لماذا لا يتوقف المصريون عن الإنجاب؟

مصر

لماذا لا يتوقف المصريون عن الإنجاب؟


01/03/2020

بقدوم الطفلة ياسمين رمضان من محافظة المنيا في صعيد مصر، وصل تعداد المصريين في الداخل إلى 100 مليون نسمة، بحسب ما أعلنت الساعة السكانية التابعة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ولم تمض سوى 24 ساعة، حتى استقبلت مصر قرابة 5 آلاف مولود جديد، بمعدل طفل كلّ 18 ثانية.
وثمة سؤال يكثر طرحه هذه الأيام: لماذا لا يتوقف المصريون عن الإنجاب؟
في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2019، تساءل رئيس الوزراء المصري، الدكتور مصطفي مدبولي، في جلسة مع رؤساء تحرير الصحف القومية، قائلاً: "تخيّلوا لو توقفنا عن الإنجاب لعامين أو ثلاثة كيف سيكون شكل الدولة؟"، لكنّ الإجابة كانت أكثر قسوة وضدّ أمنيات الحكومة، بعد أن جاءت الطفلة ياسمين، في منتصف شباط (فبراير) 2020، والحقيقة أنّ معدل الزيادة السكانية لم يكن يشغل بال الحكومة المعاصرة فحسب، لكنّه الهمّ الأكبر للحكومات المتعاقبة، منذ إجراءات الانفتاح الاقتصادي للسادات في السبعينيات، والذي أثاره الرئيس وحكومته بإلقاء اللوم على الشعب الذي يتكاثر بمعدلات أكبر من أن تتحملها الدولة، ثُم جاء الرئيس الراحل، محمد حسني مبارك، وقرينته التي شحذت كلّ جهودها من أجل القضاء على الزيادة السكانية، وباءت محاولاتهما بالفشل؛ فوفق تقرير الأمم المتحدة عن الزيادة السكانية في مصر، الذي نشرته عام 2000، توقع أن يصل تعداد المصريين إلى 96 مليون نسمة، بحلول عام 2026، إلّا أنّ الأمر تجاوز توقعات الخبراء، وهو ما دفع اللواء أبوبكر الجندي رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عام 2018، بوصف هذا الزحف السكاني الذي لا يمكن كبح جماحه بالكارثة الكبرى.

 الطفلة ياسمين رمضان

وفق دراسة مشتركة بين مدير برنامج تنمية شمال أفريقيا بالبنك الدولي، ساجد شاه، ومنسق برنامج التعليم والمعرفة بالبنك الدولي، عمر كاراسابان، حول الزيادة السكانية في مصر؛ فإنّ مصر ليست الوحيدة من دول العالم التي تعاني النمط نفسه من الزيادة؛ فباكستان، على سبيل المثال، تتشارك معها في نمط الزيادة نفسه عن الفترة نفسها، ويُرجعان ذلك إلى عدة أسباب منها: عدم الوعي الكافي بأهمية وسائل منع الحمل، والإسراع في الإنجاب عقب الزواج، ناهيك عن زواج القاصرات وتعدد الزوجات، ونمط الحياة المحافظ الذي يجعل من الإنجاب أمراً لا فكاك منه، خاصة في الوجه البحري والصعيد، المساهم الأكبر في نسبة الزيادة السكانية، وفق الطبيعة الثقافية لهذه الكتلة السكانية، وبحسب وصف الباحثين؛ فإنّ حملات تنظيم الأسرة التي بدأت في السبعينيات، قد أتت أكلها؛ إذ تراجع معدل النمو بحلول عام 2005، من 3.5% إلى 1.7%، لكن منذ عام 2008، بدأت الأمور في التصاعد مرة أخرى، خاصة بعد 2011، وتوجيه أصابع الاتهام إلى أحداث يناير، وحكم الإخوان المسلمين، الذي يشجع على الإنجاب من منظور إسلاموي.

فوبيا الدولة من الإنجاب
تستقي الأنظمة الحاكمة المعاصرة، خوفها من الزيادة السكانية، من نظرية مالتوس للسكان، والتي أسست لما أسماها توماس مالتوس "الزيادة الأسية للموارد المتاحة"؛ بينما يتزايد السكان عددياً، الطبيعة حتماً ستتدخل بالكوارث الطبيعية والمجاعات، لإعادة التوازن بين السكان والموارد المتاحة، وظلّ هذا الخوف سائداً، حتى في أغنى بلدان العالم، التي صارت تندّد بالزيادة السكانية، على سبيل المثال؛ الولايات المتحدة الأمريكية، لكن بحسب الباحث في علم السكان وعلاقته بالاقتصاد الزراعي، ليمان ستون، في مقال له على موقع "فوكس"؛ فإنّ دولة مثل الولايات المتحدة تخشى الزيادة السكانية وترهب الناس منها، ليس لشيء إلّا كنوع من أنواع التحكم في الشعب، لأنّ ما تنتجه البلاد من غذاء يكفي لإطعام ما يزيد عن 400 مليون شخص، هذا إذا لم نأخذ في الحسبان عامل التطور التكنولوجي، الذي يزيد من الإنتاجية الزراعية بوتيرة متسارعة، لكنّ حكومات الدول المتطورة وجدت ذريعة أخرى لترهيب الناس من الإنجاب، وهي التغيّر المناخي، في حين أنّها لا تلقي بالاً للشركات العالمية التي تعدّ السبب الأول في الاحتباس الحراري.

اقرأ أيضاً: هل تعبر فلسفة اللاإنجاب عن نظرة تشاؤمية؟

في كتابه "المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة"؛ يطرح الباحث الاقتصادي المصري الراحل، الدكتور رمزي زكي، نقداً للمالتوسية الكلاسيكية، ويستعرض أفكاراً لاقتصاديي القرن التاسع عشر، التي اتفقت مع مالتوس في الترهيب من الإنجاب، واعتباره السبب الأوحد للبؤس والفقر، دون أن يلقي بالاً إلى أنّ الفقر هو ما يدفع الناس إلى كثرة الإنجاب، وليس العكس، هذا ما أكدته أستاذة الاقتصاد بجامعة الأزهر، الدكتورة كريمة كريم، في حديثها مع "حفريات": "كانت نظرية مالتوس أحد روافد الحقبة الاستعمارية التي احتلت فيها بريطانيا وفرنسا والعديد من بلدان أوروبا العالم بأسره، وقبل أن يكون للتكنولوجيا الحديثة، خاصة الزراعية، وجوداً، لكن ما يجب أن يلتفت إليه السياسيون المعاصرون، أنّ كثرة الإنجاب لا تحدث إلّا من قبل الفقراء، فالفقير الذي لا مورد له، تتركه الدولة خالي الوفاض من أيّ دعم اجتماعي، فيلجأ إلى ما وهبته له الطبيعة من منحة، وهو الإنجاب، ليصبح هؤلاء الأبناء لاحقاً هم مصدر الدخل الدائم له، وهذا لا يحدث في مصر فقط، بل في كلّ بلدان العالم الثالث، ولنا في الصين والهند أكبر الأمثلة على ذلك، فالزيادة السكانية حوربت بسياسات التعليم المتطور، ومحاربة الفقر، لا الفقراء".
غلاف كتاب "المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة"

إعادة الإحياء
وفق قانون الغلة المتناقصة؛ فإنّ المالتوسية الكلاسيكية وجدت صدى واسعاً لدى طبقة رجال الأعمال بعد الثورة الصناعية، ما جعل العديد من المفكرين يتبنوها حتى ظهرت الكينزية، في الثلاثينيات من القرن الماضي، على أنقاض الكساد الكبير، وتراجعت الأصوات المتعالية المطالبة بتحديد النسل، في مقابل الاهتمام بتحقيق التشغيل الكامل، والقضاء على البطالة والفقر، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتعيد إحياء المالتوسية في ثوب جديد، خاصة الدراسات التي تناولت آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، موجهة أصابع الالتهام إلى الزيادة السكانية، دون النظر إلى عامل التخلف الذي خلفه استعمار تلك المناطق لعقود متتالية، وفي مقدمتها الهند والصين، صاحبتا أكبر نصيب من الزيادة السكانية عالمياً، لذلك لا تخلو المراجع التي كتبت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، من الحديث عن الزيادة السكانية، كمسبب أولي للفقر وتلويث البيئة، وبالنظر إلى الأسباب الحقيقية للتلوث البيئي، فقد أصدرت جامعة "لانكستر" ورقة بحثية، في مطلع 2019، توضح فيها أنّ الجيش الأمريكي صاحب أكبر بصمة كربونية على البيئة في التاريخ.

اقرأ أيضاً: نخاف الإنجاب في هذا المكان الآن.. سوريّات يخشين الأمومة

كما أوضحت الورقة؛ أنّه إذا كان الجيش الأمريكي دولة قومية، فسيكون أكبر 47 دولة تنبعث منها الغازات الدفيئة في العالم، إذا أُخذت في الاعتبار الانبعاثات الناتجة عن استخدام الوقود فقط، لذلك لا يجد الباحثون حرجاً في الترويج العالمي لعلاقة تغير المناخ بالزيادة السكانية، ليس إلا لصرف الأنظار عن الجرائم البيئية التي يرتكبها الجيش الأمريكي إلى جوار الدول الصناعية الكبرى والشركات العابرة للقارات بحقّ كوكبنا، لكن لا تكف كتابات الباحثين عن مطالبة الدول الفقيرة بالكفّ عن الإنجاب إذا كان هؤلاء البؤساء يطمحون لحياة أفضل، وقبل قرنين من الزمان جادل الفيلسوف الألمانيّ، كارل ماركس، ورفيقه فريدريك انجلز، مالتوس وأطروحته، اللذان أوضحا أنّها ليست سوى ترسيخ لابتلاع الثورة الصناعية للعمال الفقراء واستغلالهم، ومطالبتهم بالكفّ عن المتعة الوحيدة في حياتهم، لأجل أن يراكموا ثرواتهم، ويلاحظ هذا التأثير بالنظر إلى التقارير الدولية التي تتحدث عن معدل الثروة في مصر، وكذلك معدلات الفقر؛ إذ تقع مدينة القاهرة ضمن أغنى مدن أفريقيا، بينما تخبرنا الحكومة في أواخر عام 2019؛ بأنّ الفقر في مصر قد وصل إلى أكبر معدلاته في منذ أكثر من مئة عام.
من يقتطف ثمار التنمية؟
في نهاية 2018؛ قدّم (New World Wealth and AfrAsia Bank)، تقريره الدوري حول الثروة في أفريقيا؛ إذ احتلت القاهرة المركز الثاني بعد كيب تاون في جنوب أفريقيا، فالمدينة الأكبر في أفريقيا، والتي تخطى تعدادها السكاني 30 مليون مواطن، ويبلغ إجمالي الثروة الموجود فيها 129 مليار دولار أمريكي، وتضمّ 4 من أصحاب المليارات، متفوقة على جنوب أفريقيا، بينما تمتلك أشخاصاً على قائمة الـ 20 الأكثر ثراء في العالم، بينما طالعنا الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في أواخر العام الماضي؛ بأنّ نسبة الفقراء في مصر وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ عقود بمعدل 32.5%، بينما جاء ردّ البنك الدولي سريعاً؛ بأنّ النسبة ربما تبلغ ضعف الأرقام الرسمية، ويمكن من تتبع الأرقام أن نعرف أين تذهب تلك الأموال، ومن الذي يجني ثمار النمو الذي تقدمه لنا الدولة في أرقام، وتؤكّد أستاذة علم الاجتماع القانوني بجامعة المنوفية، الدكتورة ثريا عبد الجواد، في حديثها لـ "حفريات"؛ أنّ "النمو السكاني في مصر لن يتوقف طالما أنّ الفقر يزداد".

الدكتورة ثريا عبد الجواد لـ "حفريات": النمو السكاني في مصر لن يتوقف طالما أنّ الفقر يزداد

وتتابع: "على الحكومة أن تتجاوز خطاب الترهيب من الزيادة السكانية وأنّه سبب الفقر؛ لأنّ الفقر هو من يحفز الناس على الإنجاب، ولنا في الدول الكبرى عبرة، وكذلك في إيران التي أصبحت تتبنى سياسة تشجع على الإنجاب، بعد أن قلت معدلات الخصوبة، وذلك بسبب زيادة معدلات التعليم، إلى درجة غير مسبوقة، فالعلاقة الحقيقية ستبقى عكسية بين الزيادة السكانية والتعليم، وتظلّ طردية بين الزيادة السكانية والفقر".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية