محادثات سد النهضة: هل ثمّة ضوء في آخر النفق؟

سد النهضة

محادثات سد النهضة: هل ثمّة ضوء في آخر النفق؟


11/03/2020

أثار الانسحاب الإثيوبي المفاجئ من جولة المفاوضات حول "سد النهضة" التي عقدت في واشنطن، يومَي 27 و28 شباط (فبراير) الماضي، موجة من الانتقادات الدولية والإقليمية، لا سيما تلك الصادرة من القاهرة وواشنطن، فيما مثل هذا الانسحاب "موقفاً وطنياً مُثمناً"، لدى وسائل الإعلام الإثيوبية، التي تحدثت عن عدم رضوخ الحكومة الإثيوبية، للضغط الدولي المكثف، خاصة من قبل الإدارة الأمريكية والبنك الدولي.

ملء خزان سدّ النهضة
وكانت وزارتَا الخارجية والمياه الإثيوبيتان قد أعلنتا في بيان مشترك، تغييبهما عن المحادثات، فيما أكّد مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، اعتزام حكومته "المضي قدماً في ملء خزان سدّ النهضة على التوازي مع الأعمال الإنشائية للسدّ"، وليس ارتباطاً بالتوصل إلى اتفاق يراعي مصالح دول المصب ويضع القواعد الحاكمة لعمليتَي ملء السدّ وتشغيله، بما لا يحدث أضراراً جسيمة لها، وهو ما يُعدّ مخالفة صريحة لاتفاق إعلان المبادئ، المبرَم في 23 آذار (مارس) 2015، الذي تنصّ المادة الخامسة منه على "ضرورة الاتفاق على قواعد ملء وتشغيل السدّ قبل البدء في الملء"، وهو الاتفاق الذي وقعته إثيوبيا، ويفرض عليها الالتزام بإجراءات محددة لتأكيد عدم الإضرار بدول المصب.

 رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد
ونقلت إذاعة إقليم الأمهرا، الإثنين، عن رئيس الوزراء الإثيوبي قوله: "نحن الإثيوبيين من نحدد متى يمكن البدء في ملء سدّ النهضة، وعندما ينتهي السدّ سنحتفل مع أشقائنا بافتتاحه كما احتفلنا بمعركة عدوة"، الأمر الذي عُدّ تهديداً مباشراً لدولتَي المصب، لا سيما أنّ الإشارة إلى موقعة عدوة التاريخية، التي انتصر فيها الجيش الإثيوبي على جيش الاحتلال الإيطالي (1896)، تستحضر سيرة المواجهات العسكرية مع الآخر، أكثر من استحضارها للحلول الديبلوماسية، كما أنّها تُصور مطالب دولتي المصب، بأطماع الاحتلال الإيطالي!
غضبٌ في القاهرة
وأعربت مصر، على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية والري، المهندس محمد السباعي، أنّها "ملتزمة بما تفاوضت عليه مع السودان وإثيوبيا طوال 5 أعوام، حول سدّ النهضة، بما في ذلك إعلان المبادئ الذي وقعته الدول الثلاث"، وفي المقابل؛ طالبت "الأطراف الأخرى بالالتزام بما تمّ التوافق عليه سابقاً، لتحقيق المصالح المشتركة للدول الثلاث".

خبراء: التعاطي مع ملف السدّ تحكمه قضايا تخصّ مشاريع التنمية والتوازنات السياسية الداخلية والانتخابات الإثيوبية القادمة

وأصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً أعربت فيه عن "استيائها من الموقف الإثيوبي"، الذي قالت إنّه "ينطوي على مخالفة صريحة للقانون والأعراف الدولية وكذلك لاتفاق إعلان المبادئ، المبرم في 23 آذار (مارس) 2015". 
وقالت الخارجية المصرية: "الاتفاق العادل والمتوازن الذي بلورته الولايات المتحدة والبنك الدولي، قد جاء بمشاركة كاملة من قبل إثيوبيا، وتضمن المواد والأحكام التي أبدت اتفاقها معها، وما تمّت بلورته في اجتماع واشنطن الأخير، كان نتاج تلك المفاوضات، ويتسق تماماً مع أحكام القانون الدولي، ويمثل حلّاً وسطاً عادلاً ومتوازناً تمّ استخلاصه من واقع جولات المفاوضات المكثفة بين مصر والسودان وإثيوبيا على مدار الأشهر الأربعة الماضية، ومن ثم فهو يحقق مصالح الدول الثلاث، ويمثّل الحلّ للقضايا العالقة إذا خلصت النوايا تجاه تحقيق مصالح الجميع".

وانتقدت القاهرة ما أسمته "الغياب الإثيوبي المتعمّد" الذي يتناقض مع "الوعود الإثيوبية المتكررة بعدم الإضرار بالمصالح المصرية، آخذاً في الاعتبار أنّ ملكية إثيوبيا لسدّ النهضة لا تجيز لها مخالفة قواعد القانون الدولي".
ماذا قالت النُخب الإثيوبية؟
لا شكّ في أنّ الجهات الرسمية الإثيوبية حرصت على تصوير انسحابها مع جولة المفاوضات، بمثابة رفض للإملاءات الخارجية، وعدم "إذعان للانحياز الأمريكي"، كما وصفته وسائل الإعلام المملوكة للحكومة.

اقرأ أيضاً: هل يشعل سد النهضة الإثيوبي أول حرب على المياه في العالم؟
وهي، في سعيها لتوجيه الرأي العام، تعمّدت بثّ مجموعة من الرسائل التي تعزّز تماسك الموقف الإثيوبي أمام الضغوط الخارجية، لا سيما أنّ التجاذبات السياسية الداخلية، كانت قد بلغت حدّ الجنوح للعنف بين أنصار آبي أحمد ومعارضيه، خلال الأسابيع الماضية، من بينها ما وقع في إقليم أروميا، أثناء تحرّك المسيرة المؤيدة لحزب رئيس الوزراء، في 22 شباط (فبراير) الماضي؛ حيث تعرضت لهجوم بواسطة قنبلة أدّى إلى إصابة 29 شخصاً.

اعتبار سدّ النهضة مشروعاً وطنياً، لا يمنح للسلطة الحالية، المغامرة بمصالح إثيوبيا وعلاقاتها الدولية
فهل تسعى إدارة آبي أحمد إلى تخفيف الضغوط الداخلية، من خلال التنصل من الالتزامات الدولية، المتعلقة بسدّ النهضة، واختلاق أزمة خارجية تصورها "كحامية للسيادة الوطنية"!
تقول الناشطة الإثيوبية، جيجي كيا، لـ "حفريات" إنّ "موضوع سدّ النهضة يعدّ مشروعاً وطنياً، متجاوزاً لكلّ الخلافات السياسية الداخلية، وينبغي أن يكون فوق تصورات الأحزاب، وتجاذباتها الحزبية، المتعلقة بالاستحقاقات الانتخابية". وتضيف جيجي: "من حقّ إثيوبيا المطالبة بحصص إضافية من المياه التي تنبع من أراضيها، لا سيما مع تنامي عدد السكان، فالاتفاقيات السابقة التي صيغت في ظروف تاريخية معينة، ودون إدارة الإثيوبيين، لم تعد مناسبة لدولة ذات تعداد يتجاوز الـ 110 ملايين مواطن".

اقرأ أيضاً: هل تتحول إثيوبيا لجمهورية ديمقراطية تتجاوز الاستقطابات الإثنية؟
وتستطرد جيجي: "اعتبار سدّ النهضة مشروعاً وطنياً، لا يمنح للسلطة الحالية، المغامرة بمصالح إثيوبيا وعلاقاتها الدولية، خاصة العلاقات مع الولايات المتحدة، كما أنّ هناك نوعاً من محاولة استثمار الملف لأغراض انتخابية، من قبل حزب الازدهار الذي يقوده آبي أحمد".
وتؤكد جيجي؛ أنّ "السلطة الحالية ظلت تشارك في صياغة شكل ومضمون الاتفاقيات، مع المجتمع الدولي، ودول حوض النيل، وصولاً إلى محادثات واشنطن، وأنّ انسحابها الدراماتيكي من المفاوضات، يُمكن تفسيره بأحد السببين: إما أنّها ظلت تمضي في المفاوضات، رغم إخلال مضمون تلك الاتفاقيات بمصالح إثيوبيا، وهذا أمرٌ يدينها! أما الاحتمال الثاني؛ فأن يكون انسحابها ناتجاً عن التجاذبات الداخلية، أي أنّها تحاول كسب نقطة على حساب المعارضة المتنامية، والظهور بمظهر الحادب على المصلحة العليا للبلاد، وعدم التفريط فيها، وهذا يكشف أنّ الأمر برمّته، لا يتجاوز المصالح الانتخابية للحزب الحاكم، وتعزيز فرصه في الانتخابات المزمع عقدها في الصيف القادم".
حزب الازدهار الوليد
وتشير جيجي إلى أنّ حزب الازدهار الوليد "يواجه معارضة شرسة وقوية، خاصة في المناطق التي ينحدر منها آبي أحمد، حيث تمّ تشكيل ائتلاف حزبي جديد، يضم 5 أحزاب سياسية، بعضها ظلّ يعمل في الخارج، ويسعى هذا الائتلاف المكون من: المجلس الانتقالي الوطني، وحركة الشعوب الإثيوبية، وحزب الفصح الإثيوبي الديمقراطي، اتحاد شعوب أورمو الديمقراطي، وحركة نجوم جنوب إثيوبيا الديمقراطية، إلى منافسة حزب آبي، وكسب المعركة الانتخابية، في إقليم أوروميا‬.

أخطأ رئيس الوزراء في السماح بالتدخل الأمريكي، وما ينبغي فعله الآن، هو تأجيل مناقشة الملف لما بعد الانتخابات القادمة

وترجح جيجي أن يكون "الالتفاف الشعبي الكبير حول الائتلاف الجديد المعارض، سبباً من أسباب انسحاب رئيس الوزراء من لقاء واشنطن، لا سيما أنّ الانسحاب رافقته حملة إعلامية واسعة، كما لو كان انتصاراً على الأطماع الخارجية".
وتتساءل بالقول: "هل الانسحاب بهذا الشكل يحقق فعلاً مصالح إثيوبيا؟ وهل الحملات الإعلامية ضدّ واشنطن واتهامها بالانحياز يمثل انتصاراً دبلوماسياً على المستويين القريب والبعيد؟"، لتجيب: "لا أعتقد أنّ هذا يمثل مخرجاً، لا سيما أنّ السلطة لم تعلن انسحابها من الاتفاقية الإطارية، التي تمّ توقيعها من قبل النظام السابق، عام 2015، بل من جولة واحدة فقط، مما يرجّح أنّ الأمر اتّخذ لأغراض انتخابية".

من جهته، حاول الغريم الأول لآبي أحمد، الناشط والسياسي الإثيوبي المشهور، جوهر محمد، في تغريدة على صفحته الرسمية؛ أن يفكّك خطاب السلطة ويجهض محاولة التوظيف السياسي لمشروع سدّ النهضة، في الانتخابات القادمة.
وطالب جوهر في تغريدته: "بتأجيل المفاوضات حول السدّ إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية"، وذلك لتجنب التوظيف السياسي، ودلّل جوهر موقفه بالقول: "لقد أجلت إثيوبيا المفاوضات، عندما كانت مصر والسودان تواجهان مشاكل داخلية، وبالمثل؛ ينبغي إرجاء المفاوضات إلى ما بعد أن تتعامل إثيوبيا مع قضاياها الوطنية، الأكثر إلحاحاً، بما في ذلك الانتخابات المقبلة". 

جوهر محمد، السياسي المنافس لأبي أحمد

ماذا قالت المعارضة؟
وحاول المنافس القوي لـآبي أحمد في الانتخابات، جوهر محمد، أن يبدو متوازناً بين دعم مطالب إثيوبيا المتعلقة باستكمال بناء السد، ومواقيت تعبئته، وبين منع التوظيف الانتخابي للمشروع، حيث قال: "لقد أخطأ رئيس الوزراء في السماح منذ البدء بالتدخل الأمريكي المشبوه، الآن يبدو أنّه صحّح الأمر، وما ينبغي فعله الآن، هو تأجيل مناقشة الملف لما بعد الانتخابات القادمة".
وانتقد جوهر مواقف الإدارة الأمريكية في هذا الملف، دون أن يترك مساحة للسلطة الإثيوبية، للاستفادة انتخابياً من الحالة، بالقول: "لطالما كانت إثيوبيا حليفاً قوياً للولايات المتحدة، وهناك سوء تقدير كبير من الإدارة الأمريكية الحالية لمصالح إثيوبيا، من خلال عرض اتفاق قد يكون له تأثيراً ضاراً في أجيال عديدة في إثيوبيا".

اقرأ أيضاً: ماذا يفعل رئيس وزراء إثيوبيا في إسرائيل؟
واستثمر جوهر، بدوره، بذكاء واضح، في "الحالة الوطنية" التي تولدت جراء قرار الإنسحاب، وما رافقها من تداعيات، بالقول: "إنّهم يحاولون استخدام القروض والانتخابات المقبلة، أداة للضغط على بلادنا، دعهم يحتفظون بالقرض إذا اختاروا القيام بذلك، والحلّ ينبغي أن يبدأ من قرار تأجيل المفاوضات إلى ما بعد الانتخابات".
من جهته، يرى الصحفي الإثيوبي، مو تولا، أنّ رئيس الوزراء الإثيوبي "أبدى انفتاحه على إعادة التفاوض حول سدّ النهضة، مدفوعاً برؤيته الإصلاحية، وانفتاحه للمجتمع الدولي، إلا أنّ الضغوط الأمريكية المكثفة لتوقيع الاتفاق خلقت خلافاً داخل إدارته؛ حيث رفض الفاعلون السياسيون بما فيهم مؤيدي رؤية آبي أحمد، صيغة هذا الإتفاق، الذي في رأيهم يحقق المصالح المصرية، على حساب المشروع الوطني الإثيوبي".
ويصف تولا انسحاب إدارة آبي من جولة المفاوضات؛ بـأنّها "بمثابة انتباه آخر لحظة بعد انزلاق كبير ظلّ آبي أحمد يمارسه لتلبية الضغوط الدولية، خاصة الضغوط الأمريكية، ذات الطابع المالي والاقتصادي".

السد.. نقطة جذب انتخابي
من جهته، يرى المحلل السياسي، إبراهيم إدريس، أنّ "هناك نقاط خلاف رئيسة بين الأطراف المتفاوضة، تتمثل في الجدول الزمني المتعلق بملء السدّ، والتشغيل السنوي، أو ما تُعرف بالمبادئ التوجيهية والقواعد".
ويُقدر إدريس؛ رغم الخلاف الأخير، ثمّة ضوء في آخر النفق "فالبيان الإثيوبي لم يغلق الباب، بل أكّد أنّ أديس أبابا، ملتزمة بمواصلة جهودها مع دول المعبر والمصب، لمعالجة القضايا المعلقة ووضع اللمسات الأخيرة على المبادئ التوجيهية".

المحلل السياسي إبراهيم إدريس
ويصف إدريس الموقف الأمريكي بـ "المتسرع" رابطاً بين إنجاز الاتفاق ومحاولة إقناع الأطراف به، وبين "سعي إدارة دونالد ترامب للعودة إلى المسرح الدولي، من بوابة أفريقيا، خاصة مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية".

ولا يستبعد إدريس أن تكون للانسحاب الإثيوبي من جولة واشنطن دوافع أخرى؛ حيث يؤكد أنّ "المفاوضات حول السد ومنذ إدارة رئيس الوزراء، الراحل ملس زيناوي، كثيراً ما حكمتها قضايا تخصّ مشاريع التنمية والتوازنات السياسية الداخلية"، ويضيف: "الآن، وفي ظلّ وجود مشاريع الإصلاح السياسي والانتخابات الإثيوبية القادمة، ورجوعاً لتجارب دول (المعبر والمصب)، في مراحل مختلفة كان دوماً مشروع السدّ يشكّل نقطة جذب، ولا أستبعد أنّ الانسحاب في هذا التوقيت مرتبط بهذه الحقائق مع اختلاف درجاتها، لا سيما أنّ نقاط الاتفاق بين الأطراف أكثر من نقاط الإختلاف".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية