كيف يُحيي فيروس كورونا "عولمة الهلع"؟

كيف يُحيي فيروس كورونا "عولمة الهلع"؟


26/03/2020

لا حديث عالمياً يطغى اليوم، على حديث انتشار ومصارعة وباء فيروس كورونا المستجد، المعروف علميّاً باسم "كوفيد - 19"؛ ففي ظلِّ ثورة المعلومات الرهيبة التي أفرزها التقدُّم التكنولوجي الهائل في الأعوام العشرة الماضية، أصبح العالم كلُّه قرية إلكترونية صغيرة جداً، ليظهَر مصطلح العولمة "الكوْكبة" بازغاً في أجلى صوره؛ إذْ لا حواجز اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية بين الدول، ولا عوائق بينها، سواء في تداول وانتقال المعلومات والأخبار والأفكار والعادات المختلفة، أو في تدفُّق رؤوس الأموال وتبادُل المنتجات والسلع، وفي أوْج تلك "الشوْملة" تظهر كارثة وباء كورونا فتعزل العالم كله بعد أن عزلَت كل دولة نفسها عن الأخرى، بل بعد أنّ عزلَت الدولة الواحدة مدناً بأكملها داخل حدودها، وانقطع التواصُل والسفر من دولة إلى أخرى، فيُقضَى على نظام العولمة، ولو مؤقتاً، بعد نحو 3 عقود من ظهوره كسِمة تميّز العالَم منذ ثمانينيات القرن الماضي!
كورونا وإحياء عولمة الهلع والاكتئاب
رغم ذلك، فإنّ وباء كورونا يتلاقى مع العولمة من جهة أخرى؛ إذ إنّه يُحيي مفهوم "عولمة الهلَع" أو "عولمة الاكتئاب"، في ظلّ التعدّد اللانهائي لتهديدات هذا الوباء لجميع سكان الكرة الأرضية، فهو عند انتشاره لا يفرق بين دولة سلطوية وأخرى ديمقراطية، ولا بين دولة ذات اقتصاد هائل وأخرى يعاني اقتصادها ويتهالَك، كما لا يفرق بين دولة متخلّفة علمياً وتقنياً وأخرى متقدّمة، ولا يفرق بين معتنقي الأديان وغيرهم ممّن لا يعترفون بالأديان، ما يعني أنّ ثقافة الخوف أو الهلَع، الآن، هي الثقافة السائدة بين الجميع حول العالم، الذي لم يكن وباء كورونا هو أول وباء يواجهه، لكن هذا الوباء الشرس يفرض الخوف والهلع بسبب سرعة انتشاره وتمدّده في قارات العالم، وطفرات تطوّره وانقسامه إلى سلالة جديدة قد تكون أشدّ فتكاً من السلالة الأصلية، الأمر الذي جعل منظمة الصحة العالمية تصِفه بـ "الجائحة".

في أوْج العولمة، تظهر كارثة وباء كورونا فتعزل العالم كله بعد أن عزلت كل دولة نفسها عن الأخرى

وثمة نظرات تبدو متناقضة إزاء هذه الجائحة؛ أولها؛ نظرة ترى أنّ كورونا وباءٌ مُخلَّق بيولوجياً في مختبرات وزارة الدفاع الأمريكية لضرب الاقتصاد الصيني، أحد أكبر اقتصادين في العالم بالمشاركة مع الاقتصاد الأمريكي، وثانيها؛ نظرة ترى أنّنا في أزمة حقيقية كبرى، وإذا لم نتكاتف جميعنا فإنّ مصير ملايين البشر حول العالم هو الانقراض والفناء، كما هو الحال في الفناءات الخمسة التي حلّت بالعالم قبل ذلك، وثالثها؛ نظرة تتمسّك بالغيبيات والماورائيات فتُرجِع الأمر كله إلى القدر الإلهي؛ إما انتقاماً من خلقه الذين تناسوه وحادوا عن طريقه، وإما ابتلاءً للمؤمنين منهم وتكفيراً عن سيئاتهم وذنوبهم.

اقرأ أيضاً: كورونا وهلع الغذاء
وبالتدقيق في تلك النظرات الثلاث؛ نكتشف أنّها لا تعتمد سوى على العاطفة ونظرية المؤامرة التي يؤمن بها كثيرون، ذلك أنَّ ظهور هذا الفيروس في مدينة "ووهان" الصينية؛ لا يعني أنّه صنيعة أمريكية من خلال تبنِّي حرب بيولوجية لهدم الاقتصاد الصيني المنافِس القوي للاقتصاد الأمريكي، خصوصاً أنّ اقتصاد أمريكا تكبّد، وَفق آخر التقارير، خسائر بلغت نحو 800 مليار دولار، منها ما قيمته 355 مليار دولار كخسائر في مجال صناعة السفر وحدها، فضلاً عن أكثر من 200 حالة وفاة.

يُحيي فيروس كورونا مفهوم عولمة الهلَع، وهو ما يُهدّد بظهور نزعة نفسية عالمية تنحو إلى الاكتئاب والذعر من المجهول

وأما أنّنا في أزمة حقيقية فهذا صحيح، بيْد أنّ نجاح الصين في محاصرة هذا الوباء، ومقاومة آثاره، يعني أنّ مقاومته ليست تحدّياً مستحيلاً؛ فثمة أمل في الخلاص منه ومقاومته بشرط اتباع نظام عزل مُحكَم وتشديد الإجراءات الصحية والوقائية التي تحول دون انتشاره وتفشّيه، وإذا نجحنا في هذا؛ فبالتأكيد ستتقلص أعداد المصابين ويتناقص عدد الضحايا وبالتالي لن يكون ثمة انقراض أو فناء لثلث أو حتى ربع الجنس البشري كما يُشاع الآن، ومعلوم أنّ أمراً كهذا من شأنه تعزيز مفهوم "عولمة الهلَع"، وهو ما يُهدّد بظهور نزعة نفسية عالمية تنحو إلى الاكتئاب والذعر من المجهول، ولعل أكبر تأثّر سلبي لهذه النزعة يتمثل في تدهور وركود الاقتصاد العالمي كله واتجاهه إلى أزمة مالية طاحنة تأكل الأخضر واليابس، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى زيادة نسَب البطالة، وانخفاض معدلات الاستثمار، وتراجع التبادل التجاري بين الدول، وزيادة أعداد الفقراء حول العالم.
كورونا يُظهِر تناقض رجال الدين
وأما النظرة التي يتمسك أصحابها بالغيبيات والماورائيات فيُرجِعون الأمر كله إلى القدر الإلهي؛ إما انتقاماً من خلقه الذين تناسوه وحادوا عن طريقه، أو ابتلاءً للمؤمنين منهم وتكفيراً عن سيئاتهم وذنوبهم؛ فهي نظرة لا شك تقود إلى التواكُل والتكاسُل والتراخي في مواجهة هذا الوباء، وتؤسِّس لمزيد من سطوة المقدّس واستخدام النصوص الدينية في غير سياقها، وتديين ما هو دنيوي محض، وهو ما يمنح رجال الدين، أيّاً كان هذا الدين، سلطة تصطدم بالواقع المعاش، بل تصطدم بالعلم نفسه؛ فيبدو الدين كما لو كان يتعارض مع العلم؛ لأنّ رجال الدين سمحوا لأنفسهم أن يتحدثوا في الطب بينما هم أنفسهم ينتقدون الأطباء إذا ما تحدّثوا في الدين بذريعة عدم التخصص، لذلك أصاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي عندما علّق قائلاً؛ "المفارقة أنّ رجال الدين هؤلاء يسمحون لأنفسهم أن يتدخلوا بالطب وغيره من العلوم الحديثة، ويعطوا آراءً على الضد من الخبراء فيها، لكنهم لا يسمحون للطبيب أو غيره من أهل العلم أن يفهم الدين أو أن يعطي رأياً في فهم نصوصه، بذريعة أنه ليس متخصصاً في الدين كما يقولون"!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية