أزمة الوعي المسطح والتدخين.. موت بطيء ومؤلم

أزمة الوعي المسطح والتدخين.. موت بطيء ومؤلم


24/11/2021

أحياناً كثيرة نتعلق بحبال الوهم، كمجازفة أخيرة لتفسير سيرورتنا الحياتية وفعلنا اليومي، وكمجتمع عالم ثالث، أفراداً ومؤسسات، فإنّنا أكثر ما نكون صيداً ثميناً لهذا الوهم العالق في الوعي إلى آخر حدّ، الفرد خائف ومهزوم داخلياً، ويعاني الكبت والكآبة والتنميط الذي يسبب البلادة، والفراغ الذي جعله مستهلكاً نهماً لكلّ الأفكار الجاهزة والمعلبة.

 

فرد يعيش أزمة وعي حقيقي، رغم هذا الكمّ الهائل والرصيد الكبير من المعلومات المتاحة لديه، وبين يديه، على مسافة نقرة واحدة على شاشة حاسوبه الشخصي، إنّها حالة مربكة من المعرفة، أن تتوسع قاعدة المعرفة المجردة، دون أدنى حساب لتوسيع قاعدة الوعي، ما نقل الفرد من حالة أزمة الوعي إلى أزمة (وعي الأزمة)، فثمّة حاجة لمعرفة يقينية أن فتح قنوات المعلومات لضخّ الأفكار والقيم، كمساهمة حضارية غير معززة ببرامجية ومنهجية رصينة لا تلغي أزمة الوعي؛ بل تحيلها إلى شكل آخر، أخطر وأشد فتكاً في بنية الوعي.

فرد يعيش أزمة وعي حقيقي، رغم هذا الكمّ الهائل والرصيد الكبير من المعلومات المتاحة لديه، وبين يديه

في سياق الأحداث والممارسات والفعل اليومي المسطح، بكلّ ما فيه من أسف ورفض وحيرة والتباس، تبقى حالة التنميط البليد، مسيطرة وفاعلة ومنتجة لخسارات حادّة، على مستوى كلّ محاولات التحوّل إلى فاعلين ومنتجين، وقادرين على الإنجاز، والمساهمة في المعرفة، بدل أن نبقى أسرى منجز قديم أدخلنا سدنته في مجابهات عاطفيه معه؛ إذ حين نحترم هذا التراث، ونقدره، ونتفق معه، ونلتزم أفكاره ونأخذها على محمل اليقين والقداسة، فإنّنا نكون مخلصين وأوفياء، أما حين نحترمه ونقدره ونختلف معه، أو نرفض بعضه وننقد بعضه، ونمارس وعينا على بعضه، فإننا أعداء وخونة للتاريخ والتراث والحضارة والدين.

هذه المجابهة مع التراث ومنجزاته، بهذه الحدية، هي التي أسلمتنا إلى هذا الظرف التاريخي الصعب، من الوعي الجامد والتفكير النمطي البليد، والتراكم المعرفي "غير المفكَّر فيه" والمقبول فقط، بحكم التبعية للماضي، مع أنّ الوقوف عند حدود الأسف والحيرة، لا يشفي مرضاً، ولا يبرئ جرحاً، فإنّ الاكتفاء بممارسة هذا الدور السلبي غير مقبول، في ظلّ تنامي هذه الجريمة بحقّ الوعي.

وإلى الآن، نحن لا نملك متكأً منهجياً لإنتاج استجابة واعية لتحدياتنا، لا نملك، إلى الآن، القدرة للبدء بلحظة تاريخية تشبه تلك اللحظة، على سبيل المثال، التي خرج فيها الفرد الأوروبي من ظلمة جهله وتخبطه إلى حداثته ووعيه، بفعل حركتين تاريخيتين صنفهما العلماء على أنهما الاستجابة الأرقى والأقوى لكلّ قوى الجهل والتخلف والجريمة: أوّلها حركة النهضة الفكرية، وثانيهما حركة الإصلاح الديني، ومنهما خرجت أوروبا حديثة وقوية، وقادرة ومنجزة لمشروعها الحضاري، ونحن أيضاً، بكل يقين، نحتاج إلى أن نرقى بمستويات حركة الوعي، انطلاقاً أولاً من إدراكنا أنّ اللغة الترفية التي تسند أفكارنا في مواجهاتنا لمشكلاتنا، وتسطيح وعينا، يجب أن نتخلى عنها، أو نحيلها إلى لغة عملية إجرائية متحركة على أرض الواقع، وأنّ المؤسساتية الشبابية والمجتمعية التي تحمل لافتات يتوبياوية لا تنسجم مع قدراتنا، أو أنّ صياغات أهدافها كنظريات لفظية مجردة مستوردة من المدينة الفاضلة، أو الخلود الموعود، لا تساهم أبداً في إحداث التحول المطلوب، وسنبقى كأننا نعمل في منطقة الحلم، بعيداً عن منطقة الواقع.

علينا أن نعيد قراءة أوراقنا ومشروعاتنا التي تعنى بالوعي والثقافة والتراث والتاريخ على حدٍّ سواء

علينا إذاً، أن نعيد قراءة أوراقنا ومشروعاتنا التي تعنى بالوعي والثقافة والتراث والتاريخ، على حدٍّ سواء، ونحتاج من أجل ذلك إلى مبادرة وعي لا تُصاب بالملل أو الإحباط أو فقدان الشهية، ونحتاج إلى ألّا تتحول شعارات الوعي إلى جملة من نوع ما يكتب على علبة السجائر (التدخين موت بطيء ومؤلم)، فأزمة الوعي فعلاً موت بطيء ومؤلم.

أقف أخيراً عند ما قاله المفكر اللبناني، كمال جنبلاط: "الوعي والحرية شيء واحد"، تماماً هو ما عبّر عنه قبله أيضاً هيغل بقوله: "تاريخ العالم ليس إلّا تقدم الوعي بالحرية"، الجميع يريد حريته في أفكاره وثقافته وقيمه النبيلة، فهي، الحرية، التي تصنع الوعي الحقيقي غير المقيد، وغير المشحون بتبعات التسليم والانقياد للتاريخ، الذي يعدّه "شيشرون" شاهد الأزمنة، ورسول القِدم"، ومع ذلك، فهذا لا يعفينا من البحث عن "رسول المستقبل" الذي هو الوعي.

الصفحة الرئيسية