هل كشفت "كورونا" أنساقنا الثقافية والمعرفية المغلقة؟

هل كشفت "كورونا" أنساقنا الثقافية والمعرفية المغلقة؟


25/03/2020

إذا كانت التعبيرات التي تصدر عنّا كأفراد هي الأصدق حينما نغضب، وفقاً لمفاهيم علم النفس، فإنّ التصورات والقيم "المعاني" التي تعبر عنها مجاميع أفراد المجتمعات في الأزمات خارج الملفوظ "اللسان" وما نستخدمه من وسائل تعبير أخرى من صور ورسوم ودراما، يشار إليها بالسيميائيات الثقافية، فهي الأخرى الأصدق تعبيراً عن تصوراتنا الجمعية.

ربما كنا بحاجة لكورونا لنتوقف عند الأنساق المغلقة، ففي الرخاء لم ولن تجد أية مقولات عقلانية وواقعية آذاناً صاغية

يقول عالم السيميائيات الثقافية الروسي، يوري لوتمان، إنّ هناك "ضرورة لتطوير الدرس السيميائي بوصفه نسقاً معرفياً شاملاً، وإنّ هذا النسق سيكون بلا جدوى إن لم يثمر في تعزيز قدراتنا على تحليل قضايانا الثقافية واليومية التي نعيشها من خلال أشكال التعبير التي تصوغ حياتنا"، تلك السيمائيات التي تسعفنا في محاولة الإمساك بحبال المعنى المنفلت من قبضتنا، تجاهد للعصف بكل السلطات "اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو حتى لغوية" تلك السلطات التي تعمل على ديمومة شرعيات مفترضة لمعان تقريرية وأحادية، ولأنساق مغلقة تحيلها إلى فصول من المقدسات، وتبع لوتمان لاحقاً الفرنسي رولان بارت في مقولته الشهيرة "موت المؤلف" وعبدالله الغذامي في مقولات "الكاتب المعلن" و"الكاتب المضمر" للنصوص، على هامش كتاباته في النقد الثقافي والنسقية، وربما لم يكن لوتمان  ولا بارت يتوقعان أن تتغير الأداة والوسيلة والقناة، في ظل تطورات التكنولوجيا وقلبها لفاهيم ونظريات الاتصال، والتغيرات التي طالت مواقع المرسل والمستقبل.

اقرأ أيضاً: مفكر فرنسي: كورونا على خطى الإرهاب.. هذا ما فعله
لا قيمة لتلك السيمائيات حينما تلامس مسلّمات لا تغير كثيراً في الواقع الاجتماعي والثقافي، وتكمن قيمتها حينما تبحر عميقاً في اقتحام تلك المغارة التي لطالما قيل إنّ فيها غولاً، مستفيدة من تسارعية التكنولوجيا التي تعهدت بنقل المعنى وبسرعة غير مسبوقة، توازي تسارعية انتقال كورونا.
في العالمين؛ العربي والإسلامي صراع محموم يضمر أنساقاً مغلقة تختزلها مقولة "إنّ العربي والمسلم يريد أن يعيش عيشة السويدي ويموت ميتة الصحابة" تلك الأنساق لا تجد تعبيراتها فقط في النتاجات الأدبية اليوم، بل بكل ما يعبر عنه إنسان اليوم من "نكتة وخواطر وسرديات شعبية، اجتماعية ودينية وثقافية....الخ".

اقرأ أيضاً: كيف نتخيل العالم بعد وباء "كورونا"؟
لعل أول تلك الأنساق الاجتماعية المضمرة مقولة المؤامرة؛ إذ إنها تتفشى بمناسيب لا تقل عن تفشي كورونا، ويتم تداولها في إطار انتقائية لشهادات غربية أو شرقية لإثبات صحة المؤامرة، تعكس حجم التوظيف السياسي والاقتصادي لكورونا، بين التكتلات والقوى الكبرى، فيما يطرح نسق المؤامرة عربياً وإسلاميا، أنّ كورونا تستهدف العرب والمسلمين، هذا النسق يتناسى الإسهامات المحدودة أو المعدومة للعرب والمسلمين في الناتج الحضاري والعلمي للإنسانية اليوم، وعلى أية حال فإن كانت هناك مؤامرة فإنّها لن تخرج عن صراعات قوى كبرى، والعرب والمسلمون على هامشها، وربما جاءت الخسائر الاقتصادية الضخمة وأعداد حالات الوفيات في الدول التي تروج مقاربات المؤامرة مسؤوليتها عن إنتاج ونشر كورونا ما يفند تلك المقاربات، فخسارة السوق المالي الأمريكية وصلت لأكثر من 12 تريليون دولار في يومين.

اقرأ أيضاً: هل تتحول أمريكا إلى مركز لانتشار الكورونا عالمياً؟
وربما تختزل نكتة تم تداولها وعلى نطاقات واسعة بمواقع التواصل الاجتماعي تتضمن دعوة علماء المسلمين للتوقف عن الدعاء على الكفار لحين إنتاج لقاح مضاد لكورونا، نسقين ثقافيين دينيين مغلقين، الأول: الموقف من الآخر بوصفه كافراً على العموم، بكل ما تتطلبه وتحدده تلك الصفة من تعامل وتعاطٍ معه، تتزامن مع دعوات برفع البلاء عن المسلمين، والثاني: اعتراف بعدم قدرة المسلمين على إنتاج لقاح مضاد للفايروس "إلا باليانسون والميرمية والثوم والأعشاب الطبية" وأنّ الكفار فقط هم من أنتج الفايروس وقادرون على إنتاج اللقاح المضاد له.
إنّ مخرجات مواقع التواصل الاجتماعي التي تضمنت رفضاً لإغلاق المساجد ودور العبادة بوصفها أماكن للتجمعات، التي يمكن أن تنقل العدوى، والإصرار على إقامة صلوات الجماعة في الطرقات وأماكن مفتوحة وأخرى مغلقة مرتبطة بتلك الأنساق الجمعية، رغم أنّ خليفة بوزن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أوقف حداً من حدود الله تعالى في عام المجاعة.

اقرأ أيضاً: هل كورونا جزء من العالم السري؟!
في بعض مناطق فلسطين وفي السودان، وبما يعكس تحولات عميقة صعد منابر الجمعة أطباء مختصون يقدمون إرشادات للمصلين حول كيفيات الوقاية من انتشار الوباء، وهي سابقة في دولنا العربية والإسلامية، ترسل رسالة جديدة مضمرة أنّ خطيب الجمعة لا يملك حلولاً لمواجهة كورونا، ومؤكد أنّ آثارها ستمتد لما بعد كورونا.
وبالخلاصة، ربما كنا بحاجة لكورونا وبهذا الحجم وتلك الخطورة، لنتوقف عند تلك الأنساق المغلقة، ففي الرخاء لم ولن تجد أية مقولات عقلانية وواقعية آذاناً صاغية، وسيرجم القائمون عليها بوصفهم موالين للكفار، هؤلاء الكفار الذين لا نملك إلا الدعاء لهم أن يكتشفوا الترياق المنجي لنا قبل أن يكون لهم؛ لأننا الأجدر بالحياة!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية