحول الإيمان بها إلى جريمة لا تغتفر من خلال اعتبارها شركاً واستبدالاً للإسلام. وإذا كان الإخوان في مرحلة حسن البنا قد تعاملوا مع التجربة الليبرالية المأزومة التي عاشتها مصر بمنهجية تكتيكية لتثبيت أقدامهم، فإنّ قطب قد شن هجوماً أيديولوجياً كاسحاً ضد الديمقراطية.

اقرأ أيضاً: سيد قطب و"الظلال".. اختل المنهج فسقط البناء (5)
لهذا السبب تصدى كل الذين آمنوا بأفكاره الأخيرة رفضوا الانخراط في المشاركة السياسية، وحاربوا بقوة الخيار الديمقراطي، وقاوموا بشدة فكرة الحزبية والمشاركة في الانتخابات وتفعيل دور البرلمانات. ولم يقفوا عند الرفض نظرياً بل عملوا على تخريب تجارب الانتقال الديمقراطي في مختلف الدول التي تبنت هذا الاختيار، وذلك من خلال استعمال الإرهاب واللجوء إلى العنف الفردي والجماعي حتى تعم الفوضى، واستبدلوا السلم والحريات بتوسيع دوائر الحروب الأهلية وإخضاع الشعوب لإرادة القوة والغلبة. وهو ما هيأ له تنظيم القاعدة وحوله تنظيم داعش إلى واقع فعلي وخيار دائم.

اقرأ أيضاً: سيد قطب والصحابة: الانتقاء وفن تلميع التاريخ (6)
حارب سيد قطب الاستبداد باستبداد بديل أشد فظاعة وذلاً عندما وضع الشورى في مقابل الديمقراطية، وعمل على القدح في مشروعيتها. في حين كان يعلم جيداً أنّ الشورى فقدت مضمونها الثوري العميق منذ لحظة ميلادها، وتحولت في كتب السياسة الشرعية إلى مسألة شكلية لا تحكمها ضوابط واضحة وملزمة. في حين أنّ الديمقراطية تطورت مضامينها وأشكالها، وتعددت تطبيقاتها ونماذجها، ولم يعتبرها أصحابها والمدافعون عنها بأنّها قد تحولت إلى دين يمكنه أن يعوض بقية الأديان.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: محاولة إيقاف الزمن وتأجيل النهضة الفكرية (7)

اقرأ أيضاً: عندما شرع سيد قطب حرب الحضارات (8)


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية