"بنت مكة".. بأي سياق اجتماعي جاءت؟

"بنت مكة".. بأي سياق اجتماعي جاءت؟


26/02/2020

قبل نحو أسبوعين أطلقت فتاة سعودية أغنية راب تتغنى فيها بجمال وقوة بنات منطقة مكة المكرمة. وحظيت الأغنية بمئات آلاف المشاهدات على موقع يوتيوب، لكنها جرّتْ على صاحبتها سيلاً من الانتقادات اللاذعة، وأعادت السجال حول ضوابط الذوق العام، كما تذكر "بي بي سي".

اقرأ أيضاً: ما هي أبرز ردود فعل الفنانين على قرار منع المهرجانات في مصر؟
وبعيداً عن الوقوف مع أو ضد الأغنية، فإنّ من المهم الإضاءة على المعاني السوسيولوجية التي تحيط بالحادثة وتفاعلاتها وما هو أبعد منها. فقبل أعوام كتب صحافي سعودي مقالاً في صحيفة "الحياة" تحدث فيه عن "غياب الفردانية في المجتمعات السعودية، فالسعودي الفرد الجامع للهوية والمستقل بها مغيّب تماماً تحت ضغط الأسرة الكبيرة والحمولة والجماعة والعشيرة، وبالتالي فالهوية الوطنية اللاحقة غير موجودة بغياب مفرداتها الأساسية وتفاصيلها المركبة لها"، على حد تعبيره. كان ذلك المقال في العام 2016، وبعد أربعة أعوام عليه نجد أنّ مياهاً كثيرة جرت، وحملت معها تحولات أساسية تصاعدت فيها الفردانية؛ تحت تأثير السياسات الرسمية السعودية في الانفتاح الاجتماعي والترفيه، وإقرار قوانين لصالح المرأة، وتحت تأثير الاتساع المتنامي في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة لدى الأجيال الجديدة الشابة، من الإناث والذكور، للتعبير عن الذات، وتسجيل اليوميات والذكريات، والتعليق على مختلف الشؤون والقضايا.

أطلقت فتاة سعودية أغنية راب تتغنى فيها بجمال وقوة بنات منطقة مكة. وحظيت بمئات آلاف المشاهدات على موقع يوتيوب

وإذا كان الحضور السعودي على وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية حضوراً قوياً وواضحاً، فإنّ هذا ينسحب أيضاً على مجتمعات خليجية أخرى، وجدت في شبكات التواصل متنفساً بديلاً في كثير من الأحيان عن أشكال الترابط والتواصل التقليدية؛ مثل العائلة الممتدة، والمحيط أو البيئة ذات الصبغة الدينية، ومجتمع الجيران، بذريعة أنّ الأخيرة باتت لا تعمل- في التواصل وتعزيز الحاجات الفردية- بالشكل الأمثل الذي تفعله وسائل التواصل الاجتماعي، وما تتضمنه من "قروبات" وصداقات ومعارف وعوالم متشابكة، وهو معنى أشارت إليه دراسة صدرت نهاية العام الماضي عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS".

اقرأ أيضاً: جدل واسع في مهرجان موسيقي بأمريكا.. هل هي العنصرية؟
في هذه الدراسة يلاحظ معدّها، جون ألترمان، أنّ ثمة تصاعداً في النزعة الفردية في المجتمعات العربية، والخليجية خصوصاً، وهي (النزعة) تواجه تحديات أمام بطريركية الأسرة والعشيرة أو القبيلة والمسؤولين الحكوميين. ويلحظ ألترمان بأنّ الإشراف الذي يمارسه كبار السنّ على الأجيال الجديدة يقلّ، كما أنّ الدعم الذي يقدّمه أفراد الأسرة لبعضهم بعضاً يقل كذلك. والأسرة النووية تكاد تكون هي الأساس الأوسع انتشاراً، في ظل تراجع قوي للأسرة الممتدة وسطوتها على الأفراد، وعلى وجه الخصوص الأجيال الجديدة. ولا شك في أنّ التكنولوجيا وطفرة الاتصالات قد منحت الأفراد أفكاراً جديدة، ومصادر مختلفة للمعلومات، وخيارات واسعة للترفيه والتفاعل، وخلقت لهم عوالم أخرى عززت من شعورهم وتقديرهم بهوامشهم الخاصة واستقلاليتهم النسبية.
في أغنية "بنت مكة" تظهر بشكل واضح وصريح النزعة الفردية، حتى لو كانت تنطوي على امتداح وافتخار بالجماعة، بنات مكة. تقول الأغنية:
" أنا بنت مكة.. أصيلة وعشانها تشقى (تتعب). وقت الشدة ما نتكى (لا تكثر متطلباتنا). يشد بي الظهر، تلاقيني على الدكة ( مقعد مرتفع).. فل وكادي الشعر مسقى".

بعيداً عن الوقوف مع أو ضد الأغنية المهم الإضاءة على المعاني السوسيولوجية التي تحيط بالحادثة وتفاعلاتها وما هو أبعد منها

تتغزل كلمات هذه الأغنية، التي رفعت على موقع يوتيوب في 13 شباط (فبراير) 2020، بخصال بنات مكة كالجمال والعلم والكرم. ووفق موقع "بي بي سي عربي" فإنّ الأغنية صُوّرت على طريقة الفيديو كليب. وفي مطلعها، تظهر مغنية محجبة، عرفت نفسها باسم أصايل، في مقهى معظم العاملين فيه من النساء، بحسب ما ذكرته مواقع سعودية. كما تضمن الفيديو لوحات راقصة يؤديها أولاد وفتيات صغار بأسلوب "بريك دانس".
ولعلّ من المعاني العامة، وخصوصاً السوسيولوجية، التي تترافق مع تصاعد الإحساس بالفردية، وتراجع تأثير العوائل والقبائل على الشريحة الشابة وصغيرة السن في منطقة الخليج، أنّ ذلك يستدعي الرهان على تعزيز مكانة الحكومات والمؤسسات وإنفاذها لسلطة القانون وتعزيز رابطة المواطنة؛ لأنّ ذلك شرط أساسي لتنامي الإحساس بالفردية، ونيل الحقوق الشخصية، التي هي في الحقيقة رسمٌ للحدود، ولعلّ ذلك ما لاحظه منذ قرن من الزمان المؤرخ فردريك جاكسون تيرنر حين قال إنّ "الحدود تُنتِج الفردانية".

جون ألترمان: ثمة تصاعد في النزعة الفردية في المجتمعات العربية والخليجية خصوصاً، تواجه تحديات أمام بطريركية الأسرة والعشيرة

مجلة "فوغ" العربية كانت قد لاحظت في تقرير-حول تحولات العباية الخليجية وحضور الشخصي بقوة في هذه التحولات- نشرته في نيسان (إبريل) 2019 أنّ العباية السوداء أصبحت خلال العقود الثمانية الأخيرة جزءاً من الهوية الثقافية للمرأة الخليجية. وخلال العقدين الأخيرين طرأت عليها تغيّرات كثيرة على مستويات مختلفة. فقد تجلّت الحاجة، بحسب المجلة، إلى التعبير عن الأسلوب الشخصي في البداية باعتماد الزخارف المطرّزة وأحياناً الملوّنة على العباية السوداء التي بقيت واسعة طويلة تلامس أطرافها الأرض، وكانت تخفي تحتها الزينة والأزياء الأنيقة. وذكرت "فوغ" أنّ اهتمام المرأة الخليجية بالموضة العالمية وانفتاحها على الاتجاهات والصيحات المختلفة، خصوصاً مع تطوّر القدرة الشرائية، جعلاها تبحث عن أسلوبها الخاص من دون التخلّي عن العباية. لكن الأخيرة تحوّلت، كما جاء في كتاب Fashion talks: Undressing the Power of Style، "من زيّ تقليدي إلى تعبير عن الأسلوب… وطرأت عليها تحوّلات كبيرة كتلك التي طرأت على النساء اللواتي يرتدينها". المجلة النسائية لاحظت أيضاً تنوّع الألوان في العبايات؛ حيث ظهر في الإمارات، وفي جدة في السعودية قبل أن ينتقل أخيراً إلى مدينة الرياض، كما شرحت المصمّمة السعودية نورا الدامر "ظهرت العباية الملوّنة في جدة قبل عشرة أعوام، لكنها الآن بدأت الانتشار في الرياض. وكما هو معروف فإنّ الرياض مدينة محافظة لا تتبنّى المظاهر الجديدة بسرعة وسهولة. ويمكن القول إنّنا منذ (نحو عام)، بتنا في الرياض نرى العبايات الملوّنة".
في المحصلة، "بنت مكة"... مناسبة لدراسة كل ذلك وغيره بعمق أكثر وتروٍّ ومنهجية علمية. وإذا كان العقدان الماضيان من الألفية الثالثة، قد شهدا-في العالم العربي- طغياناً للأيديولوجيا، فعسى أن نشهد في العقد الحالي حضوراً للسوسيولوجيا؛ كي نفهم أكثر، وبصخب أقل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية