السينما العربية تطرق أبواب الدين: الانتقال من الترفيه إلى التنوير

السينما العربية تطرق أبواب الدين: الانتقال من الترفيه إلى التنوير


07/11/2017

لم تخل السّينما العربيّة من محاولاتٍ اختراق لجدار "المحرّمات"، لا سيّما تلك المتعلّقة بالدّين والأعراف والتّقاليد. ونظراً إلى طابع المجتمع العربي "المحافظ"؛ فقد لاقت هذه المحاولات معارضاتٍ شديدةً، من المجتمع والمؤسّسات الدينيّة ومقصّات الرّقابة.
وأمضت السينما العربيّة ردحاً طويلاً وهي تصنّف على أنّها سينما تقليديّة محافظة، فيما يخصّ الموضوعات التي تثير جدلًا على أرض الواقع، وظلّت بعيدة عن التّجريب والتّجديد في تناول الموضوعات المختلفة عن السّائد، وليست الجرأة المقصودة جرأة المشاهد والألفاظ، كما هو متعارف؛ إنّما الجرأة في الموضوعات والأفكار.
يأتي فيلم "مصنع الزّوجات" عام 1942، للمخرج نيازي مصطفى، مثالاً لهذه المحاولات، إلّا أنّ العمل لاقى فشلًا جماهيريًّا ومعارضة كبيرة؛ لتبنّيه فكرة عمل المرأة وتعليمها، وإعادة تأهيلها لدمجها في المجتمع، في زمن كان يُنظر فيه إلى المرأة على أنّها راعية المنزل ومربّية الأطفال.
تلا ذلك بعض الأعمال التي حاولت كسر حاجز الصّمت حول موضوعات أخرى تمسّ تفاصيل الواقع الحسّاس داخل المجتمعات العربيّة، عانقت السّينما فيها قضايا شائكة، وتداخلت واشتبكت مع أكثر هذه الموضوعات سخونة؛ كالدّين وكلّ ما يتصل به من قضايا: كاختلاف الأديان، والعلاقة بين المسلم والمسيحيّ، وقضايا التطرّف الدينيّ، والعنف، والإرهاب، وغيرها من الطّروحات التي ظلّت حكراً على نشرات الأخبار.

سينما اختلاف الأديان
لعلّ أولى مناطق اشتباك السّينما مع الدّين في المجتمع العربيّ، كانت العلاقة التي تجمع بين مكوّنات المجتمع الواحد من الأديان المختلفة، سيّما تلك التي بين المسلم والمسيحيّ التي لطالما ظلّ يُنظر إليها بعينٍ تغضّ الطّرف عن الحقيقة، الأمر الذي دفع مخرجين كثراً إلى تسليط عدساتهم على هذا الواقع.
تعدّ تجربة المخرج حسين صدقي في فيلمه "الشّيخ حسن" في العام 1952، الأبرز في تناول العلاقة بين المسيحيّين والمسلمين في المجتمع المصريّ؛ حيث يحكي الفيلم قصّة حبّ بين شاب مسلم وفتاة مسيحيّة، انتهت بزواجهما وإسلام البطلة، وقد لاقى العمل- حينها- انتقاداتٍ واسعة من داخل البيئة القبطيّة ورجال دينها، لا سيّما بعد اتّهامه بالتّرويج لدين على حساب الآخر، وكان الأمر أشبه بدعوةٍ إلى فتنةٍ بين مسلمِي مصر ومسيحيّيها، وانتهى الأمر بمنع عرض الفيلم حتّى يومنا هذا.
ثمّ جاءت فترة الستينيّات لتحمل في ثناياها خطاب الودّ والمحبّة، والوحدة الوطنيّة بين مكوّنات المجتمع، خاصّة المسيحيّين والمسلمين، وتجسّد ذلك في أعمال شهيرة؛ كفيلم "شفيقه القبطيّة" للمخرج حسن الإمام، وفيلم "النّاصر صلاح الدين" الذي أخرجه يوسف شاهين، وقد تطرّق العملان وغيرهما لشخصيّة المسيحيّ في المجتمع المصريّ، دون "إساءة أو تشهير"؛ بل سعى الفيلمان إلى إظهار المسيحيّ بأحسن صورة، في دعوة صريحة للتّعايش والتّسامح.
وظلّت السّينما المصريّة تحاذر- بعد ذلك- طرح موضوع العلاقة بين الأديان، حتّى جاءت حقبة الألفيّة الجديدة؛ التي حملت معها أعمالًا تكاد تكون الأجرأ في تسليط الضوء على واقع المسيحيّ في المجتمع المصري.

ظلت السينما العربيّة تصنّف على أنّها سينما تقليديّة محافظة فيما يخصّ الموضوعات التي تثير جدلًا في الواقع

فيلم "بحب السيما" في العام 2004، للمخرج أسامه فوزي، الذي كاد يمنع من العرض خشية اعتراض الأقباط على طريقة طرحه لحياة عائلةٍ مسيحيةٍ مصرية، تلاه فيلم "واحد صفر" للمخرجة كاملة أبو ذكري؛ الذي تطرّق لقضايا الأحوال الشخصيّة للمسيحيّين، الطّلاق تحديدًا، كاد العملان أن يكونا بذرة إثارة النّزعة الطّائفيّة؛ فقد كانت رياح المجتمع تنذر بأنّه مجتمع محتقن طائفيًّا، وقد شهد في سنواته الأخيرة أعمال عنف شاهدة على ذلك.

ثمّ طالعنا المخرج عمرو سلامه بفيلم "لا مؤاخذه"؛ عملٌ جاء يحاكي معانة القبطيّ في المجتمع المصريّ، وجسّد ذلك من خلال قصّة طالب مسيحيّ في مدرسة للمسلمين، وكيف حاول التّماهي داخل وسط يعجّ بصيحات الكره والنّفور من الآخر.
ظاهر الأمر يشير إلى أنّ السّينما المصرية، والعربيّة عموماً، باتت أكثر جرأة في التّعاطي مع هذه القضايا، إلّا أنّه لا يمكننا تجاهل نداء الواقع الذي أجبر صنّاع السّينما على تداولها؛ فأحداث العنف الطائفيّ والدينيّ التي شهدتها مصر وغيرها من البلاد العربية، ترتّب عنها وجود أعمال فنيّة تحاول فكّ اللّبس العلاقة التي تجمع بين أتباع الأديان والطوائف المختلفة، وبوصف السّينما "مرآةً" تعكس الواقع وتفاعلاته، كان لزاماً عليها القيام بدورها في التّوعية والنّشر.

عادل إمام في مشهد من فيلم "الإرهابي"

سينما التطرّف والإرهاب

شهد الواقع العربيّ تغيّرات في العقود الأخيرة، خاصّة تلك المتعلّقة بمظاهر التديّن والتعصّب والتّشدد، وقد تطوّرت لاحقاً لتصبح قضايا عنف وأحداثٍ إرهابيّة، تجلّت بعد حادثة اغتيال الرئيس المصري الأسبق "محمد أنور السّادات" في العام 1981، على يد جماعةٍ دينيةٍ وصِفت بالمتطرّفة، تلا ذلك أحداث عنفٍ متصاعدة شهدتها مصر تحديداً، الأمر الذي أخرج مصطلح التطرّف والإرهاب للواجهة.
وبحكم مواكبتها للواقع وتداعياته؛ تلقّفت السّينما هذا المصطلح، وتناولته بأشكال وأساليب مختلفة، وعبّرت عنه، وحاولت إيجاد حلول وعلاجات له تطرحها على ذهن المشاهد وعقل السّلطة، مستغلّةً الحاجة إلى إعادة التّعريف بمواطن الخلل، وأسباب نشوء مشكلتَي؛ التطرّف والإرهاب.
إنّ استجابة السّينما لهذه القضية، وإن جاءت متأخرة، إلّا أنّها كانت "قويّة"، ومرّت بمراحل متعدّدة؛ فقد شهد عقد التّسعينيّات زخماً في الإنتاج السينمائيّ، الذي تبنّى طرح هذه الظّاهرة وعرضها على المجتمع، وأسّس لمرحلةٍ تلته في الألفيّة الجديدة، كرّست جهدها للتّفصيل والتّحليل في الأسباب والتّداعيات.

هل اجتازت السينما عتبة الرّتابة والرّقابة وتحرّرت من حدود "ثالوثها المحرَّم" للاقتراب من إنسانها وواقعه وتحدياته وهمومه؟

قدّم المخرج المصري نادر جلال أحد أوّل هذه الأفلام، فيلم "الإرهاب" في العام 1989؛ الذي يحكي قصّة صحفيّة مصرية تقع تحت تأثير أحد الإرهابيّين الذي يوهمها ببراءته، وتساعده في الهرب، ثمّ تكتشف حقيقته، فتقتله بنفسها، وقد استعرض الفيلم هذه المرحلة من حياة الإرهابيّين دون الغوص في طيّات الأسباب والدّوافع.
وكذلك فعل فيلم "انفجار" عام 1990، للمخرج سعيد محمد؛ الذي عرض قصّة إرهابيّ نفّذ عمليّات اختطاف رهائن مقابل الإفراج عن زملائه المعتقلين، ودارت أحداث الفيلم في إطار مناقشة أساليب عمل المتطرّفين والإرهابيّين ووسائلهم، وعرضها على المجتمع.
واستخدمت السّينما أساليب مختلفة في طرح هذه الظّاهرة؛ ففي العام 1992، ظهر فيلم "الإرهاب والكباب" للمخرج شريف عرفة، من بطولة عادل إمام، واستعرض الفيلم فترة احتجاز رهائن مدنيّين من قبل أحد الإرهابيّين، في ظلّ مفاوضات للإفراج عنهم، بأسلوب كوميديّ ساخر.
تلا ذلك محاولة أخرى أكثر تعمّقاً، جسّدها- أيضاً- الفنان عادل إمام، في فيلم "الإرهابيّ" في العام 1994، من إخراج نادر جلال، وقد حاول الفيلم تسليط الضّوء على الظّروف الاجتماعية التي تدفع الشّباب إلى الالتحاق بالجماعات الإرهابيّة وتنفيذ أجنداتها.
ولم تتوقّف حقبة التّسعينيّات عند هذه الأفلام؛ فقد ظهرت أعمال أخرى شكّلت علامة فارقة في ذاكرة السّينما العربيّة، أبرزها أفلام يوسف شاهين.
فيلم "المصير" الذي تناول حياة الفيلسوف ابن رشد، ممثلاً خطاب العقلانيّة والانفتاح، مستعرِضاً صراعه مع الشّيخ رياض في الفيلم، الذي يمثّل خطاب النّقل دون استخدام العقل.ثم جاء فيلم "الآخر" الذي يدور حول قصّة حبّ يقع أبطالها ضحايا الإرهاب والتطرّف.

السينما تستشعر الخطر الداهم
اتّسمت هذه الفترة من حياة السّينما المصرية بدخولها- لأوّل مرّة- حيّز القضايا المستعجلة الطّارئة في المجتمع، وحاولت استخدام كافّة أدواتها، وتوظيف إمكاناتها في مواجهة ما رأت أنّه خطرٌ داهم يهدّد المجتمع واستقراره، ووعت بأنّ واحدة من قوى الأمن النّاعم تنطلق من الشّاشة الفضيّة الكبيرة، مستغلّةً سحرها ونفوذها لعقل المشاهد ونفسه.
بعد ذلك؛ دخلت السّينما المصريّة مرحلة جديدة أكثر جديّة في التّعاطي مع ظاهرة العنف والتطرّف، وذلك من خلال عدّة أفلام قاد أبرزها المخرج خالد يوسف، سيّما فيلم "حين ميسرة" في العام 2007؛ حيث تطرّق إلى الظّروف والبيئة التي تساهم في تكوين الإرهابيّ، وأحال الأمر إلى استغلال الحركات المتطرّفة الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة السيئة، التي يمكن أن يُستقطَب الإرهابيّون من خلالها.
وقد سبق ذلك محاولة أخرى، للكاتب وحيد حامد، والمخرج محمد ياسين، في فيلم "دم الغزال" عام 2005؛ الذي يحكي قصّة التطرّف بسبب ظاهرة الظّلم الاجتماعيّ التي تعرّض لها أحد أبطال الفيلم، ما دفعه إلى ركوب موجة التطرّف، ووصل فيه الأمر إلى الدّعوة لإقامة خلافة إسلاميّة في أحد أحياء العاصمة المصريّة القاهرة، وما يميّز هذا العمل؛ أنّه مستوحى من قصّة واقعيّة حدثت فعلًا.

تستمرّ الإنتاجات العربيّة في تسليط الضّوء على هذه الظّواهر وغيرها، متقدّمة أكثر على سلّم جرأة الطّرح في الأفكار والمواضيع، ومقتربة أكثر من الواقع ومعطياته. تحاول هذه الأفلام أن تعبّر عن هموم الإنسان ومشكلاته، مزاحمة بذلك عصرًا يشهد عدّة تغيّرات متسارعة، وتتدفّق فيه المعلومات والأفكار من شتّى المناهل، فاتحة باب التّساؤل والإجابة للمشاهد؛ فهل اجتازت السينما عتبة الرّتابة والرّقابة، وتحرّرت من حدود "ثالوثها المحرَّم" للاقتراب من إنسانها وواقعه، وهل تجاوزت الصورة النمطية المتشكلة عنها باعتبارها ترفيهاً محضاً، أم أنها ترفيه وتنوير وتغيير؟


 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية