السينما النسوية بأي معنى؟

السينما النسوية بأي معنى؟


12/03/2020

إذا ذكرت السينما الآن ذكرت هوليوود، وإذا ذكرت هوليوود قفزت إلى الأذهان سلسلة طويلة من الأفلام التي تصاعد فيها دور المرأة، بدءاً من السبعينيات وحتى لحظة كتابة هذا المقال. لكنني أميل إلى الاعتقاد بأنّ فيلم (Hidden Figures/ الأشخاص المجهولون) يمثل واسطة عقد هذه الأفلام دون منازع؛ فحتى نهاية الستينيات اضطلعت المرأة بدور العاشقة أو المعشوقة ذات الجسد الباذخ والملامح الجذابة، وفي ضوء تعالي الأصوات الداعية إلى إنهاء دور المرأة الدّمية، اتجه الكتّاب والمنتجون المخرجون إلى إظهارها بمظهر الشريك الفعّال للرجل، جمالياً وجسداً وذهنياً. وظلت هذه الشراكة تتوهّج حيناً وتخفت في أحيان، حتى راحت رياح (النسوية) تلفح أروقة عاصمة السينما في العالم، وخاصة بعد أن بادرت بعض الممثلات إلى الاعتراف بأنهن اضطررن لتحمل كثير من المضايقات والتحرّشات والانتهاكات الذكورية كي يحافظن على حضورهن السينمائي.

ما يؤخذ على معظم الأفلام ذات البطولة النسوية المطلقة أنّها قدّمت نسخة متوحّشة للمرأة

وقد أدت هذه الاعترافات، التي اتخذت طابع التصريحات أحياناً وطابع الاتهامات حيناً آخر، إلى إشاعة حالة من التضامن الشديد بين الممثلات، سرعان ما ترجمت إلى حصول كثير منهن على أدوار مكافئة لأدوار النجوم الرجال، بل لقد استأثر بعضهن بأدوار البطولة المطلقة، وحققن حضوراً فنياً لا يقل بحال عن حضور زملائهن الذكور.
لكن ما يؤخذ على معظم هذه الأفلام ذات البطولة النسوية المطلقة، أنّها قدّمت نسخة متوحّشة للمرأة؛ سواء من خلال قسرها على استخدام ألفاظ ذكورية مكشوفة أم من خلال دفعها للقيام بأعمال وحركات خشنة وقاسية، وكأن من وقفوا خلف كتابة وإنتاج وإخراج هذه الأفلام قد رغبوا بتقديم المعادل الأنثوي الوغد للنموذج الذكوري الوغد!

اقرأ أيضاً: النسوية الإسلامية والسينما: هل ارتقى الفن السابع بقضايا المرأة؟
صحيح أنّ هذه الأفلام حقّقت أرباحاً مجزية للمنتجين جرّاء تهافت المشاهدين عليها، لكننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التذكير بأنّ هذا التهافت ليس إلا صورة من صور التهافت على مباريات المصارعة النسائية؛ فما يشد الجمهور الذكوري في مثل هذه الأفلام هو الاستمتاع بالغرابة القاسية وغير المتوقّعة، لكنه على المدى الطويل، وإذا نظرنا بعين الاعتبار لحقيقة التأثير الاستثنائي الذي تتمتع به هوليوود، سوف يتكفّل بترسيخ صورة جديدة للأنوثة، هي في الواقع مضادة تماماً لجوهر هويتها التي تستمد خصوصيتها من حزمة المواصفات التي طوّرتها ورسّختها وحافظت عليها المرأة عبر آلاف السنين مثل: الجمال، الأناقة، الرقة، التهذيب، الثقافة؛ وهي المواصفات التي طالما منحتها امتياز تفوّقها، خلافاً لما يدّعيه المتطرفون من أنصار تجريد المرأة من صورتها الوردية، وبغض النظر عما إذا كان هؤلاء المتطرفون رجالاً أو نساءً.

اقرأ أيضاً: السينما النسوية السعودية تضع المجتمع أمام عيوبه
تعمّدت الإقدام على هذا العرض، حرصاً مني على إبراز الأهمية الاستثنائية لفيلم (Hidden Figures) شكلاً ومضموناً، وسط ركام من الأفلام النسوية التي أزعم أنها أساءَت للنسوية حينما جرّدتها من أخص خصائصها. فهذا الفيلم الذي أنتج في عام (2016) واضطلعت بدور البطولة المطلقة فيه ثلاث نساء في آن واحد، مستمد من سيرة حقيقية أبدعتها الكاتبة الأمريكية (مارجوت لي شيترلي)، وهي تحكي قصة التحاقهن بوكالة (ناسا) في نهاية الخمسينيات ومستهل الستينيات، إبان ذروة السباق الأمريكي السوفياتي لامتلاك الفضاء الخارجي والهبوط على سطح القمر. التحقن ومعهن ثلة من النساء الزنجيات المتفوّقات في الرياضيات والهندسة والبرمجة الإلكترونية، تحت ضغط حاجة النظام الأمريكي الماسّة إليهن وإلى مهاراتهن الذهنية العالية، ولولا ذلك ما كنّ ليحظين بهذا الشرف! وحتى لا يفوّتن هذه الفرصة الذهبية فقد احتملن وتقبلن كل صنوف التمييز العنصري الصارخ تجاههن، سواء من حيث عزلهن في مبنى بعيد خاص بهن، أو من حيث اضطرارهن لتناول الطعام في قاعة بائسة، أو من حيث إلزامهن باستخدام مراحيض خاصة بالسود فقط.

مثّل فيلم "الأشخاص المجهولون" استعارة جمالية وفكرية بدءاً من عنوانه الغامض الذي يحيل إلى العديد من التأويلات

ولعلّ أبرز ما يميز هذا الفيلم، لغته السينمائية التعبيرية الهادئة والعميقة، رغم أنّه يحفر عميقاً في مسألتين صاخبتين وهما: اضطهاد المرأة بوجه عام واضطهاد المرأة السوداء بوجه خاص، وفي عقر مؤسّسة علميّة يفترض بها أن تكون سبّاقة لتجسيد قانون العلم الأول: العلم بلا أيديولوجيا أو لون! وخاصة في أمريكا التي لولا جهود العلماء والمهاجرين إليها من كل عرق ولون ودين، لما وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم علمي. وقد تكفّل الفيلم بتكثيف وإيصال رسالته عبر موقفين وعبارتين محوريتين هما:
* حينما عبّر الكولونيل الأمريكي الأسود عن دهشته من إقدام وكالة ناسا على تكليف النساء بمهام العمليات الحسابية المعقّدة، تقاطعه (كاثي) البطلة الأولى للفيلم قائلة: (أنصحك بالتوقّف هنا... لقد وظّفونا لأننا نرتدي النظارات وليس لأننا نرتدي التنانير)!
* حينما عبّر مدير وكالة ناسا عن استيائه من عدم وجود (كاثي) على مكتبها كلما احتاجها، تواجهه بالحقيقة المرّة وهي أنها تضطر للركض أربع مرّات يومياً حتى تصل إلى المرحاض الخاص بالنساء السوداوات، ناهيك بأنّ زملاءَها البيض حظروا عليها استخدام إبريق القهوة الخاص بهم، فما كان من مدير الوكالة إلا أن أقدم على تحطيم كل اليافطات التمييزية المعلّقة على أبواب دورات المياه وقال: (كلّنا نتبرز/ نبول بلون واحد)!
ورغم أنّ صانعي الفيلم لم يدّخروا وسعاً لإبراز البطولة المعرفية الخارقة للنساء الثلاث (كاثي، دوروثي، ماري)؛ حيث تمكنت الأولى من الإسهام الفعّال في إطلاق أول صاروخ أمريكي يدور حول الأرض بجدارة، وتمكّنت الثانية من تطوير لغة البرمجة الإلكترونية بجدارة، كما تمكّنت الثالثة من الحصول على شهادة الهندسة وقيادة قسم الهندسة الفضائية في الوكالة العتيدة، إلا أنهم لم يدّخروا وسعاً أيضاً لإبراز التفاصيل والهوامش التي تجعل من المرأة أنثى، مثل التركيز على متاعب تربية الأبناء، وضريبة الترمّل والانفصال، وأناقة الملابس واختيار الأطعمة والموسيقى فضلاً عن الحاجة إلى الإطراء والدعم، وهو ما دفع بالكولونيل إلى تغيير استراتيجيته بخصوص التقرّب من (كاثي) عبر التعبير دون تعال عن إعجابه الشديد بعقلها وجمالها وأنوثتها. كما دفع بمدير وكالة ناسا إلى أن يجمع من كل زملائه وزميلاته مبلغاً من المال ليشتروا هدية لـ(كاثي) تعبيراً منهم عن احترامهم وتقديرهم لجهودها، ولم يكن غريباً أو مفاجئاً أن تتمثّل هذه الهدية في (عقد لؤلؤ) لم يمكّنها راتبها المتواضع من شرائه.

