بوتين وأردوغان: هامش المناورة التاريخية إذ يكشف الأوزان السياسية

أردوغان

بوتين وأردوغان: هامش المناورة التاريخية إذ يكشف الأوزان السياسية


15/03/2020

لا تجري الأمور في السياسة بطريقة تلقائية أو عفوية، إنما هي أحداث مصنوعة بشكل متقن، مهما تعقّدت تفاصيلها، وتعددت زواياها، وتباينت خلفياتها، وهذا الأمر يتطابق مع التحليلات والتفسيرات المتدفقة من جانب مراقبين سياسيين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث لم تتوقف عن رصد وملاحقة الصور والإشارات الرمزية العديدة التي رافقت لقاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بنظيره التركي، رجب طيب أردوغان، مؤخراً، لمحاولة فهم ملابساتها وحمولاتها التاريخية، بهدف الإضاءة على المعاني السياسية المضمرة والرسائل الخفية والمستترة.
لمن النصر!
وفي اللقاء الذي جمع بوتين وأردوغان على خلفية توتر واحتدام الصراع في سوريا، بعد تأزم الأوضاع في إدلب، ومقتل عشرات العناصر التركية؛ حيث اجتمع الطرفان بهدف الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار، ومحاولة تجميد جولة عسكرية في سبيل خفض سقف الصراع لحساب التفاوض، مؤقتاً، فإنّ الصورة السياسية اتسعت زواياها لما هو أبعد من مجرد تبادل مواقع جديدة في الصراع المستعر، ليس في سوريا وحدها، إنما في عدد من دول الإقليم، والتي يتنافس على جغرافيتها السياسية اللاعبان التركي والروسي.

اقرأ أيضاً: هل يمكن لبوتين أن يُضحي بأردوغان؟
وفي سياق الدلالات الرمزية للقاء الأخير الذي جمع بوتين وأردوغان، تداول العديد من النشطاء والمغردين على "تويتر" مقطع فيديو للرئيس التركي والوفد المرافق له، منتظرين أن يستقبلهم الرئيس الروسي، في 5 من الشهر الجاري.
وظهر أردوغان، كما ذكرت "سي إن إن عربية" واقفاً لفترة قبل أن يتحرك للجلوس، خارج قاعة لقائه مع بوتين في الكرملين، ورأى العديد من المعلقين أنّ علامات "الاستياء والغضب" كانت واضحة على وجه أردوغان، معتبرين أنها "إهانة" للرئيس التركي.

كما أشاروا إلى وجود تمثال الإمبراطورة الروسية كاثرين التي خاضت حرباً طويلة ضد العثمانيين في القرن الثامن عشر خلال لقاء بوتين وأردوغان، معتبرين أنها "إهانة أخرى".   

يعكس تمثال النصر الذي توسّط بوتين وأردوغان تاريخاً آخر مشتركاً بين البلدين يبرز انتصارات روسيا التاريخية على تركيا

تمثال النصر، يتجاوز الاعتبارات الجمالية والفنية التي يمكن أن تمثلها مقتنيات المبنى البرلماني الضخم في العقل السياسي، باعتباره إحدى هيئات السياسة العليا، ودائرته الذهبية منذ الحقبة السوفياتية، حيث تحتل الإمبراطورة الروسية في ذاكرة التاريخ وسجلاته أهمية خاصة، لا سيما أنّها استطاعت إلحاق هزائم فادحة بالجيوش العثمانية، ووقف مشاريعهم التوسعية، نهاية القرن الثامن عشر.
كما استطاعت الإمبراطورة الروسية التي تبوأت السلطة، في الفترة بين عامي 1762 و1796، بعد الثورة على زوجها وعزله، أن تقود عدة معارك عسكرية، خلال عقود القرن الثامن عشر ضدّ الدولة العثمانية، أفضت إحداها إلى توقيع معاهدة بين الطرفين؛ تخلى على إثرها العثمانيون عن منطقة القرم، بينما عاودت السفن الروسية المرور من مضيق الفوسفور.
العثمانية الجديدة ودرس التاريخ
كما يعكس تمثال النصر، الذي توسط بوتين وأردوغان، تاريخاً آخر مشتركاً بين البلدين، يبرز انتصارات الإمبراطورية الروسية التاريخية، لا سيما انتصارها على العثمانيين في العام 1878، ما نجم عنه خسارة العثمانيين لعدة مواقع مهمة، في صربيا ومونتينيغرو ورومانيا وبلغاريا.


وفي ظلّ تنامي أحلام "العثمانية الجديدة" ومحاولة أردوغان بعث إرث الخلافة القديم، عبر تحالفه مع جماعات الإسلام السياسي، فإنّه لا يكفّ عن مناوراته المتكررة للبحث في دفاتر التاريخ المهترئة، ومن ثم، التنقيب عن امتداداته الجغرافية التي كانت تخضع لنفوذه والأصل التاريخي والبشري فيها، كما الحال، في ليبيا وسوريا؛ إذ صرّح قبل فترة قليلة من زيارته الأخيرة لموسكو؛ بأنّ "تركيا لا يمكن أن تبقى محصورة داخل مساحة حدود 780 ألف كيلو متراً مربعاً، فقد تكون مصراتة و حلب وشبه جزيرة القرم خارج حدودنا الفعلية، لكنها داخل حدودنا العاطفية والقلبية والجسدية، وسنتصدى لمن يحاول تحديد تاريخ بلادنا بنحو 90 عام فقط".

اقرأ أيضاً: عودة ستالين… هكذا يسعى بوتين إلى تبييض سمعة الزعيم السوفييتي
بيد أنّ العقود التسعة التي تمثل مرحلة ما بعد سقوط الخلافة، وتفصل بين فترة سقوط الخلافة العثمانية وقيام الجمهورية التركية الأتاتوركية، تشكّل عبئاً لدى الرئيس التركي، يحاول القفز عليه والعبور إلى الفترة التي تهاوت فيها ممالكها على يد المستعمرين، لكنّ التاريخ نفسه الذي وضعه بوتين في سياق اللقاء بينهما، يفصح عن مكر ودهاء شديدين بعدم جدوى استعادته.
ففي شبه جزيرة القرم، الواقعة على الحدود الجنوبية للإمبراطورية الروسية، تمكنت الإمبراطورة كاثرين من هزيمة خانية القرم، التابعة للدولة العثمانية، واستعادت السيطرة على الإقليم المتاخم لها، كما تمكن بوتين في عرض تاريخي آخر، يثبت حقائق السياسة والتاريخ، من انتزاع المنطقة ذاتها من أوكرانيا، في العام 2014، وتحقق لموسكو سيادتها النهائية.

هزائم "رجل أوروبا المريض"
ويضاف إلى ذلك؛ أنّ الإمبراطورة الروسية لعبت أدواراً تحريضية ضدّ العثمانيين، كما دعمت العناصر الثورية في مناطق نفوذها بالمشرق وغيره؛ فقد حرضت الولاة العثمانيين على التمرد على السلطة المركزية، كما هو الحال في مصر، مع الوالي علي بك الكبير، وكذا، في لبنان مع الوالي بصيدا، ظاهر العمر، مما ترتبت عليه سيطرتها على المناطق الممتدة من شمال البحر الأسود، مروراً ببحر "آزوف"، الذي يعدّ أحد مناطق النزاع والخلاف بين روسيا وأوكرانيا، كما كان أحد الحصون الرئيسة في الحروب التي قادتها دول أوروبا ضد الدولة العثمانية.

حملت قطع عسكرية عبرت مضيق الفوسفور أسماء جنرالين عسكريين هما: "غريغوروفيتش" و"ماكاروف"، اللذان هزما الدولة العثمانية

من جانبها، وصفت صحيفة "يني تشاغ" التركية المعارضة، أعضاء الوفد التركي، بأنهم: "اصطفوا كالتلاميذ أثناء مباحثات أردوغان وبوتين تحت تمثال كاترين الثانية التي قهرت العثمانيين 11 مرة في الحرب الروسية العثمانية".
كما أشارت صحيفة "الفاينانشال" تايمز البريطانية، إلى أنّ التاريخ التركي مليء بالهزائم على يد روسيا، وهذه المرة من غير المرجح أن يكون الأمر مختلف، لذا، فأفضل ما يمكن أن تأمله أنقرة هو توقيع إتفاق هدنة جديدة، ومن ثم، التراجع إلى منطقة عازلة أصغر، على افتراض أنّ بوتين مستعد لمساعدة أردوغان بهدف إنقاذ ماء الوجه، بحسب وصفها، خاصة أنّه منذ نهاية العام الماضي، والنظام السوري المدعوم من موسكو يشنّ هجوماً لجهة استعادة إدلب، التي تعدّ آخر معاقل فصائل المعارضة، المدعومة من أنقرة.


وألمحت الصحيفة إلى أنّ التصعيد العسكري الذي تقوم به تركيا ضدّ قوات النظام السوري، في إدلب؛ إثر مقتل أكثر من 30 جندياً تركياً، في 27 شباط (فبراير) الماضي، في قصف جوي من جانب النظام السوري، ينسف الاتفاق المبرم في سوتشي بين أنقرة وموسكو لجهة وقف المعارك بإدلب، ومن ثم، إقامة منطقة منزوعة السلاح فيها، كما أنّ التوتر المتنامي بينهما، خلال الفترة القليلة الماضية، يجعلهما يتبادلان مسؤولية خرق اتفاق سوتشي، مما يثير مخاوف من مواجهة مباشرة بين القوات التركية والروسية في إدلب.

اقرأ أيضاً: أردوغان المُقامر باللاجئين
وإلى ذلك، امتدت الحيل والوسائل الروسية من الرمز إلى الفعل الخشن، والذي لا يخلو هو الآخر من اعتبارات التاريخ والهيمنة السياسية ودلالات القوة؛ حيث دفعت موسكو بقطع بحرية عسكرية في البحر المتوسط قبالة السواحل السورية، بينما حملت تلك القطع التي عبرت مضيق الفوسفور أسماء جنرالين عسكريين هما: "غريغوروفيتش" و"ماكاروف"، اللذان هزما الدولة العثمانية في الحروب الثنائية بين تركيا وروسيا.
ففي الفترة بين عامي 1877و1878، كبّد ماكاروف الدولة العثمانية هزيمة بحرية فادحة، كما أنّ غريغوروفيتش آخر وزير بحرية للإمبراطورية الروسية، قبل اندلاع الثورة البلشفية، عام 1917؛ حيث قامت البحرية في عهده بقصف السواحل العثمانية أثناء الحرب العالمية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية