كيف أغرقت الولايات المتحدة فنزويلا في ويلات النيوليبرالية؟

فنزويلا

كيف أغرقت الولايات المتحدة فنزويلا في ويلات النيوليبرالية؟


23/04/2020

تعاني فنزويلا من أزمة خانقة منذ أكثر من عام، تدعمها المعارضة اليمينية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، بقيادة خوان غوايدو، الأمر الذي يعيد للشعب الفنزويلي شبح مذبحة كاراكازو، التي لم تندمل جراحها بعد، ويبقى التخوف الأكبر لدى العديدين من أن تتكرر تلك المذبحة ربما بصورة أكثر شراسة.

اقرأ أيضاً: فنزويلا بوابة مرور الإرهاب إلى أمريكا اللاتينية
وحلت في شباط (فبراير) الماضي الذكرى الحادية والثلاثين للمذبحة، لكنّ التساؤل الأهم: هو كيف أوصلت السياسات النيوليبرالية الشعب إلى الشوارع لتتخلص من الفقراء؟
سياسات تقشفية للفقراء فقط
لأكثر من 35 عاماً، عمل الصحفي الفنزويلي، إمبرتو ماركيز، على تغطية الأخبار في أمريكا اللاتينية، وعاصر مذبحة كاراكازو في مدينته، التي غطى أحداثها لصالح وكالة الصحافة الفرنسية، ودوّن كلّ ما وقعت عليه عينه أثناء الأحداث، وعاد بعد عشرين عاماً ليتتبع مسار الحراك الذي أخمد بمذابح دموية، فكتب في 27 شباط (فبراير) 2009، عن قصة خوسيه لويس، الذي كان وقتها في السابعة عشرة من عمره، وصادف حشود الغاضبين؛ إذ يستولون على المتاجر، وكلّ ما تقع عليه أيديهم من سلع يحتاجونها لأسرهم، ليخبره الناس بأنّه لو لم يفعل ذلك لفعلت الشرطة وحرمتهم من مؤنهم اليومية، فانضمّ إليهم ودمّر واجهات المتاجر وأكشاك التلفونات، اندلعت الأحداث بعد أن استيقظ الناس من نومهم، فوجدوا فجأة أنّ الحكومة ضاعفت أسعار الوقود، مما ترتب عليه رفع أسعار وسائل النقل والمواصلات، والسلع الأساسية، فتجمهر أبناء الطبقات الدنيا في الشوارع محتجين على تلك السياسات، وانتشرت أعمال الشغب من غوارينا وغيرها من المناطق النائية إلى وسط العاصمة كاراكاس.

تجمهر أبناء الطبقات الدنيا في الشوارع محتجين على تلك السياسات

تداخلت الاحتجاجات في مظاهرات الطلاب والعمال، كانت التغطية التلفزيونية المكثفة للاحتجاجات، صباح اليوم التالي، بمثابة دعوة للفنزويليين الساخطين للخروج إلى الشوارع، لم تستمر الاحتجاجات سوى لأسبوع واحد، وانطلقت حملة أمنية شرسة ضدّ المتظاهرين وسط العاصمة؛ حيث تمّ استدعاء الجيش إلى الشوارع في العديد من المدن الكبرى، وتمّ فرض حظر التجول، والتدابير التي لم تستخدم في فنزويلا منذ عدة أجيال، كانت النتيجة النهائية مقتل مئات الأشخاص وجرح حوالي ألفين، وهذا بحسب الإحصاءات الرسمية للدولة، والتي تمّ تكذيبها لاحقاً، وتمّ دفع أكثر من 150 مليون دولار كتعويضات للمحلات التجارية والشركات، وتضاربت أعداد الضحايا الذين لم يعلن عنهم بشكل رسمي، لكن للصدف جاءت الذكرى العشرون أيضاً، لتكشف عن مقابر خفية، قيل إنّها لبعض ضحايا المجزرة، فنشرت وكالة "رويترز"، في أيلول (سبتمبر) عام 2009، خبراً بعنوان "فنزويلا تستكشف موتى لم يكشف عنهم في أحداث الشغب"؛ إذ تمّ الكشف عن رفات مئات المجهولين، الذين أعادوا إلى الذاكرة المفقودين من المحتجين، الذين لم يعرف أحد مصيرهم من قبل.
رابط المقال لـ "إمبرتو ماركيز": VENEZUELA: Wound Still Gaping 20 Years after ‘Caracazo


مقبرة السوق الحرة
بحسب الشهادات التي وثقّها ماركيز أثناء تلك الواقعة؛ فإنّ أول مكان اقتحمه المحتجون كان مكتب البنك الدولي في كاراكاس، في إشارة واضحة إلى سبب نقمتهم، والتي كانت لا تخلو أبداً من خطابات الرئيس اليساري السابق لفنزويلا، هوغو تشافيز، الذي أوضح في الذكرى العشرين للواقعة أنّ ما ذبح الفنزويليين كانت الولايات المتحدة الأمريكية، وسياساتها المسماة بالسوق الحرة، وما هي إلّا قناع لامتصاص دماء الفقراء من شعوب أمريكا اللاتينية، وكلّ شعوب العالم النامي؛ إذ رأى تشافيز أنّ قمع تلك الحركة الشعبية، زرع بذور وصوله إلى السلطة بعد عقد من الزمان، والذي استطاع أن يقدم ثلاثة عسكريين رفيعي المستوى، بمن فيهم وزير الدفاع وقتها، إيتو ديل فالي، الذي تمّت إدانته بإصدار أمر بدء المذبحة بعد أيام من الاحتجاجات في كاراكاس ومدن أخرى، وبعد أعوام كثيرة على المذبحة، كتبت المناضلة اليسارية الأمريكية، وعضو حزب عمال العالم، ديردري جريسوولد، مقالاً بعنوان "فنزويلا والنفاق الإمبريالي"، لتوضح كيف أغرقت الولايات المتحدة الأمريكية فنزويلا في ويلات النيوليبرالية التي دفع الشعب ثمنها دماء، وهاهي تعاود الكرّة من جديد مع مادورو، في ربطٍ صنعته بين الأزمة المعاصرة، وأزمة كاراكازو.

الفجوة بين الأغنياء والفقراء في فنزويلا هي السبب الحقيقي لقيام الانتفاضة

توضح جريسوولد أنّ الفجوة بين الأغنياء والفقراء في فنزويلا هي السبب الحقيقي لقيام الانتفاضة، هذه الفجوة صنعتها الولايات المتحدة بعناية، فبحلول عام 1989 كانت كاراكاس مدينة مثالية للبرجوازية والمستفيدين من ثمار النفط الفنزويلي، إضافة إلى السياح الأمريكيين، لكنها جحيم بالنسبة إلى الأغلبية من العمّال، سكان الأحياء الفقيرة الذين بالكاد يحصلون على وجبة يومياً، ورغم تواجدهم في المدينة، إلّا أنّ دخولهم المنخفضة لم تمكنهم من الاستفادة من مميزات الحضر، فكانت أقصى طموحاتهم ركوب الحافلة للذهاب إلى العمل، ولم تدعهم الحكومة يذهبون إلى أعمالهم في سلام، بل رفعت أسعارها أربعة أضعاف، فلم يكن أمام هؤلاء العمال الجائعين إلّا الاختيار بين الوظيفة والطعام، وهو ما يفسّر اقتحامهم للمطاعم ومتاجر الأغذية، إضافة إلى البنوك ومكتب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، صاحب الفضل في رفع أسعار حافلاتهم، وبينما تتمتع فنزويلا بأكبر احتياطي نفطي في العالم، ويمتلك الأثرياء فيها سيارات فارهة تمّ استيرادها من الجارة الشمالية، لم يتمتع الفقراء بأيّة مميزات من ثروات البلاد، حتى بعد أن قامت الدولة بتأميم هذا المورد عام 1976.
صعود اليسار الفنزويلي
في عام 1921؛ حصلت شركة "Standard Oil" الأمريكية على حق الانتفاع التام بالبترول الفنزويلي، واستمّرت في هذا النهب حتى التسعينيات، بعد أن غيرّت اسمها عقب صدور قرار التأميم إلى ExxonMobil""، إضافة إلى شركة "ConocoPhillips"؛ إذ سمحت بعض التغييرات في قوانين التأميم الخاصة بالشركات الأمريكية، ببعض السيطرة على النفط الفنزويلي، لكن ما يزال الجائعون على جوانب الطرقات، في الوقت نفسه؛ كانت هوغو تشافيز، أحد أبناء الطبقة العاملة، ضابطاً في الجيش؛ إذ كوّن هو وبعض زملائه خلية سرية باسم "الحركة البوليفارية"، لنشر الأيديولوجية الثورية بين أقرانهم، كانت كاراكازو هي النواة التي فجرت طاقة الغضب داخل هؤلاء الضباط الماركسيين، الذين ظلوا يعملون بشكل سرّي حتى تمّ إلقاء القبض على قائدهم، عام 1992، قضى إثرها عامَين في السجن، ثمّ خرج بطلاً للشعب، ومؤسس لحزب سياسي جديد، ولم تمضِ سوى أربعة أعوام حتى نُصّب رئيساً بالانتخابات، وبدأ في مطاردة العسكريين الذين قاموا بتنفيذ المجزرة؛ إذ استمر تشافيز في منصبه حتى فارق الحياة، ليخلفه سائق الحافلات والنقابي، نيكولاس مادورو.

أحبطت انتفاضة شعبية في فنزويلا المشروع النيوليبرالي بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر

في كتابها "بين الحرية والتاريخ"؛ تقدّم المؤرخة والحاصلة على الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي، ليفيا فيرغاس جونزاليس، أطروحتها حول عملية كاراكازو، كجزء من سياق اجتماعي قلب المشهد على السياسي ضدّ الفصام الطبقي الذي تشهده فنزويلا منذ استقلالها؛ إذ يمثّل لها هذا العام تغير الأوضاع التاريخية، فسقوط جدار برلين وكاراكازو، وغيرها من أحداث ذلك العام، إنّما هي دلالات على تغير يرسم ملامح عام جديد؛ إذ يوافق عام 1989 أيضاً انتهاء الحرب الباردة، وهو يبدأ في إعادة تشكيل علاقات الهيمنة في النظام العالمي الجيوسياسي والاقتصادي الجيولوجي.
الحقيقة؛ أنّ هذا العام يمثل هزيمة كبيرة للطبقة العاملة ولثوار العالم، من وجهة نظر فيرغاس، التي أقرّت بأنّ هذا العام يقطع المخططات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عملت في العالم حتى ذلك الوقت، في الوقت نفسه؛ الذي كانت فيه الرأسمالية النيوليبرالية تتقدم بسرعة في التضاريس الخصبة للجمهورية الديمقراطية الألمانية، وكذلك البلدان التي شكّلت الاتحاد السوفييتي السابق، أحبطت انتفاضة شعبية في فنزويلا المشروع النيوليبرالي بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر.

الصفحة الرئيسية