مشهد: مدينة إيرانية منزوعة الموسيقى

مشهد: مدينة إيرانية منزوعة الموسيقى


13/10/2017

المدينة وقسوة التاريخ

قرابة العشرين مقاماً ومزاراً دينياً، تبدأ أهميتها بمرقد الإمام علي بن موسى الرضا، الإمام الثامن للشيعة (766-819م) حتى نصل إلى آخر الكبار النائمين هناك الشاعر الحداثي مهدي إخوان ثالث (1928-1990) وبينهما الكثير من الأئمة والعلماء والشخصيات العسكرية والسياسية والقليل من الشعراء الذين رفعوا من قيمة المدينة المعروفة كأهم مدن خرسان ومركز محافظة خراسان رضوي التي يسكنها أربعة ملايين إيراني.

تنامُ المدينة شمال مدينه كلات نادر شمال شرقي تركمنستان، ومن الشرق أفغانستان ومدينة هراة، ومن الغرب مدينة نيسابور، ومن الجنوب مدينة فريمان، وتعتبر المدينة محجاً لأتباع المذهب الشيعي وقبلةً لدارسي الفقه والدين والباحثين في شؤون التلذّذ في ذنوب لم يقترفها أحد من أبناء اليوم لكنها جزء من إرث الندم الذي يؤلم الشيعة منذ عهد الدسائس السياسية والقتل على أسس الاختلاف، حتى يومنا هذا.

دمر الأوغوز أو الغز (اتحاد قبلي تركي) المدينة (548 هـ) وكذاك غزاها المغول ودمروها مرةً أخرى ( 617 هـ)  ثم نهبها داود ابن البراق من أحفاد جنكيز خان (695 هـ ) وجاء بعده ميران شو ابن تيمور لنك الذي حاصر المدينة للقضاء على حركة الحاج بك (791 هـ) وبقيت الميدنة تشهد القلاقل حتى حكمها الصفويون (981 هـ) ثم غزاها ونهبها عبد المؤمن خان أوزبك حاكم بلخ (996هـ) وجاء بعدهم محمد شاه ويردي خان الأول (الخان الثاني لبلاد اللور من أسرة الولاة) بعد أن قتل نادر شاه، ثم مرحلة القاجاريين الذين حكموها من جملة ما حكموا، وخلال حكمهم ضرب المدينة زلزال عنيف فدمر ثلثها (1673م) وشهدت المدينة نشاطاً كبيراً للحركة الوطنية في الثورة الدستورية (1905-1911) قبل أن تشهد التدخل الروسي السافر على الأراضي الإيرانية، وكانت مشهد أكثر مدينة يتواجد فيها الروس. شهدت القليل من الاستقرار في عهد أسرة الشاه وبعد الثورة الإسلامية التي اهتمّت بالمدينة بعد نجاحها، لكنها لم تسلم من قنبلة مفخخة انفجرت فوق ضريح الإمام الرضا وأدت إلى مصرع أكثر من 20 شهيداً وجرح المئات.

الإيمان والموسيقى
أول ما يذهب إليه زوار مشهد ضريح الإمام الرضا، ويبلغ متوسط الزوار عشرين مليون زائر كلّ عام، يأتون من إيران (سياحة داخلية) ومن العراق ولبنان ودول الخليج وأفغانستان، وقد هيأت المدينة الفنادق والمرافق العامة والأسواق والخدمات (متوسطة وفارهة)، فهي تستقبل ستة وخمسين ألف زائر في اليوم الواحد، وفي الإجازات والمناسبات الدينية يتضاعف العدد مع تضاعف ملايين العائدات المالية.

رغم ازدهار مدينة مشهد وإعجازات الهندسة المعمارية التي شيّدت المدينة بعد عمر من الهدم إلا أنَّ المدينة محددة المهام ولا يسمح لها بإقامة الحفلات الموسيقية، الأمر الذي لا يعجب شريحة واسعة من أبناء المدينة، فثمّة استنكار دائم لهذا الرفض يبديه ناشطون وموسيقيون من مشهد، وكما يتردد في أوساط المثقفين الإيرانيين، استوعبت هدماً ونهباً أطاح بها مئات السنين، لكنها بعد الاستقرار والبناء تجلسُ بلا أغنية ويخاف المتشددون عليها من الموسيقى، ذلكَ أنَّ الموسيقى تسيءُ لقداسة المدينة ويخدشُ الوجدان الإيماني لأهلها (4 مليون) ولملايين الزوار الذين يحجون لها، وفق ما تدلي به السلطات الإيرانية تعليقًا على منع الحفلات، لهذا لا تخلو الصحافة الإيرانية من عنوان "الغاء حفل موسيقي في مدينة مشهد"، كذلك تضجُ المواقع المعتدلة بسبب مسلسل المنع، ويظهر رفضهم على المواقع والصحف المستقلة وكذلك على "السوشال ميديا" التي تشهد عواصف الرفض.

من أسكت الموسيقى في مشهد؟
أحمد علم الهدى (73 عاماً) نائب المرشد الأعلى علي خامنئي وخطيب الجمعة في مدينة مشهد وعضو مجلس خبراء القيادة الإيرانية وصديق خامنئي، عُرفَ بالتصريحات المتشددة المثيرة للجدل، خصوصا تجاه الأصوات المطالبة بالحرية، لكنه المعروف بـ "مانع الحفلات الموسيقية" فهو الواقف وراء أي منع للحفلات الموسيقية في مشهد المدينة الأكبر في إيران بعد طهران، ولا يمكن معارضة علم الهدى لأنه يرى في منع الحفلات الموسيقية في مشهد (وكل ايران) حماية لقداسة المدن.

تلمعُ صورة أحمد علم الهدى بوجهه الغاضب وصوته المجلجل في ذهن متعهدي الحفلات والموسيقيين والمطربين ضمن أي اتفاق لعمل غنائي، تتداعى صورته في أذهانهم؛ لأنّ المنع سيد الموقف عند علم الهدى الذي لا يتوانى عن استخدام منبر مشهد لمهاجمة القائمين على هذه الحفلات ومؤسسات "وشخوص" الدولة المعنية بترخيص هذه الحفلات والإشراف على تنظيمها –قبل أن تمنع في اللحظة الأخيرة-.

يقفُ علم الهدى في مساحة المتشددين ضمن تيار يقدسُ المرشد الأعلى علي خامنئي (أعلى سلطة في إيران) ويتّهمُ المعتدلين بالميوعة وترويج الرذيلة في إيران من خلال الفن والدبلوماسية الناعمة مع الغرب، كذلك يعتبر علم الهدى هذه الحفلات جزءًا من أدوات أعداء إيران التي زرعها العدو للنيل من الثورة الإسلامية والوجدان الديني المؤمن في إيران، حتى أنه كَفرَ كل من يعارض خامنئي ولا يقف مع تياره المتشدد، ووصل به الأمر إلى التحريض على قتل معارضي المرشد.

لم يسلم الموسيقيون ومحبو الفن في مشهد من حدّة خطب علم الهدى، فقد قرر علم الهدى أن تكون مشهد مدينة للزيارة والحج فقط ولا يؤيد حتى التنزه أو التمتع بالمرافق العامة هناك. وممّا يدعم علم الهدى في آرائه الإقصائية حبه لخامنئي الذي يقرُّ بعصمته، ويبادله خامنئي هذا الوفاء والحب الذي يصف علم الهدى بـ "المتوج بالعلم"، و "فدائي المشهد الثقافي في إيران"، و"أصحاب القول البليغ"، ممّا ساعد علم الهدى في مشواره الرافض للفن، كذلك يملك علم الهدى الكثير من مسوغات الحدّة والهجومية دون محاسبة فهو صهر المرشح الخاسر في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة إبراهيم رئيسي العضو في "لجنة الموت" التي نفذت الإعدامات الجماعية في إيران عام 1988.

الفنانون الممنوعون من الغناء في إيران هم صفوة الفنانين وأهم الأصوات الإيرانية التي يحتفي بها العالم

بين هذه السجالات "متشددون ومعتدلون، متشددون أقرب إلى الاعتدال، معتدلون أقرب إلى التشدد" تبقى المدينة خالية من أي نغم ولا ينعم أبناؤها بأي حفل موسيقي إلا بحفلات طهران وأصفهان وباقي المحافظات التي يراعى فيها التنظيم بإشراف كل التيارات والمؤسسات درءاً للفسق والفجور والاختلاط ومراقبة كلمات الأغاني لئلا تخدش الحياء العام، فالدولة تعرف الكلمات التي ستغنى وتجلسُ الفرقة الموسيقية ضمن فريقين "عازفات وعازفين"، كذلك ثمة من يشرف على الحفل أثناء تقديمه خوفاً من ارتجال المطرب، هذا في أي محافظة تغني باستثناء مدينة مشهد التي لم تسمع نغمًا واحدًا منذ عقد كامل، ومعها أختها قُم نظراً لقدسيتهما التي يخاف على خدشها المتشددون.

إيران ليست كلها "علم الهدى"
مع عواصف الناشطين والكُتّاب للدفاع عن حق مدينة مشهد بالموسيقى، يتدخل الموسيقيون الذين منعوا ويصرحون بتصريحات تفيد خيبة أملهم في بلادهم بعد أن قدرتهم الكثير من بلدان العالم. وكذلك أيّد مسؤولون كثر إقامة الحفلات رافضين تدخلات المتشددين، ووصل الأمر باستقالة جماعية لوزراء وافقوا على إقامة الحفلات ورفض المتشددون قراراتهم مما خلق حالة من تضارب القرارات في مؤسسات الدولة، لتكون استقالاتهم آخر سلاح يستخدمه الوزراء (علي جنتي وزير الثقافة والإرشاد، وعلي أصغر فاني وزير التربية والتعليم، ومحمود كودرزي وزير الرياضة والشباب).

رغم شراسة علم الهدى ودعم مدعي عام مدينة مشهد حسين نقوي له، وكذلك التصريحات النارية لعدد كبير من المتشددين مثل؛ عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني والنائب المتشدد حسين نقوي حسيني ودعم صحف المتشددين لمنع الفن أمثال "وكالة أنباء فارس وكيهان ورسالت" إلّا أنَّ الشارع الإيراني بكل أطيافه "مثقفون وفنانون وناشطون" لا يمررون إقصاء الفن دون ردود لا تقل حدّة عن تصريحات مانعي الفن في مشهد –تحديداً- وسائر المحافظات على وجه العموم، لكن الحفلة تلغى ولا يجني أصدقاء الفن إلا سخطهم الذي لا يتفاعل معه المعتدلون كما يجب ويرفضه المتشددون كما يحلو لهم، الأمر الذي يساهم بشك متابعي المشهد بنوايا المعتدلين واحتمالية أن يكونوا مجاملين للمتشددين على حساب الحريات العامة.

يؤيد الرئيس الإيراني حسن روحاني إقامة الحفلات الموسيقية في بلاده، لكن روحاني ليس السلطة الوحيدة، ووصلت محاولاته لدعم الفن إلى عتبه على علي جنتي وزير الثقافة والإرشاد الإيراني؛ لأنه رضخَ إلى ضغوطات المتشددين وألغى حفلة للمطرب الإيراني-العالمي علي رضا قرباني في مدينة مشهد، وكانت إشارة روحاني هنا إلى خطيب مسجد مدينة مشهد أحمد علم الهدى الذي أثار جدلًا كبيرًا وطالب بإلغاء الحفل، الأمر الذي أجبر المطرب قرباني على بث حفلته على شبكة الإنترنت حرصاً على رضا جمهوره.

5 آلاف موسيقي إيراني وقّعوا على رسالة للرئيس روحاني للشكوى من سطوة المتشددين على الفن في البلاد

وجه إيراني معتدل يضم صوته للأصوات التي تدعم الموسيقى في إيران، علي مطهري نائب رئيس البرلمان الإيراني الذي يدعم الحفلات الموسيقية بينما يتصدّى لها المتشددون، يدعمها باعتباره محسوباً على التيار المعتدل، وتصل به المواجهة إلى اعتبار الإمام الرضا (صاحب المقام الذي أضفى على مدينة مشهد قداستها) محباً للحفلات الموسيقية؛ بل ربما كان يحضرها ويستمتعُ بها، لينفي بهذا دفاع المتشددين الشرس عن قداسة الإمام باعتبار الفن مدعاة للفسق كما  يصوره التيار المتشدد.

يستمر المنع
يستمر المنع وتنتقل عدواه حتى تصل إلى العاصمة طهران التي يفترض أنّها أكثر المدن الإيرانية استيعاباً للفن والثقافات، فقد وضع النائب العام في طهران، عباس جعفري دولت أبادي قيوداً جديدة تعقد تنظيم الحفلات الموسيقية في العاصمة الإيرانية طهران، رغم استياء الفنانين الإيرانيين من عدوى المنع التي يتزعمها علم الهدى والمتشددون، فقد وقع 5 آلاف موسيقي إيراني على رسالة أرسلوها للرئيس الإيراني حسن روحاني وبثوا فيها شكواهم من سطوة المتشددين الذين يقتلون الفن في البلاد ويصرون على تهميش الموسيقيين والنظر لهم بعيون الفسق وتبني أجندات معادية للوطن، حسب بيانهم.

مشهد بلا موسيقى والمدن الأخرى ليست أفضل حالاً، وأصعب ما في الأمر أنّ الفنانين الممنوعين من الغناء في إيران هم صفوة الفنانين وأهم الأصوات الإيرانية التي يحتفي بها العالم، أبرزهم محمد رضا شجريان الذي يتزعم الموسيقى الكلاسيكية والطرب الإيراني الممزوج بالشعر الفارسي القديم، كذلك علي رضا قرباني الصوت الإيراني الأبرز خارج إيران، وآخرهم كان شهرام ناظري الذي ألغي حفله الأخير في مدينة مشهد، ممّا أدى إلى إدخاله للمستشفى بسبب صدمته من الطريقة التي منع فيها الحفل رغم أنّه اجتاز كل مراحل الحصول على تصريح للغناء والموسيقى. منبر الشيخ مستعد وصراعات المتشددين والمعتدلين باقية، والموسيقى فقط من تغيب.

*كاتب أردني 

الصفحة الرئيسية