أبرز ما يميز الفيلم لغته الهادئة والعميقة رغم أنّه يحفر عميقاً بمسألتين صاخبتين هما: اضطهاد المرأة عموماً والسوداء خصوصاً

وبوجه عام، يمكن القول بأنّ أجمل وأعمق ما في هذا الفيلم، يتمثّل في (كميّة الحنان) التي تغمره من كل الجوانب، رغم أنه يوثق مفصلاً صاخباً ودموياً في معركة الكفاح من أجل الحصول على الحقوق المدنية للسود. وقد ظل هذا (الحنان الأنثوي) ماثلاً حتى في المواقف أو المشاهد التي اشتملت على مواجهات أو تسويات حساب قاسية؛ فالصراع من منظور نسوي معرفي هو صراع إرادات وقناعات وأنماط تفكير، دون أحقاد أو ضغائن أو عنف، وعلى نحو يذكّرنا بكتاب "أنثوية العلم؛ العلم من منظور الفلسفة النسوية" لمؤلفته اللامعة د. ليندا جين شيفرد، والذي تولّت ترجمته إلى العربية باقتدار ملموس الأكاديمية اللامعة أيضاً د. يمنى طريف الخولي. وللحق فإنّ هذا الفيلم (Hidden Figures) ينبغي أن يكون مفردة رئيسة من مفردات أي منهاج يسعى لتعليم النسوية، فهو مختبر تعليمي وجمالي متفوق ومتقدم جداً على صعيد الإجابة النجيبة عن السؤال الذي صدّرنا به هذه المقالة؛ (السينما النسوية بأي معنى؟!)؛ فالعنف النفسي والرمزي أشد فتكاً من عنف العضلات والمسدّسات، وشعار (المرأة الحديدية) الذي أطلقته الحركة النسوية في الستينيات لتمكين النساء الوحيدات أو غير المستقلاّت مادياً، لم يقصد به تحويل المرأة إلى مُصارعة ثيران!

اقرأ أيضاً: بخصوص النسوية العربية العابسة
هذا الفيلم مثّل، شكلاً ومضموناً، استعارة جمالية وفكرية كبرى، بدءاً من عنوانه الشعري الغامض الذي يحيل سلباً أو إيجاباً إلى العديد من التأويلات (الشخصيات المجهولة، الشخصيات اللامرئية، الجنود المجهولين، الأرقام التي تؤثر في المعادلة الرياضية ولا تظهر فيها)، وليس انتهاء بالتعليقات المكتوبة التي تبرز بعد إنتهاء الفيلم، والتي تؤكّد أنّ كاثي ودوروثي وماري قد حققن أحلامهن كلها، وأنّهن أصبحن مشهورات ومعروفات، وأنّهن حظين بالتكريم الذي يليق بهن.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية