التجسس وسيلة نظام أردوغان لحماية أركانه وأنشطته الخارجية

التجسس وسيلة نظام أردوغان لحماية أركانه وأنشطته الخارجية


17/05/2020

أحمد فايز القدوة

امتدح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “الأبطال المجهولين” الذين يعملون ليلا ونهارا في جميع أنحاء العالم لأغراض التجسس في وقت “السلم أو الحرب”. كان هذا كلام أردوغان بداية العام الحالي خلال افتتاحه المقر الجديد لجهاز الاستخبارات الذي يعد الأقوى والأكبر في تركيا.

بدا أردوغان أكثر وضوحا بشأن عمل جهازه الاستخباراتي ومدى انتشاره الواسع في جميع أنحاء العالم حيث يعتمد عليه للحفاظ على أركان نظامه بالداخل وتنفيذ أجنداته السياسية وتدخلاته الخارجية ومنع أيّ محاولة لإفشالها من قبل قوى تعتبر أنقرة معادية لها.

ويعمل النظام التركي بحكم صلاته وعلاقاته المشبوهة مع جماعات إرهابية على إظهار نفسه بمكان “المنقذ” لرعايا دول غربية اختطفوا على أيدي الإرهابيين والجماعات الإسلامية الجهادية سواء في أفريقيا أو في دول شرق أوسطية على غرار ما جرى في سوريا إبّان بدايات الحرب هناك.

فالرئيس التركي الذي زج بمئات الآلاف من المعارضين داخل تركيا في السجون، لا يمانع في تنفيذ أنشطة تجسس خارجية حتى وإن كانت مخالفة للقوانين الدولية وتنتهك سيادة البلدان. ويستغل نظام أردوغان عبر جهازه الاستخباراتي الذي نجح مع قوى الأمن في إفشال انقلاب عام 2016، علاقاته الوثيقة مع منظمات وجماعات إسلامية متطرفة لتعزيز حضور بلاده الأمني والعسكري في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ولم يكفّ أردوغان، منذ ليلة الخامس عشر من يوليو 2016، البحث عن وسيلة لإبعاد شبح الانقلابات عن نظام حكمه، الذي عزّزه بسلطات تنفيذية واسعة حيث يعمل بشكل حثيث من أجل الاستعانة ببرامج تجسّس متطورة لتسهيل مهمة أجهزته الاستخباراتية لمنع تكرار ما جرى في العام 2016، إضافة إلى الحفاظ على أمن جنوده ومرتزقته في مناطق الصراعات سواء في سوريا أو ليبيا أو العراق.

في الداخل التركي، أطلق أردوغان يد الأمن والاستخبارات من أجل كبت الأنفاس والزج بالمزيد من المعارضين في السجون فكانت وسيلته الوحيدة فرض المراقبة الافتراضية والواقعية لخصومه، فلم يترك مكانا داخل تركيا أو خارجها إلا وكان له فيه من الأذرع ما يؤمن مهمته من أجل هدف وحيد “حماية أركان نظامه”. وقد كان الصحافيون من أوائل الذين نالوا قسطا وفيرا من الملاحقات والعقوبات، حيث سجن الكثير منهم بحجج مختلفة تراوحت بين دعم الإرهاب والمس من هيبة رئيس الدولة.

ويقول المحلل السياسي والصحافي المخضرم جمال دملج لـ”العرب” إنه “منذ فشل المحاولة الانقلابية التي استهدفت الإطاحة به في الـ15 من يوليو 2016، قام أردوغان بإطلاق يد مؤسساته الأمنية والاستخباراتية في الداخل والخارج على حد سواء، مستفيدًا من عوامل عدة، أهمها: العمل على مكافحة نشاطات الموالين للداعية فتح الله غولن على الساحة الداخلية والتجسس على تحركاتهم في الدول الأخرى تحت شعار توفير مستلزمات الأمن الاستباقي، ومحاولة قطف ثمار الدعوة التي وجهها المفكر الروسي أليكسندر دوغين للرئيس فلاديمير بوتين بخصوص أن ضمان بقاء روسيا في المياه الدافئة يستوجب إقامة علاقات مميزة مع كل من تركيا وإيران، الأمر الذي ساهم في تجاوز أزمة إسقاط قاذفة السوخوي عند تخوم الحدود السورية التركية عام 2015، ومن ثم في إطلاق مرجعية أستانة ولقاءات سوتشي”.

وأضاف أن الرئيس التركي عمل على “استغلال حالة الارتباك وعدم اليقين التي سادت أجواء العالم جراء وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض عام 2016، ومحاولة اللعب على حبال التوازنات الدولية بطريقة بهلوانية”.

قبل يوليو 2016 كان همّ الرئيس التركي الأول تقوية جهاز الاستخبارات ومديرية الأمن العام على حساب باقي الأجهزة الأمنية والعسكرية العاملة في الدولة التركية من أجل تحصين نظامه من الانقسامات والانقلابات. وقد اعتمد أردوغان في هذا على رئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان عضو حزب العدالة والتنمية الحاكم والرجل الأقوى في تركيا في تنفيذ عمليات تطهير واسعة النطاق شملت مختلف مؤسسات الدولة بدءا من القضاء مرورا بالجيش، وطالت حتى أصغر هيئة عاملة داخل تركيا. كان هذا الجهاز العنصر الأساسي والنشط من أجل حماية النظام من أيّ محاولة انقلابية جديدة، حيث لم يجد المراقبون غرابة في نجاح هذا الجهاز في إفشال محاولة انقلاب 2016.

وتشير تقارير جديدة إلى أن نظام أردوغان ضاعف من جهوده لتقوية جهاز الاستخبارات داخل تركيا وخارجها، حيث عمل على منحه صلاحيات واسعة بعد تحويل مقار السفارات والقنصليات التركية إلى “أوكار للجواسيس” مهمتها التنصت على الجاليات التركية المنتشرة في دول العالم، وخاصة في الدول الأوروبية، ومراقبة أنشطتها.

ويقول المحلل السياسي والمختص في الشأن التركي باسل ترجمان لـ”العرب” إن “حكومة أردوغان تستغل كل المساحات والإمكانات التي يمكن أن تستعملها خاصة منها التجارية والاقتصادية لجمع معلومات وتجنيد مؤيدين واستعمالهم في قضايا مخالفة للقوانين الدولية”، مشيرا بالخصوص إلى إرسال أنقرة لمرتزقة سوريين عبر تمويلهم وتسليحهم إلى ليبيا حيث اعترفت بذلك ممّا جعل

الأمر يشكل جريمة حرب تضع أردوغان أمام طائلة محكمة الجنايات الدولية. وكشف تقرير نشر في التاسع من مايو الجاري على موقع “نورديك مونيتور” السويدي عن أنشطة مراقبة غير قانونية نفذتها أجهزة الاستخبارات التركية في أوروبا والأميركيتين وأفريقيا وآسيا الوسطى.

ويقول الموقع السويدي إن نظام أردوغان أسس وكالة حكومية سرية عام 2016 تعمل تحت مظلة مديرية الأمن العام مهمتها تجنيد جواسيس أتراك لجمع معلومات في العديد من الدول وهي الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وبلجيكا وإيطاليا وهولندا واليونان والنرويج والبرازيل وأنجولا وجنوب أفريقيا ومصر والعراق وأوزباكستان وباكستان وقيرغيزستان. وأظهرت عمليات التطهير واسعة النطاق في الداخل التركي خشية متنامية لدى أردوغان من صعود قوة معارضة تهدد أركان نظامه فعمل على تطويق تلك التهديدات عبر زرع الجواسيس في الداخل والخارج على حد سواء. فأردوغان يعتقد أن النظام البوليسي القوي يمكن أن يجنبه محاولة انقلابية جديدة.

ويوضح ترجمان، المختص أيضا في الحركات الإسلامية، أن موضوع التجسس ليس جديدا على حكومة أردوغان التي استغلت حالة التعاطف مع تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية لخلق شبكات من المؤيدين والأنصار، تحوّلت فيما بعد إلى لعب أدوار أخرى أصبحت نتائجها واضحة فيما يجري في سوريا وليبيا والعراق وغيرها من الدول.

نشاط  دائم

يعمل النظام التركي برئاسة أردوغان على تحويل النظام السياسي إلى نظام استبدادي بإجراءاته القاسية التي اتخذت في أعقاب العملية الانقلابية الفاشلة. ويقول معارضون للرئيس التركي إنه جعل عمل أجهزة الأمن تتركز أساسا على ملاحقة خصومه السياسيين والمعارضين للنظام بدلا من التركيز على مهامها في الحفاظ على حياة المواطنين الأتراك من الجرائم المتنامية داخل البلاد، إضافة إلى استنزاف المؤسسة العسكرية من خلال إشراكها في تدخلات عسكرية خارجية لا نهاية لها في سوريا وليبيا والعراق “لا تجلب معها إلا الخسائر المادية والمعنوية” للبلد الذي يعاني اقتصاده جراء تدهور سعر العملة المحلية مقابل الدولار. وكُشف في الأشهر الأخيرة عن عمل دؤوب ومضاعف للنظام التركي من أجل شراء أجهزة تنصت من الخارج بهدف استغلالها لتعقب المعارضين والخصوم السياسيين.

ويقول موقع “نورديك مونيتور” إن العملاء الأتراك كانوا أكثر نشاطا في الولايات المتحدة وألمانيا واليونان وهي الدول التي ينشط بها أكثر أعضاء الجالية التركية في الخارج، خاصة من أتباع رجل الدين التركي فتح الله غولن.

وتشير الوثائق التي نشرها الموقع السويدي إلى أن أردوغان طلب شخصيا تأسيس إدارة تختص بمكافحة ما يسمّى بـ”الجرائم ضد الأمن القومي”، وهي إدارة خاصة تأسست في الـ12 من مايو 2016 بالعاصمة أنقرة، وهي أيضا المسؤولة عن العمليات الاستخباراتية الخارجية.

والإدارة الخاصة هي واحدة من أربع إدارات جديدة تأسست داخل مديرية الأمن مهمتها تتبع المعارضين في الخارج وترصد أنشطتهم. ويولي نظام أردوغان أهمية قصوى للعمليات الخارجية التي ازدادت في السنوات القليلة الماضية ضد المعارضين.

وتشير وثائق نشرها الموقع السويدي إلى أن السلطات التركية كانت قلقة بشأن تسرّب تلك الوثائق حيث شدد نائب رئيس إدارة الشرطة أيْهان آيْ في خطاب يعود تاريخه إلى الـ8 من نوفمبر 2018، على معاونيه بالتعامل بحرص مع المعلومات، منبها إلى ضرورة مشاركة المعلومات بناء على “الحاجة لمعرفتها” و”عدم مشاركتها مع أيّ أشخاص أو وكالات غير مخولين بالأمر”. كما طلب منهم مراجعة البروتوكولات لضمان أمن المعلومات أثناء اتخاذ إجراءات ضد الأشخاص الموجودين على الأراضي الأجنبية. ويبدو أن حكومة أردوغان كانت قلقة بشأن التداعيات المحتملة حال كشف تلك الوثائق وأرادت التأكد من عدم تسريبها.

وكشف ترجمان أن تركيا استغلت تمثيلياتها الثقافية والاقتصادية المنتشرة في دول العالم لجمع معلومات لغرض اختراق هذه الدول عسكريا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا.

ويُعتقد أن الأشخاص الذين طالتهم ذراع حكومة أردوغان في الخارج تابعون لحركة رجل الدين التركي فتح الله غولن الذي تزعم أنقرة مسؤوليته عن الانقلاب الفاشل عام 2016، والمدرجة أسماؤهم بالوثائق عرضة للاعتقال حال العودة إلى تركيا والحرمان من الخدمات القنصلية في سفاراتها ومصادرة أصولهم استنادًا إلى اتهامات ملفّقة تتعلق بالإرهاب.

من جهته أوضح جمال دملج أن التوجهات التركية (المتعلقة بالعمل التجسسي والتحركات في المنطقة) باتت محكومة بنزعتين، الأولى عقدية وتتعلق بالإسلام السياسي وفقًا للمفهوم الإخواني، والثانية تستغل الأولى من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ولاسيما في مجال “التشبيح” على مصادر الطاقة من الغاز والنفط في قبرص وسوريا، ولاحقًا في ليبيا، نظرًا لأن إردوغان يدرك تمامًا أن نتائج عمليات المسح التي أجرتها السفينة الأميركية نوتيليس في حوض البحر الأبيض المتوسط أظهرت افتقار تركيا تمامًا لمثل هذه المصادر.

جرائم أخرى

يقول مختصون إن نظام أردوغان تمادى في استهداف حكومات ومنظمات في أوروبا والشرق الأوسط لأغراض تجسّسية حيث كشف تقرير لوكالة رويترز، أوائل يناير الماضي، أن هجمات إلكترونية استهدفت 30 مؤسسة وشخصية بما في ذلك وزراء وسفارات وأجهزة أمنية كان مصدرها تركيا.

وتظهر هذه الهجمات الإلكترونية العمل المكثف لأجهزة استخبارات تركية من أجل التجسس عبر الإنترنت لدعم المصالح التركية في المنطقة وتعزيزها، خاصة في ضوء التدخلات المستمرة لأنقرة في أكثر من ملف. ولم تكن الهجمات الإلكترونية المصدر الأساسي لنظام أردوغان فقد كشفت تقارير أن ممثلين للادعاء في مدينة ميونيخ الألمانية فتحوا تحقيقا مع شركة “فينفيشر” بعد تلقي شكاوى من منظمات غير حكومية من بينها مراسلون بلا حدود والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان تفيد بتزويد الشركة الألمانية لنظام أنقرة ببرنامج يمكن استخدامه للتجسس على صحافيين ومعارضين أتراك.

وقالت هذه المنظمات في سبتمبر الماضي إن تركيا استخدمت برامج التجسس عام 2017 لاستهداف المحتجين المناهضين للحكومة من خلال توفير الوصول إلى البيانات على هواتفهم من خلال منتج “فين سباي” التابع للشركة الألمانية.

ويقبع في السجون التركية أكثر من 77 ألف شخص سجنتهم أنقرة على خلفية زعمها مشاركتهم في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، حيث أقالت أكثر من 150 ألفا من الموظفين وأفراد الجيش، كما تمّ إيقاف آخرين عن العمل في إطار عمليات التطهير الواسعة التي تلت محاولة الانقلاب. وتقول جماعات حقوق الإنسان إن الرئيس التركي استغل هذه المحاولة الانقلابية كذريعة للقضاء على المعارضة وخصومه السياسيين في البلاد.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية