كيف سعت أدبيات الإخوان لتشكيل عقل المرأة؟

كيف سعت أدبيات الإخوان لتشكيل عقل المرأة؟

كيف سعت أدبيات الإخوان لتشكيل عقل المرأة؟


18/12/2023

في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت تجربة صحافية إسلاموية الطابع، سعت إلى توثيق حراك المجتمع المصري المحافظ ذي الطابع الإسلامي في مواجهة خطاب الحداثة الناشئ في مطلع القرن العشرين بشكل عام، وتأثير تلك الحداثة على الخطاب الموجه للنساء المسلمات بشكل خاص.

تلك التجربة كانت "مجلة المنار" التي يتم وصفها عادة بأنّها تجرية "إصلاحية"؛ أي تقع في إطار التجديد الديني، وكلمة التجديد أو الإصلاح الديني من العبارات المحيّرة في تاريخ التراث الإسلامي؛ حيث ارتبطت كلمة التجديد بالحداثة والتقدم في عقول الجماهير، إلا أنّها ارتبطت أيضاً بمحاربة البدع والتصوف ومناهضة الحراك الحقوقي أو النسوي على اعتباره من الضلالات البدعية.

هاجس حقوق المرأة
كانت قضايا المرأة وأحوالها في الإسلام من أهم المجالات التي تطرقت لها مجلة المنار، والتي تواصلت إصداراتها على مدار 37 عاماً (1898-1935) تحت إشراف وتوجهات الشيخ رشيد رضا (1865-1935)، وقد أشرف مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا على بعض إصداراتها بعد وفاة رشيد رضا العام 1935، ومن تتبع نصوص "المنار"، سنجد فيها اللبنة الأولى لأفكار حسن البنا عن دور النساء في المجتمع، خاصة مع ظهور الحركات النسوية التي بدأت في المطالبة بتعليم النساء والأدهى من ذلك "عمل المرأة"، إذ لم تكن طبيعة المجتمع ذاتها مرحبة ومنفتحة بهذه الدعوات؛ أي إنّ مجلة المنار ومن بعدها حسن البنا لم يتحديا المجتمع أو القطاع العريض من مشايخه، بل كانا يتماهيان مع المجتمع، جاءت تجربة مجلة المنار بعدما بدأت تتعالى الأصوات التي تؤصل لحقوق المرأة ومن بينها مجلة مصر الفتاة التي أشرفت عليها هند نوفل وبدأت إصداراتها العام 1892 وغيرها من المبادرات السابقة لذلك كالدعوة لتعليم الفتيات التي تبنتها أميرات السلطة ومن بينهن حشمت هانم زوجة الخديوي إسماعيل.

مجلة مصر الفتاة أشرفت عليها هند نوفل وبدأت إصداراتها العام 1892

تماهت مجلة المنار مع مطالب تعليم المرأة فأكدت أنّ الإسلام الصحيح قد ساوى بين الرجال والنساء في طلب العلم، الذي أصبح فريضة على كل مسلم ومسلمة، لكنّ التيار الأعم في المجلة، كان يؤيد تعليم المرأة في اختصاصات علوم التربية، واعتبر رشيد رضا أنّ تعليم المرأة قد يجعلها متمردة على الإذعان للرجل، فلا تلازم المنزل، فرأى أنّ المساواة في التعليم تجوز في المراحل الأولى من التعليم، على أن تتعلم المرأة تدبير المنزل والاقتصاد وعلوم الصحة والتربية والأخلاق المستمدة من الأديان، وذهبت المنار إلى الربط بين التعليم والانحلال الخلقي بين المتعلمات، ونشرت هذه الأفكار ما بين عامي 1899 و1905؛ أي قبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين بحوالي ثلاثة عقود، ولا يسعنا سوى ملاحظة التطابق بين رؤية حسن البنا ورشيد رضا في مسألة تعليم المرأة، فيقول البنا: "لا حاجة للمرأة أن تدرس العلوم لأن هذا أمر عبثي، ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في العلوم واللغات المختلفة، فستعلم عن قريب أنّ المرأة للمنزل أولاً وأخيراً، علموها ما هي بحاجة إليه وهو تدبير المنزل ورعاية الطفل".

الخوف من قوة النساء
وتوجّس الإخوان خيفة من تعليم المرأة ومن ثم عملها تماماً مثل رشيد رضا، على اعتبار أنّ العمل سيكون السبب الرئيسي في استقلالية شخصيتها، فاستقلال المرأة اقتصادياً يجعلها قادرة على عدم الارتباط برجل سواء أكان أباً أو أخاً أو زوجاً، والاستقلال الاقتصادي يفتح للمرأة باب التحرر، فتتزوج بلا ولي وتتمتع بحرية السكن وقد تعيش بعيدة عن نطاق الأسرة التي تحد من حريتها.
لذا فإنّ الآراء التي تتخيل أنّ حسن البنا جاء ليقلب الأوضاع رأساً على عقب ويؤثر في الذهنية المعتدلة الوسطية تجاه النساء قد تحتاج إلى المراجعة؛ لأنّ حسن البنا كان امتداداً لآراء شائعة مجتمعية تبنتها مجلة المنار الإصلاحية – حسب وصف القائمين عليها - من قبله، أما ما جاء به البنا يمكن وصفه بأنّه وضع تلك الأفكار في هيكل تنظيمي وكان هذا الهيكل نواة للتنظيمات الإسلامية في التاريخ الحديث والمعاصر والذي أُطلق عليه مجازاً الإسلام السياسي، وهي تنظيمات على اختلافها تستند إلى فكرة الكتائب المنظمة العقائدية.
لكن مع التغير الحداثي النسبي للمجتمعات الإسلامية تم وضع أفكار حسن البنا وغيره في الميزان، فخضع للنقد والمراجعات، كما أنّ رؤية البنا الداعية لضرورة وضع سقف لحقوق النساء هي رؤية يتبناها قطاع عريض من الجماهير اليوم، وقد تكون تلك الجماهير بلا ميول تنظيمية إخوانية، فالاختلاف التنظيمي مع الإخوان لا يعني رفض الجماهير تبني كافة أفكارهم خاصة تلك التي وضعت حدوداً إسلاموية لحقوق المرأة.

الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية
تعددت أدبيات جماعة الإخوان المسلمين التي سعت إلى تشكيل عقل المرأة المسلمة – ليس المرأة المنضمة للجماعة فحسب – وكان من أهم تلك الأدبيات كتاب "الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية" الصادر العام 1980 عن دار الدعوة التي تأسست على يد محمود شكري الرئيس الأسبق للمكتب الإداري للإخوان المسلمين بالاسكندرية، والكتاب من تأليف محمد عبد الحكيم خيال ومحمود الجوهري، الأول قيادي ومؤرخ لجماعة الإخوان المسلمين أما الجوهري فهو من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين والذي أُوكل إليه حسن البنا مهمة سكرتير فرقة الأخوات المسلمات، وحين سعى الجوهري للاستقالة، كتب له حسن البنا على ورقة الاستقالة: "الجوهري مسؤول الأخوات حتى الممات"، استهل الكتاب بإهداء: "إلى الرعيل الأول من الأخوات المسلمات أول من حملن عبء التحول الاجتماعي الإسلامي".

اعتبر رشيد رضا أنّ تعليم المرأة قد يجعلها متمردة على الإذعان للرجل فلا تلازم المنزل
ولعل هذه البداية تنم على إدراك جماعة الإخوان أنّ التحولات الاجتماعية التي يسعون إليها والتي وصفت فيما بعد بأسلمة المجتمع، هي الطريق الممهد للتمكين السياسي للإخوان المسلمين، ويلعب الزي الإسلامي للنساء دوراً هائلاً في هذه المنظومة حسب ذهنية الجماعة، وتتطابق هذه الرؤية مع ما جاء في كتابات القيادي بالجماعة محمد قطب، الشقيق الأصغر لـسيد قطب التي ظهرت من خلال كتاب "هل نحن مسلمون".

ويحدد الكاتبان خيال والجوهري فحوى الهدف من كتابهما في العبارة التالية: "نحن نريد الفرد المسلم والبيت المسلم والشعب المسلم حتى نؤثر في الأوضاع ونصبغها بالصبغة الإسلامية ودون ذلك لن نصل لأي شيء"، والصبغة الإسلامية هي مربط الفرس، هنا يوجد تأكيد بليغ على الرغبة في التمكن من الشارع والثقافة بهدف الوصول للحكم و السيطرة على عقول ومشاعر الأمة، ولهذا كان من الضروري كبح جماح النساء المتحررات لأنّ مطالبهن قد تُعطل الصبغة الإسلامية التي أرادها الإخوان المسلمين للمجتمع.
الصبغة الإسلامية التي نص عليها هذا الكتاب، بدأها مؤسس جماعة الإخوان ونادى بها على صفحات مجلة المنار في فترة رئاسته لتحريرها بقوله: "لا حاجة للمرأة أن تدرس العلوم لأن هذا أمر عبثي، خير (للمرأة) أن تصرف وقتها في النافع والمفيد، ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في العلوم واللغات المختلفة، وليست في حاجة للدراسات الفنية، وليست المرأة في حاجة للتبحر في دراسة القانون، فستعلم عن قريب أنّ المرأة للمنزل أولاً وأخيراً علمّوها ما هي بحاجة إليه وهو تدبير المنزل ورعاية الطفل".
نحو صبغة إسلاموية
واستكمالاً للصبغة الإسلامية التي أرادها الإخوان؛ شن الكتاب الهجوم الضاري على الاستقلال الاقتصادي للنساء على اعتباره السبب في استقلالية شخصيتها لتتساوى مع الرجل، فاستقلال المرأة اقتصادياً يجعلها لا تحتاج لمن يتكفل بها، كما يفتح للمرأة باب التحرر، فتتزوج بلا ولي وتتمتع بحرية السكن وقد تعيش بعيدة عن نطاق الأسرة التي تحدّ من حريتها؛ أي إنّ الإخوان المسلمين كانوا يروّجون لنزع الاستقلالية الاقتصادية عن النساء لينزعوا عنها حريتها.

كتاب "الأخوات المسلمات" كان قائماً وموجهاً إلى المرأة المسلمة التي ستعيد الصبغة الإسلامية للمجتمع بحجابها وطاعتها لزوجها ومكوثها في المنزل وعدم تبحرها في التعليم، ولأنّ المرأة هي مربية الأجيال، فكان على الكتاب التطرق لمفهوم الوطن الذي ستغرسه الأم في عقول ونفوس أولادها، ولم يكن هناك مفهوم للوطن لدى الإخوان بل كانت هناك فلسفة "لا وطن إلا الإسلام"، وهنا انتقد كتاب الأخوات المسلمات مفهوم الوطنية في العبارة التالية: "للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى المادي الوثني الذي شاع في الفكر الأوروبي الحديث والذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض، فالوطنية مزقت وحدة البلاد الإسلامية".

وهو نفس الفكر الذي روج له رشيد رضا قبل سنوات من تأسيس الجماعة، فوصف الوطنية بالعصبية الجنسية التي تسعى لإماتة الدين، سنجد فيما بعد أنّ فلسفة "الإسلام قبل الوطن"، خرجت عن أوساط الجماعة وأصبحت فكرة رائجة مجتمعيّاً، ومن هنا كانت الخطورة الكبرى وهي أنّ فلسفة وأفكار الجماعة لم تعد حكراً على المنتمين للتنظيم، وهنا يعود الفضل لنظرية الصبغة الإسلامية للمجتمع التي انتهجتها القيادات، كما استفاض الكتاب في انتقاده لحركة تحرير المرأة في مصر بانتقاد الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي لما كتبه في كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، والذي لخص فيه مشاهداته في باريس أثناء البعثة الدراسية على مدار خمس سنوات، ثم انتقل الهجوم إلى القاضي والأديب قاسم أمين، الذي أطلق دعوة لإصلاح وضع المرأة في مصر من خلال كتابيه (تحرير المرأة) 1899 م و(المرأة الجديدة) 1901م، وجاء في كتاب الأخوات المسلمات أن قاسم أمين أعد مؤامرة ضد النساء المسلمات.
الطعن في الرموز
كما اتهمّ مؤلفا الكتاب، الدكتور أحمد لطفي السيد المُلقّب بأبي الليبرالية المصرية والذي وتولى رئاسة جامعة القاهرة 1925- 1941، بأنه قاد دعوة لتدمير المرأة إلى جانب قاسم أمين، ويستهجن الكتاب دعوة لطفي السيد لضرورة تعليم المرأة دون انتظار استفتاء من الرأي العام، وهنا تستنكر جماعة الإخوان المسلمين ما قاله؛ أي إنّ الجماعة اعتبرت المرأة ملكية مجتمعية يتم الاستفتاء على حقوقها الأساسية مما رسخ لخلط المفاهيم ما بين الديمقراطية بالتصويت وما بين ديكتاتورية الأغلبية، فإن صوّتت الأغلبية على قمع حق أساسي فهذا لا يُعد نموذجاً ديمقراطياً بل استقواء للغلبة العددية، وهي القيم التي حاولت الجماعة تمريرها طيلة عملها السياسي وحتى بعد حصولها على أعلى نسبة مقاعد في انتخابات 2011 البرلمانية إبان الثورة المصرية، أما النقد الموجه لهدى شعراوي مؤسسة الاتحاد النسائي المصري في الكتاب فانصب على إنشائها نادياً أدبياً وتراءى للإخوان أن شعراوي تحمل أوزار ضلالها.

درية شفيق

أما درية شفيق فقد نالت جرعة نقد لاذعة لا بأس بها، خاصة وأنّها سافرت لنيل درجة الدكتوراة من فرنسا دون محرم، فكيف تسوّل لها نفسها أن تحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة السوربون رغم أنّ رسالة الدكتوراة الخاصة بها حملت عنوان (المرأة في الشريعة الإسلامية)، والتي سعت فيها لإثبات تكريم الشريعة للنساء؛ أي أن درية شفيق ذاتها كانت من مدرسة النسوية الإسلامية لكن بقراءة حداثية من وجهة نظرها، واشتد الهجوم عليها كونها أسست حزب النيل، والذي كان ينادي بحق المرأة في الاقتراع ودخول البرلمان وإلغاء تعدد الزوجات وتقييد الطلاق الشفهي الشائع بين الطبقات الفقيرة، ثمّ وضع الكتاب أوزار حربه ضد الداعين والداعيات لتحرر المرأة جانباً ثم عاد الكتاب ليحذر من اشتراك النساء في الحكم بأي صورة على اعتبار أن ذلك مخالف لروح الشريعة الإسلامية، حيث إنّ المساواة في الإسلام مساواة أدبية ومعنوية وليست حسية مادية في مجال الحقوق والواجبات.

الحجاب السياسي
قضية الحجاب لدى جماعة الإخوان المسلمين قضية سياسية بالمقام الأول، فمن خلالها يؤكد الإخوان على نظرية الصبغة الإسلامية وحجاب النساء بالنسبة للجماعة من المقومات الأساسية للتأكيد على إسلامية المجتمع برضاه كاملاً، الدعوة للحجاب والاحتجاب معاً بدأت منذ الرعيل الأول وحتى نشوء ظاهرة الدعاة الجدد في الألفية الثالثة والذين ارتدوا الملابس العصرية وطالبوا النساء بالزي الإسلامي الشرعي.

وما بين الرعيل الأول والدعاة الجدد يمكننا رصد عدد من الأدبيات الداعية للحجاب، في كتاب ُيعد من أدبيات الجماعة وكتابين من خارج التنظيم لجأت إليهما الجماعة في سبيل الدعوة للحجاب السياسي لكن بأسلوب التقية الدينية؛ كتاب "هلم نخرج من ظلمات التية"، بقلم محمد قطب، وكتاب "إلى كل فتاة تؤمن بالله" للشيخ محمد سعيد البوطي وكتاب "جلباب المرأة المسلمة" للشيخ ناصر الألباني.
جاء في كتاب "هلم نخرج من ظلمات التية"، أنّ الدعوة تتعجل الصدام مع السلطة وتتعجل طلب الحكم وأن هذا لا يجوز في فترة الاستضعاف، وأنّ التركيز لا بد أن ينصب على تجنيد الناس أنفسهم لقضية لا إله إلا الله، ليتباهى الكاتب بانتشار ظاهرة حجاب النساء ما بين الفنانات التي دلت على انتشار الدعوة ورسخت للمشروع الإسلامي.

"إلى كل فتاة تؤمن بالله" هو عنوان كتاب آخر تشير إليه جماعة الإخوان بالبنان، من تأليف الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي العام 1973، والشيخ البوطي لا يُعد إخوانياً تنظيمياً بل كان أزهري الدراسة وعُين عميداً لكلية الشريعة في دمشق في وقت لاحق، وعُرف عنه تأييد الرئيس السوري بشار الأسد، حتى تعرض للاغتيال العام 2013.

التغير الحداثي النسبي للمجتمعات الإسلامية وضع أفكار البنا وغيره في مرمى النقد والمراجعات

ركز كتاب البوطي على ضرورة الحجاب والاحتجاب مع التشديد على أن الله ابتلى الرجال بالفتنة والمرأة هي المسؤولة عن فتنة الرجال. استندت جماعة الإخون المسلمين في مصر إلى هذا الكتاب في حقبة السبعينيات ليؤازرهم على نشر الدعوة بالحجاب التي اعتبرتها الجماعة مدخلاً لبسط الهيمنة على الثقافة المجتمعية أي أسلمة المجتمع، وهو الكتاب الذي تم توزيعه على طالبات كلية الطب جامعة القاهرة حسب شهادة عصام العريان، القيادي بالجماعة في ندوة مسجلة العام 2012 قال فيها، بأنّه دخل كلية الطب العام 1970 ولم تكن هناك سوى طالبة واحدة محجبة بالدفعة.
إنّ الجماعة حين بدأت تمارس نشاطها الإسلامي والدعوي انتشر الحجاب دون إكراه، وكل ما كانوا يفعلونه هو توزيع منشورات وكتيبات مثل كتيب (إلى كل فتاة تؤمن بالله) ومن بعدها بدأت الجماعة تفكر في توفير "طُرح" تصلح للحجاب، فتعاملوا مع مصانع بعينها ومع المنطقة الحرة في بورسعيد بعد العام 1973، لتوفير احتياجات تكفي الفتيات الراغبات في الحجاب حينها، حيث إنّ أزياء المحجبات لم تكن منتشرة، وتم بيع الحجاب بسعر التكلفة، وهكذا لم يمضِ سوى 5 سنوات وتحجبت ثلث زميلات الكلية وكل شيء بالإقناع، وهكذا بدأت الجماعة مسيرة الحكم مع تحجيب النساء".

أما كتاب "جلباب المرأة المسلمة في القرآن والسنة" للشيح ناصر الألباني، عضو للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العام 1975 فكان من أهم الدراسات التي لجأت إليها الجماعة، وهنا نلاحظ أنّ الجماعة قد تستند إلى كتابات من خارج التنظيم طالما تخدم قضية الحجاب السياسي.
الوسطية المقنّعة
كتاب الألباني "جلباب المرأة المسلمة" كان في أصله يحمل عنوان "حجاب المرأة المسلمة" في طبعته الأولى، وهنا يفسر الألباني سبب تغيير الاسم فيقول إنّ كل جلباب حجاب وليس كل حجاب جلبابا؛ ثم استشهد بالإمام ابن تيمية الذي قال "آية الجلابيب عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن"، ولهذا السبب انشرح قلب الشيخ الألباني بعد استشهاده بكلمات ابن تيمية فأسمى كتابه (جلباب المرأة المسلمة)، وهكذا أصبحت الوسطية التي يروج لها بعض الأخوات هي ارتداء الجلباب بدلاً من تغطية الوجه الذي ُيعد غلواً، وبالعودة لمتابعة الأزياء الرائجة للحجاب في مطلع الألفية الثالثة سنجد انتشار ما يعرف باسم "الزي الباكستاني "في الأسواق المصرية، وهو عبارة عن جلباب قصير ترتديه النساء على البنطال وقد تم تدويره من خلال متاجر في الضواحي الراقية، إذ ركزت دعوة الجماعة للحجاب على طبقات مجتمعية نخبوية ومتوسطة عليا، وتم توفير حجاب متأنق عصري كجزء من اقتصاديات التدين التي تديرها الجماعة.

تعددت أدبيات الإخوان التي سعت إلى تشكيل عقل المرأة المسلمة لا المنضمة للجماعة فحسب

الحجاب والجلباب أكثر من مجرد دعوى للتقوى بل فيه رمزية وواجهة للمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية الدينية التي يسعون لحكمها، وقامت الجماعة بترويج وتسويق تلك المفاهيم تمهيداً للحظة اقتناصهم عرش مصر المحجبة المجلببة.
ومن هنا لن يضطر الإخوان حال وصولهم للحكم لفرض الحجاب كما فعل الخميني في بلاده، ويصبح الحجاب اختيار مصر الإسلامية، فالحجاب كان وسيلة الإخوان لمواجهة السلطة التي لم لا تُقر الحجاب جبراً وتركته للأعراف المجتمعية، وهو ما دفع نواب الإخوان المسلمين في البرلمان المصري العام 2006 باقتراح فرض الحجاب ومنع النقاب، وكان اقتراحاً شفهياً حينها خارج أروقة مجلس النواب، وكان ذلك دليلاً على أنّ الجماعة تعرف حدودها في مناطحة السلطة، وهنا تتجلى لنا فلسفة محمد قطب المهادنة أو التي تسدد الضربات الناعمة من خلال الحشد المجتمعي، كما اعتبرتْ الجماعة الحجاب رمزاً سياسيّاً تماماً وهذا يفسر طلب الجماعة لفرض الحجاب على نساء مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر العام 1953 أثناء المفاوضات مع الضباط الأحرار على كعكة السلطة، لهذا تعتبر جماعة الإخوان ظاهرة خلع الحجاب في بعض الطبقات الاجتماعية بمثابة الحرب الضروس ضد ما تم إنجازه عبر عقود.
الكتائب النسائية وسنوات التأسيس
النسوية تقع تحت مظلة حقوق الإنسان بشكل عام وليس التصنيف الجندري فحسب، فحقوق المرأة ليست حقوقاً فئوية كما تروج بعض الجماعات الإسلامية، وقد تفتق ذهن مؤسس جماعة الإخوان المسلمين أن الحراك الحقوقي النسوي في مطلع القرن العشرين لا بد أن يُواجه ليس فقط بإنكار الخطاب والهجوم عليه ولكن بتقديم نسوية مضادة، حتى وإن لم يستخدم البنا مصطلح النسوية في زمانه، فلا نسوية في الإسلام حسب الإخوان وإنما هناك حقوق شرعية غير مسموح بتجاوزها، فحقوق المرأة في فكر البنا والأخوات المسلمات يستند إلى فلسفة المرأة الجوهرة التي تقر في منزلها مكرمة في مملكتها تمارس وظيفتها الطبيعية كزوجة وأم.

لهذا وبعد خمسة أعوام من تأسيس الجماعة؛ أي في العام 1933، شكّل حسن البنا ما أسماه فرقة الأخوات المسلمات، وإمعاناً للسيطرة على نهج الفرقة وضع لها لائحة، أهم ما جاء في اللائحة هو تعهد المسلمة بالتمسك بآداب الإسلام ونشر الفضيلة وتظل رئاسة الفرقة لمنصب مرشد الإخوان، وحرص أن يكون البنا رئيساً للفرقة ومحمود الجوهري سكرتيراً لها، وهذا بدافع ممارسة القوامة من ذكور الجماعة على نسائه.

لبيبة أحمد

وكانت أول رئيسة للقسم هي لبيبة أحمد والتي بدأت مهمتها بكتابة رسالة للأخوات ورد فيها ضرورة نشر تعاليم الإسلام، وبث آدابه ومبادئه في نفس الفتاة المسلمة والأسرة المسلمة، وهنا يتضح أنّ مهمة الجناح النسوي لم يكن حقوقياً بل كان عقائدياً.

"نشر الفضيلة الإسلامية" هو نقطة الارتكاز في خطاب الأخوات للترهيب من الحراك النسوي على اعتبار أنّ النسوية مخطط تغريبي يهدف لهدم الإسلام من خلال المرأة، فأصبح الإسلام معلقاً في رقاب النساء المسلمات، اللاتي يهدمن الإسلام كلما ارتفعت سقف مطالبهن؛ أي إنّ الأخوات روّجن لخطاب الذنب لكبح جماح الحراك النسوي، هذا التنظيم انبثق من الجماعة كما انبثق الاتحاد النسائي من داخل حزب الوفد 1923 عملاً بمبدأ العين بالعين، لكن التنظيم النسوي الإخواني كان أشبه بكتيبة نسائية من داخل الجماعة، وإن تمعنا النظر في أسماء أعلام الأخوات المسلمات سنجدهن عدداً لا بأس به من زوجات القيادات أو كريماتهم.
على سبيل المثال: أمينة قطب، شقيقة سيد قطب، زوجة القيادي بالجماعة كمال السنانيري، حميدة قطب شقيقة سيد قطب الصغرى، نعيمة خطاب الشهيرة بنعيمة الهضيبي زوجة حسن الهضيبي المرشد العام الثاني للجماعة، والذي تولى مهمته العام 1951.

الجماعة قد تستند إلى كتابات من خارج التنظيم طالما تخدم قضية الحجاب السياسي

انصبت الأدوار الأساسية للأخوات على الدعوة والنشاطات الاجتماعية الصحية، أو بالأحرى تأسيس منظومة موازية في المناطق الجغرافية التي غاب عنها الاهتمام بالحكومي، لكن تلك الأدوار اتخذت بُعداً استراتيجياً حركياً في وقت المواجهات الصريحة مع السلطة، ونذكر مثلاً دور حميدة قطب والتي لعبت دور همزة الوصل بين واحدة من أهم أعلام الجماعة زينب الغزالي وسيد قطب في محبسه في ستينيات القرن الماضي، وقد كتبت حميدة مذكراتها من خلال مجموعة قصصية العام 1968 أهدتها إلى شقيقها سيد قطب وأسمتها "رحلة في أحراش الليل".
كان اسم زينب الغزالي كذلك من أكثر الأسماء التي يتم ترديدها على اعتبار أنّها القدوة الحسنة للمسلمات الحريصات على التمسك بدينها، خاصة وأنّها خدمت الدعوة بعدما أعلنت توبتها وانشقاقها عن الاتحاد النسائي التي أسسته هدى شعراوي، كانت هذه رواية الأخوات المسلمات اللاتي اخترقن مجتمع الطبقات الوسطى والميسورة، زينب الغزالي هي من أهم رموز جماعة الإخوان المسلمين وليس لجناحها النسائي فقط، وكتابها أيام من حياتي كتب بلغة المظلومية والتقية الإخوانية، ولم يرد في مذكراتها ما يذكر عن حقوق المرأة سوى الالتزام بالدعوة وهكذا أسست الغزالي لنسوية أصولية إسلامية. ومن بين شذرات كتابها تقول: "فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية والطاعة واجبة علينا لإمامنا المبايع على أن إقامة الحدود مؤجلة"، وفي موضع آخر تقول: "نحن نعتقد أنّ الحكم القائم حكم جاهلي يجب أن يزول لا بالحديد والنار وإنما بوجود قاعدة إسلامية عريضة لا بد أن نخرجكم أولاً من الجاهلية"، وهنا تتفق رؤية الغزالي مع رؤية محمد قطب الذي تراءى له أن هزيمة السلطة هي بناء مجتمع يطالب بتطبيق الشريعة.

هنا كانت قيمة زينب الغزالي للإخوان حيث كانت تتقمص دور الصحابيات الداعيات للجهاد في رسائلها، والتي كانت بعيدة عن تمكين نسوي حقيقي، فقضية المرأة داخل الجماعة دعوية لا حقوقية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية