لماذا نتعلّق بالزمن الجميل؟!

لماذا نتعلّق بالزمن الجميل؟!


18/02/2020

رغم ارتفاع معدّل الأعمار، وتحسّن الخدمات الصحّية والتعليم، وتقدّم وسائل المواصلات والاتّصال، إلّا أنّ كثيراً من اللّقاءات في الوطن العربي، تختم بهذه العبارة الخالدة: "سقى الله تلك الأيام"! ولو جرّبنا القيام بمقاربة لمواصفات (تلك الأيّام)، لما وجدنا صعوبة في القطع بأنّها كانت (أيّاماً صعبة جداً) على كل المستويات، فردياً وجمعياً، ومع ذلك فإنّ أكثرنا ما زال متعلّقاً بها إلى حدّ بعيد.

 

 

من المنظور العقلاني البحت، يُعدّ هذا التعلّق أبرز أنماط الانشداد لسلطة الماضي، ومن شأنه أن يجمّد حركة الحاضر وأن يغتال استحقاقات المستقبل. ومن المنظور النفسي يُعدّ أبرز أشكال النكوص العاطفي للتهرّب من مواجهة تحدّيات الواقع. ومن المنظور الاقتصادي-السياسي يمثل تعبيراً عن انعدام الرغبة في تطوير علاقات وأدوات الإنتاج. ومن المنظور الثقافي يجسّد الحنين الرومانسي إلى الطفولة القريبة والبعيدة، الذاتية والجمعية.

من المنظور العقلاني يعدّ هذا التعلّق أبرز أنماط الانشداد للماضي ومن شأنه تجميد حركة الحاضر واغتيال استحقاقات المستقبل

ومع ضرورة التذكير بأنّ التوق إلى الزمن الجميل أو الرغبة في استعادة الفردوس المفقود، لا يقتصر على المجتمع العربي فقط، بل هو يشمل كل المجتمعات البشرية بتفاوت ملحوظ في الكم والكيف، فإنّ من الضروري أيضاً التذكير بحقيقة أنّ ثنائية (المجتمع/ التقدم) ترتبط بعلاقة عكسية مع التعلّق بالزّمن الجميل؛ فكلما قاوم المجتمع هذا التعلّق تقدّم، وكلّما استنام له تأخّر! ولا تلغي صحة هذا الاستنباط القاسي حقيقة أنّ المجتمعات المتقدّمة تتألّم وتعاني كثيراً جرّاء هذا التجاوز لسطوة الحنين، كما لا تلغيها حقيقة أنّ هذه المجتمعات لا تدّخر وسعاً للتخفيف من حدّة هذا الألم عبر استعادة الماضي بأدوات الحاضر أو لصالح المستقبل، كما نلاحظ مثلاً في المدوّنة السينمائية الغربية بوجه عام والأمريكية بوجه خاص، سواء من خلال العودة إلى زمن الجذور وإعادة استقرائه من منظور راهن أو من خلال العودة إلى الزمن البدائي بإطلاق وإعادة تأثيثه بأسئلة وهواجس ماثلة ومستجدّة.

اقرأ أيضاً: الجزائر وفرنسا وتركيا: آلام الماضي وأطماع المستقبل
تضم قائمة الزمن الجميل في الوطن العربي العديد من المفردات التي تنطوي أحياناً على كثير من المفارقات؛ فعلى الصعيد السياسي الذي يمتد من أوائل الثلاثينيات حتى أواخر السبعينيات، يميل المعارضون إلى تمجيد حالة المدّ القومي واليساري وتصاعد الحركات الثورية لكنهم يغفلون حقيقة تغلغل الحركة الصهيونية في فلسطين ونجاحها في الاستيلاء عليها كاملة ما بين عامي 1948-1967! كما يغفلون حقيقة تنامي ظاهرة الانقلابات العسكرية ومصادرة مظاهر الحياة الديمقراطية وتسويغ القمع السياسي باسم معركة التحرير، ما يلقي ظلالاً كثيفة من التساؤلات عن الأدوار الحقيقية للعديد من الزعماء السياسيين الذي يقدّمون عادة على أنّهم رموز الزمن السياسي الجميل، وفي طليعتهم طبعاً الرئيس المصري جمال عبد الناصر!

من المنظور الثقافي يجسّد التعلق بالماضي الحنين الرومانسي إلى الطفولة القريبة والبعيدة؛ الذاتية والجمعية

أما على الصعيد الاقتصادي المعاشي، فلا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاندهاش جرّاء واقع الفقر المدقع الذي عاشه آباؤنا وأجدادنا، وهو الواقع المسؤول – على الأرجح- عن تدني مستوى الأعمار سابقاً؛ فنمط الغذاء كان موسمياً وغير ثابت ويخلو من التوازن. صحيح أننا يمكن أن نقع على تطبيقات متفرّقة لمفهوم الاقتصاد المنزلي أو الاكتفاء الذاتي أو ترشيد الاستهلاك، لكن الصورة العامة تملي ضرورة الشعور بالشفقة على تلك الأجيال التي قلّما اختبرت تناول اللحوم بانتظام، ودعك مما يرويه 99% من العرب المعاصرين عن إقطاعيات آبائهم وأجدادهم؛ لأن هذه (السردية) ما كانت لتنتشر على هذا النحو، لولا واقع الهجرة إلى المدينة التي حطّمت الذاكرة الحقيقية للريف والبادية وأنشأت ذاكرة هجينة برعاية السوبرماركت والمول! علماً بأنني أغفلت عامداً الإشارة إلى تدني الخدمات الصحية؛ لأنّ (مطهّر الأولاد) و(الدّاية) كانا يمثّلان في كل بادية وقرية ومخيم ومدينة وزارة الصحة المسؤولة عن كل الأمراض والأدوية!

اقرأ أيضاً: يحيى القيسي: طغيان تقديس الماضي أسهم في أزمة الفكر الإسلامي

وأما على صعيد المواصلات والاتّصالات فحدّث ولا حرج؛ كانت رحلة الحج تستغرق شهوراً، وكان الانتقال من مدينة إلى مدينة أخرى تبعد عشرين كيلومتراً فقط يُعدّ سفراً حقيقياً، وكان (المكتوب) يستغرق أسابيع حتى يصل، وكان الهاتف حكراً على عِلْية القوم. ولو قيّض لأي من أجدادنا أن يقوم من قبره ويشهد ما نشهده الآن من ثورة في عالم المواصلات والاتصالات لأغمي عليه فوراً؛ فمن كان يتخيّل أننا بكبسة زر نستطيع التواصل فوراً بالحرف والصوت والصورة مع أي مكان في العالم، إلى درجة اهتزاز مفهومي الزمن والمسافة في أذهاننا وتحوّلهما إلى مجرّد لفظين افتراضيين ينتميان إلى حقبة بعيدة.

التوق للزمن الجميل لا يقتصر على المجتمع العربي بل يشمل كل المجتمعات البشرية بتفاوت ملحوظ في الكم والكيف

رغم كل هذه الوقائع والمعطيات الموضوعية التي يصعب دحضها، فسوف يظل أكثرنا يهفو إلى ما مضى بطريقته الخاصّة وبلغته الخاصّة – ولا أُعفي كاتب هذا المقال من الإصابة بهذا الافتتان- لأسباب ذاتية وجمعية؛ فمعظمنا ما زال يتوق للعودة إلى رحم الطفولة والحي والبدايات الأولى، ومعظمنا ما زال مسكوناً بزمن الأبيض والأسود في الصور والأفلام والملابس والرسائل المعطّرة وأغاني عبد الحليم حافظ وفيروز، ومعظمنا ما زال معتقلاً في روائح الخبز البيتي والقهوة المطحونة في المنزل، ولأن أبناءَنا وأحفادنا سوف يستحضرون زمننا المتوحش هذا ويختمون كلامهم عنه بالعبارة نفسها: "سقى الله تلك الأيّام"!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية