المساجد عبر التاريخ.. بين الوعظ والسياسة

المساجد

المساجد عبر التاريخ.. بين الوعظ والسياسة


08/02/2018

منذ العصر النبوي، لم يقتصر دور المساجد على تأدية الصلوات وبعض العبادات؛ بل كان أقرب إلى مقرّ لتداول وإقرار القرارات السياسية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي الناشئ وإدارة الدولة، كعقد الاجتماعات العامة، ومجالس الشورى واتخاذ القرارات "التشريعية".
فضاء اجتماعي ومركز المدينة
كان المسجد النبوي في العصر الراشدي مقراً لعقد البيعات للخلفاء، ويؤم الخليفة المصلّين ويخطب الجمَع بوصفه الحاكم السياسي، ممارساً بذلك دوره في مخاطبة الرعية والتواصل المباشر معهم، كما كانت تعقد فيها المناقشات والمشاورات بين أعلام المسلمين وقادتهم، ومن المساجد كانت تتم تعبئة الجند وتجهيزهم قبل انطلاقهم إلى الفتوحات والغزوات.

اعتُمِد المسجد مكاناً لعدد من الفعاليات السياسية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي الناشئ كالاحتفال بالأعياد وتوزيع الغنائم وتعليم القرآن

واكتسبت المساجد وظائف أخرى مهمّة منذ العصر الراشدي بعد انتشارها في المناطق التي دخلها الإسلام؛ حيث كان الأمراء يباشرون في بناء مساجد وسط الأمصار بعد الفتوحات مباشرة، وكان الجامع الرئيسي يُبنى بجانب دار الإمارة؛ إذ ارتبطت المساجد بكونها المكان المركزي في المدينة الإسلامية، باعتبارها مكان وفضاء التجمع الرئيس، والواسطة التي يتم التواصل من خلالها مع الرعيّة، كما شكّلت مع مآذنها مَعلماً أساسياً من هوية المدينة الإسلامية، بالإضافة إلى ذلك مثّلت الأداة الأهم في نشر الدين الجديد، ومعه اللغة العربية، في البلدان المفتوحة؛ حيث بدأت المساجد تكتسب دورها في تعليم الناس شؤون الدين وأركانه.

اعتبرت المساجد بمثابة المركز للمدينة الإسلامية

تنامي الدور السياسي
ومع بداية الانقسامات السياسية الكبرى في التاريخ الإسلامي، تكرّس الدور السياسي للمسجد؛ إذ اعتمدتها الحركات المعارضة، كالدعوات المناصرة لحكم آل البيت وحركات الخوارج، في حشد الدعم والتأييد، ونشر التحرك المعارض للحكام، كما في ثورة المختار الثقفي على الدولة الأموية؛ إذ اتخذ جامع الكوفة مقراً أساسياً. وفي المقابل استعملها الحكام للدعوة من منابرها لطاعتهم ومحاربة أعدائهم، وبث الخطاب الديني الموالي لهم.
وهكذا أخذت الدلالات والأهمية السياسية للجوامع تتضاعف، ويأتي في هذا السياق أيضاً اعتبار السيطرة على جوامع معينة مصدراً لشرعية الحكم، فقد اعتبر الزبيريون (نسبة لعبدالله بن الزبير) سيطرتهم على الحرمين سبباً لأحقيتهم في الحكم وخلافة المسلمين، في المقابل قدم الأمويون سيطرتهم على قبة الصخرة والمسجد الأقصى سبباً لاكتساب نوع من الشرعية الدينية.
وفي العصر العباسي تم التوسع في بناء المساجد كتعبير عن هيبة الدولة واستقرار ملكها، ومن ذلك بناء المعتصم لجامع سامراء، وجامع ابن طولون في القطائع.
الدور العلمي
وعلى مستوى آخر، بدأ الدور العلمي للمساجد بالتبلور منذ زمن مبكر، فمع استقرار الصحابة في الأمصار، بدأت تنشأ لعدد منهم حلقات علمية، كما كان لابن عباس وابن مسعود، وشهدت تلك الحلقات نقل القرآن والحديث والفقه من الصحابة إلى التابعين، ومن خلالها بدأت تتبلور المدارس والآراء المتباينة في البصرة والكوفة وغيرها من الأمصار؛ حيث احتضن مسجد البصرة مولد أول مدرسة للفقه والحديث وعلم الأصول والفلسفة، وهو المسجد الذي درّس فيه الحسن البصري وواصل بن عطاء رأس المعتزلة، كما بدأت تنشأ ظواهر ثقافية-اجتماعية أخرى كظهور القُصّاص والوعاظ والمذكّرين في مساجد الشام.

في العصر العباسي تم التوسع في بناء المساجد تعبيراً عن هيبة الدولة واستقرار ملكها

ونجد في خطط المقريزي وصفاً لجامع ابن طولون في القاهرة باعتباره مؤسسة قضائية وعلمية، مشيراً إلى احتوائه حجرة مخصصة للخدمات الطبية، كما تبلورت وظهرت فكرة الجامعات داخل الجوامع، كما في جامعة القرويين في فاس، والجامع الأزهر في القاهرة، بالإضافة إلى ظهور المكتبات العامة وارتباطها بالمساجد.

كان جامع ابن طولون بمثابة مؤسسة قضائية وعلمية كما وصفه المقريزي آنذاك

الجوامع منبراً لنشر المذاهب
ومنذ القرن الرابع الهجري، ومع انفصال كثير من الأقطار عن الخلافة العباسية، وظهور عواصم مستقلة، وتعدد مراكز الخلافة، ظهرت الجوامع الكبرى كنوع من التأكيد على الاستقلالية، ومن ذلك جامع قرطبة، حاضرة الخلافة الأموية في الأندلس، والجامع الأزهر الذي بناه الفاطميون وأرادوه منبراً لنشر المذهب الشيعي الإسماعيلي والعلوم الباطنية، إضافة إلى العلوم الطبية والطبيعية.

شهد مسجد البصرة مولد أول مدرسة للفقه والأصول والفلسفة وقد درّس فيه الحسن البصري وواصل بن عطاء

ومع التحول السياسي، ووصول الأيوبيين إلى الحكم في مصر، صار الأزهر أحد أعمدة تدريس المذهب السني، وقد عُرف عن الأيوبيين سياستهم في نشر هذا المذهب بعد قضاء صلاح الدين على دولة الفاطميين؛ حيث اهتموا ببناء المدارس من أجل تعليم المذاهب السنية الأربعة، والتي كان عدد منها جزءاً من المساجد أو ملاصقاً لها.
وفي العهد المملوكي، ظهرت المساجد كمركبات ومجمعات، بحيث تتكون من عدة أبنية متجاورة، فتضم المدرسة والبيمارستان (مستشفى) وقبة ضريحية للمنشأ، ومقابر، بالإضافة إلى سكنات لطلاب العلم، فضلاً عن الكُتاب والسبيل، ومن الأمثلة على هذه المجمعات جامع السلطان حسن في القاهرة.

اشتمل جامع السلطان حسن في القاهرة على مشفى ومدرسة وسكنات ومقابر

الحقبة المعاصرة
أما في الحقبة المعاصرة وخاصة مع بدايات القرن العشرين، ونظراً إلى انفصال وتطور المؤسسات التعليمية والاجتماعية، أخذ دور المساجد بالعموم ينحسر في العبادة والصلاة، وأحياناً الدروس الوعظية وتحفيظ القرآن، وقد حرصت عدد من الدول على تقليص دور المسجد، وفي بعض الأحيان تم التعامل معها، وخصوصاً التاريخية منها، باعتبارها نوعاً من المتاحف والمعالم الأثرية.
ولكن المسجد المعاصر احتفظ بشكل من الأدوار السياسية والتثقيفية، فقد تم الحفاظ على دور المنبر باعتباره أداة لبث الخطابات السياسية الموافقة للسلطة، خاصة مع وجود وزارات الأوقاف والشؤون الدينية ودورها في متابعة الخطباء. كما تم استعادة الدور الوعظي، وهو ما نجده في نموذج الدروس التي كان يلقيها الشعراوي وكشك، في المساجد المصرية.
ومن الأدوار السياسية التي اكتسبها المسجد الحديث، ما ظهر مع اندلاع الحركات الاحتجاجية في الدول العربية؛ حيث برز مشهد خروج المظاهرات من الجوامع التي تقودها الحركات ذات التوجهات الدينية، وهو ما أرجعه عدد من الاجتماعيين إلى افتقار المدن العربية للمساحات والفضاءات العمومية.

خروج المظاهرات من الجامع الحسيني وسط عمّان بات مشهداً مألوفاً في السنوات الأخيرة

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية