قصة حب بليغ ووردة

قصة حب بليغ ووردة


31/05/2020

رياض عصمت

يفرح المرء في الغربة حين يصله كتاب باللغة العربية، لأنه يلقي حجراً في بحيرة الذاكرة الراكدة. فوجئت الصبية الأميركية التي حملت لي الكتاب هدية من قريبتها في القاهرة أنني صحت مبتهجا: "هذه سيرة بليغ حمدي وقصة حبه لوردة الجزائرية!".

ضمنت منى البكري، مؤلفة كتاب "رسالة على نوتة موسيقية" صورة الرسالة المرافقة لإحدى باقات الورد التي دأب بليغ على إرسالها لزوجته بانتظام، حتى أن وردة قالت له يوما مداعبة: "بفلوس الورد، يا بليغ، كان زمانَّا بقى عندنا عمارة!" لكن المأساة أن الطلاق كان مصير زواج فني دام قرابة سبع سنوات فقط، بدءا من 11 مارس 1973.

لكن الحب الذي بدأ بالتوهج تحت الرماد قبل ذلك بعدة سنوات كان أبرز العوامل التي أكسبت ألحان بليغ حمدي سمتها العاطفية القوية منذ "حب إيه" لأم كلثوم، التي طلبت من الموسيقار محمد فوزي أن يلحنها لها لتخرج عن الطابع التقليدي، فرشح لها بليغ بديلا عنه، لتنال "حب إيه" في ديسمبر 1960 نجاحا كبيرا، ثم تنازل محمد فوزي لبليغ حمدي ثانية عن تلحين أغنية "أنساك" بنبل، قائلا لأم كلثوم إن بليغ لحن القصيدة أفضل منه وهو جالس في مكتبه.

أخذ بليغ يبث عبر ألحانه لأم كلثوم عن بعد مشاعره تجاه وردة التي لم تكتب له الأقدار الاقتران بها، فلحن لها "سيرة الحب"، "ألف ليلة وليلة" و"فات الميعاد." علقت أم كلثوم بعد أن غنت من ألحانه "بعيد عنك" ممازحة: "أنت عاملني كوبري للبنت بتاعتك، يا بليغ؟".

حين تقدم بليغ لطلب يد وردة، رفض والدها ومعظم أخوتها عرضه بشدة. سرعان ما غادرت وردة مصر مع عائلتها حين أمر الرئيس عبد الناصر بترحيلها إثر إشاعة زائفة عن علاقة تربط المشير عامر بها.

في الجزائر، تزوجت مسؤولا كبيرا أرغمها على اعتزال الغناء لتصبح أما لطفلين. شاءت الأقدار أن يأمر الرئيس الجزائري هواري بومدين أن تغني وردة قصيدة في عيد الاستقلال في عام 1972. كان المفترض أن يلحن القصيدة الموسيقار رياض السنباطي، لكن مرضه جعله يدعو بليغ حمدي كي يتولى عنه التلحين وقيادة الفرقة الموسيقية في الاحتفال المذكور، خاصة أن بليغ نجح في منافسته ومحمد القصبجي في التلحين لأم كلثوم.

منذ ذلك اللقاء الذي رسمته الأقدار بين بليغ ووردة في الجزائر، صار الخيار أمام وردة إما أن تدفن طموح الفن إلى الأبد، أو تنفصل عن زوجها لتتابع حلمها الفني. اختارت وردة فنها، فحصلت على الطلاق وعادت إلى مصر لتصبح نجمة شهيرة غير متوقعة أن يحرمها زوجها من ولديها طويلا حتى استعادت بصعوبة سماحه لها برؤيتهما.

كان الزواج بين بليغ ووردة سعيدا في بداياته، لكن تناقض السلوك بين بليغ الفوضوي وبين وردة المنظمة جعل الخلاف يدب بينهما تدريجيا، وأسهم في تعميقه ما أشيع عن علاقات بليغ الغرامية في الإمارات، ورحلاته إلى سوريا، رغم إنكار المؤلفة منى البكري ذلك، داعمة رأيها بحماسة عبر إثباتات وشواهد، وإن كانت واهية.

اتسم طبع بليغ حمدي بالإخلاص لأصدقائه، والتسامح مع من أساء إليه، حتى أنه غفر ذات مرة للملحن محمود الشريف انتقاده الحاد، وذهب إليه بنفسه عندما داهمه المرض ليكلفه بتلحين ثلاث أغنيات لوردة ويسدد له ثمنها سلفا.

لم يقصر بليغ يوما في زيارة والدته وطلب رضاها، كما احتفظ بعلاقة طيبة مع أشقائه وأبنائهم وبناتهم. ظل بليغ حتى آخر لحظات حياته محتفظا بصورة ابنة وردة التي أحبها كابنته تماما، في حين ظل ابن وردة رافضا له وناقما عليه لأنه اعتبره المسؤول عن حرمانه من أمه. كان الجرح العميق في نفس بليغ أنه لم يرزق بطفل من وردة، التي حملت منه وملأت نفسه بالأمل في أن يصبح أباً.

عرف عن بليغ حمدي حسه الوطني العالي. عقب نكسة 1967 اشتهرت أغنية للمطربة شادية بعنوان "قولوا لعين الشمس ما تحماشٍ" من تلحينه. أما عقب اندلاع حرب 1973 مباشرة، فهرع إلى الإذاعة المصرية بدافع الحماسة ليجمع عددا من الموسيقيين وينتج على حسابه الخاص أغنية لمصر.

بين أهم نجاحات بليغ وعبد الحليم عدد من الأغاني الوطنية، منها "المسيح" و"عدى النهار"، اللتين شدا بهما "العندليب" على مسرح "ألبرت هول" في لندن. تذكر مؤلفة الكتاب منى البكري نقلا عن باحثة أجنبية أن الرقم الحقيقي لألحان بليغ حمدي يناهز 3000 لحنا. لحّن بليغ موسيقى عدد كبير من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والإذاعية وكان حلمه أن يطور فن الأوبريت.

اتسم طبع بليغ حمدي بالعفوية والكرم الناجمين عن نشأته في الصعيد، لكن ذلك انعكس على سلوكه الفوضوي، حتى أنه نسي موعد زفافه من وردة وهو بصحبة عبد الحليم في لبنان، ونسي مرة أخرى محمد رشدي في بيروت وعاد وحده إلى مصر.

في إحدى الحفلات، دأب بليغ على التنقل بين زاويتين مختلفتين منهمكا في الكتابة، فسألته وردة معاتبة عما يفعل. أجاب إنه يلحن أغنيتين مختلفتين، واحدة لشادية والأخرى لنجاة! في حفلة أخرى، لم يتردد في كتابة نوتة خطرت بذهنه على كم قميصه الأبيض.

إذا عدنا بالذاكرة إلى قيام الموسيقار محمد عبد الوهاب تلبية لرغبة الرئيس عبد الناصر بالتلحين لأم كلثوم أغنيتها الناجحة "أنت عمري" في عام 1964، لأدركنا صعوبة التحدي أمام بليغ في مواجهة "موسيقار الأجيال"، الذي جاراه في التلحين لعبد الحليم حافظ. لحن بليغ لحليم ثلاثين أغنية وربطته معه علاقة صداقة قوية، بالرغم من كون حليم صديقا لملحنين موهوبين آخرين هما محمد الموجي وكمال الطويل، وشريكا لعبد الوهاب في شركة "صوت الفن". لم تكن المنافسة سهلة، إذ كان هناك أيضا منير مراد ومحمد سلطان ومحمود الشريف والسيد مكاوي وعمار الشريعي، إضافة لصلاح الشرنوبي الذي لحن لوردة فيما بعد عددا من أجمل أغانيها.

اعترفت وردة بعد وفاة طليقها في إحدى المقابلات أنها لم تكن لتحقق النجاح الساحق في مصر والعالم العربي إلا بفضل موهبة بليغ حمدي الفذة. لا تقتصر إنجازات بليغ حمدي على 72 أغنية لحنها لوردة ذات العينين السوداوين، منها أغاني بعض أفلامها ومسلسلاتها التلفزيونية، فقد لحن أيضا لمطربات كثيرات، نذكر منهن شادية، فايدة كامل، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، سميرة سعيد، أصالة نصري وميادة الحناوي، (التي كتب ولحن لها أجمل أغانيها "كان يا مكان"، التي حمَّلها رسالة حزنه لفراق وردة). لحن بليغ أيضا لمطربين كثر، منهم محمد رشدي، محرم فؤاد، وديع الصافي، أحمد عدوية، محمد منير، علي الحجار، هاني شاكر، فهد بلان وسواهم.

تذكر مؤلفة الكتاب أن بليغ هو من أول من أدخل آلة الغيتار الكهربائي إلى الفرقة الموسيقية الشرقية بأداء عمر خورشيد. تعاون بليغ مع عديد من الشعراء، نذكر منهم صديقه محمد حمزة، عبد الرحمن الأبنودي، عبد الرحيم منصور، عبد الوهاب محمد، مأمون الشناوي، مرسي جميل عزيز، أحمد شفيق كامل، سيد مرسي، فضلا عن تأليفه بنفسه كلمات بعض الأغاني. ربطت بين بليغ والصحفيين وجدي الحكيم ومحمود عوض صداقة متينة، فكتب الأخير أبلغ رثاء له.

شن المحافظون في الصحافة حملة ضارية على بليغ بسبب سقوط مطربة مغربية من شرفة منزله، رغم أنه لم يكن متواجدا مع ضيوف حفلته بسبب الإرهاق. خلال وجوده في غرفة نومه، ركضت المطربة إلى الشرفة إثر مشاحنة مع صديقها مهددة بالانتحار، فاختل توازنها وسقطت. صدر حكم قضائي بسجن بليغ عاما، ولم يفلح محاميه في كسب الاستئناف، فاضطر بليغ للعيش في باريس بعيدا عن معشوقته مصر، حزينا ويائسا أمام حملة إعلامية رهيبة شوهت سمعته، إلى أن بدأت صحته بالاعتلال. بعد سنوات من جهود وردة وصديقاتها، وافقت السلطات أن يقضي بليغ ليلته الأولى لدى عودته إلى مصر في منزله ريثما يصدر حكم محكمة النقض.

لحسن الحظ، صدر الحكم بالبراءة، إنما بعد فوات الأوان. لم يطل الزمان بالفنان مرهف الإحساس ـ الذي قورن بسيد درويش واعتبر أمل الموسيقى العربية ـ فدفع ثمن معاناته باعتلال صحته. أصاب السرطان كبده، ولم يفلح علاجه في باريس، ففارق الحياة في عام 1993 عن عمر ناهز 62 عاما. نقل جثمان بليغ ليشيع في مصر، وودعه في جنازة مهيبة مشاهير الفنانين والإعلاميين وعديد ممن ندموا لإساءتهم إليه. عانت وردة بعد رحيل بليغ من مرض القلب، وظلت مخلصة لذكراه، مشيدة بفضله كفنان وزوج، إلى أن وافتها المنية في باريس في عام 2012. كان ذلك ختام قصة حب بدأت في 11 مارس 1973.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية