ماذا تعرف عن الكونفشيوسية؟

المعتقدات والأديان

ماذا تعرف عن الكونفشيوسية؟


02/04/2018

يقوم الفكر الكونفوشيوسي على الدعوة للفضيلة ولا يدعو للإيمان بإله أو أداء عبادات معينة

تشكل الكونفوشيوسية أحد المكونات الأساسية للنفسية والذهنية العامة للشعب الصيني، وعبر أكثر من 2500 عام ارتبطت بالتركيبة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الصيني، وكان لها آثار مهمة، كتعزيز إيمان الصينيين بالحسّ الجمعيّ، وإيثار المصلحة العامة، وتعزيز الطاعة للحاكم، والإخلاص للدولة.
رجل الإدارة
ولد كونفوشيوس ونشأ في مقاطعة "لو" وسط الصين، في عصر سلالة ملوك الـ"زهو"، وكان مولده في القرن السادس قبل الميلاد عام 551 ق.م. واسمه عند الولادة "كيو".
نشأ كونفوشيوس يتيماً؛ حيث توفي والده وهو في سن الثالثة، ومنذ بداية حياته اهتم بشؤون الإدارة وتدبير المصالح، وعندما بلغ التاسعة عشرة أصبح مديراً لمخازن الحبوب في منطقته، وترقّى في المناصب عبر مسيرته الإدارية إلى أن أصبح مسؤولاً عن الأشغال العامة، وصولاً إلى تقلّد منصب وزير العدل في المقاطعة.

حدود مملكة الـ"زهو" الصينية في العام 1000 ق.م

المصلح الاجتماعي
لم يكن كونفوشيوس رجل مناصب تقليدياً، وإنما كان مصلحاً اجتماعياً؛ حيث امتاز بهمّه الإصلاحي وإيثاره المصلحة العامة على الخاصة، وبحثه عن كيفية إسعاد الناس، وخلال تجربته العملية الطويلة طوّر منظومته الفكرية والأخلاقية الخاصّة، التي ستتطور لاحقاً إلى منظومة التعاليم الكونفوشيوسية.

ارتبطت الكونفشيوسية بالتركيبة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الصيني وكان لها آثار مهمة كتعزيز الإيمان بالحسّ الجمعيّ وطاعة الحاكم

كما سقراط، القريب منه زماناً، كان كونفوشيوس منشغلاً بأسئلة تأسيس الحكومة المثالية، والمجتمع والحكم العادل، وكيفية الوصول إلى "الحاكم الفاضل"، الذي اعتبر أنّه بجب أن يكون قادراً على ضبط نفسه والسيطرة عليها قبل حكمه للآخرين.

اتجه كونفوشيوس للتأكيد على أهمية الفكر في الحُكم معتبراً إياه أهم من الأسلحة، كما اتجه للتأكيد على أهمية الأخلاق والفضائل، ووضع قواعد للتعامل الإنساني، وإليه يعود تطوير القاعدة الأخلاقية "عامل الناس كما تحب أن تُعامَل"، أو كما صاغها: "لا تفعل شيئاً للآخرين لا تقبل أنت نفسك أن يفعلوه بك"، حيث اعتبرها بمثابة "القاعدة الذهبية" في التعامل الإنساني.

رسم لكونفوشيوس كما تخيله الرسام الصيني "كيو ينغ" في القرن السادس عشر

الاستقالة من المنصب وبداية التجوال
ازدهرت مقاطعة "لو" بفضل سياسات كونفوشيوس وحسن إدارته، ونتيجةً لذلك ساد الحسد بين حكام المقاطعات الأخرى، فكان أن وضعوا مخططاً تآمرياً؛ حيث قدموا ثمانين فتاة لحاكم المقاطعة من بين الأجمل في البلاد، فانشغل بهنّ عن واجبه لأيام متتالية وبدأت الأحوال بالترديّ نتيجة للإهمال، ما أشعر كونفوشيوس بخيبة الأمل واليأس من الحكم، وكان ذلك وهو في سن الـ54، فآثر القِيَم على المنصب، وقرّر أن يستقيل ويبدأ بالتجوال والترحال عبر البلاد، واستمرت رحلاته مدة 14 عاماً، وخلالها كان يصاحبه مجموعات من تلاميذه فيعلمهم خلاصة ما انتهى إليه من الحِكم والقواعد.

خريطة رحلات كونفوشيوس عبر المقاطعات الصينية

الدعوة إلى الطاعة والتعليم
يقوم الفكر الكونفشيوسي على الدعوة للفضيلة والأخلاق الحميدة، وليس له أي موقف من الماورائيات والغيبيات، ولا يدعو للإيمان بإله، أو أداء عبادات معينة، وقد تركّزت أهم التعاليم الكونفوشيوسية حول تطوير الذات والتعليم وممارسة الفضيلة.
أما أكثر تعليمات كونفوشيوس تأثيراً في الثقافة الصينية، فكانت دعوته إلى الالتزام بأخلاق الطاعة، والتعليم؛ حيث أكّد على أهمية احترام الكبار والآباء وطاعتهم، وصولاً إلى الخضوع والاحترام التامّ للحكام والأمراء والأباطرة، وهو ما دفعهم للاهتمام بفكر كونفوشيوس والالتزام بتعميمه ونشره، وقد ساهمت هذه الأفكار بتكريس أخلاق الطاعة في الثقافة السياسية الصينية.
أما الإسهام المهم الثاني، فدعوته إلى التعليم؛ حيث آمن كونفوشيوس بأنّ الإنسان ليس صالحاً ولا فاسداً بطبيعته، وإنما هو قابل للتحسن عن طريق التعلّم، واعتبر أنّه بفضل التعلّم يمكنه تفادي الأخطاء وتنمية نقاط قوته، وخلافاً للثقافات التي آمنت بالنبوات والإلهام والكشف، كان كونفوشيوس يرى أنّ التعليم والتحصيل مهم أكثر من الإبداع والإلهام، والتعليم عنده لا ينحصر فقط بالتعلّم من الكتب، وإنما من تجارب الحياة أيضاً.

آمن كونفوشيوس بأنّ الإنسان ليس صالحاً ولا فاسداً بطبيعته وإنما هو قابل للتحسن عن طريق التعلّم

توفي كونفوشيوس عن عمر ناهز 72 عاماً، وكان ذلك في العام 479 ق.م، ودفنه تلامذته في مقبرة خاصة، وبعد وفاته بعشرات السنين جمع التلاميذ تعاليمه ودونوها في ثلاثة كتب، لتعرف بعد ذلك بـ"التعاليم الكونفوشيوسية".
وعبر أكثر من 2000 عام من التاريخ الصيني، ترسخت الكونفوشيوسية وتم التمسك بها، لتتحول إلى دعامة أساسية في المجتمع الصيني، وقد تعايشت بسلام إلى جانب الديانتين؛ الطاوية والبوذية، كان الدافع الأساس للتمسك بها هو – كما تقدم – تبنّي الحكام لها لتأكيدها على أخلاق الطاعة، فكان الأطفال يتعلمون التعاليم الكونفوشيوسية في المدارس، وفُرضت على الإداريين؛ حيث لم يكن بإمكان أيّ أحد التقدم لأي منصب إداري دون دراستها وتعلّمها.

صفحة من التعاليم الكونفشيوسية المجموعة

التحديث والثورة الثقافية.. محاربة الإرث الكونفوشيوسي

جاءت أولى محاولات تقييد الفكر والتعاليم الكونفوشيوسية في العام 1860، وذلك في إطار بدايات عملية التحديث في الصين، وتحديداً في الحركة الإصلاحية التي عرفت بـ"حركة تقوية الذات"، فبعد "حروب الأفيون" مع بريطانيا، وبداية الاحتكاك بالغرب، وما نجم عنه من إدراك الحكام والنخب الصينية مدى تخلف بلادهم عن الحضارة في الغرب، تم إلقاء اللوم على التعاليم الكونفشيوسية، وبدأت تظهر الدعوات لتجاوزها.

رسم من القرن التاسع عشر يعبر عن انتفاض الصينيين ضد محاولات الاستعمار لبلادهم

المحاربة الأشد للكونفوشيوسية جاءت في النصف الثاني من القرن العشرين، فمع نجاح الثورة الماوية العام 1949، ووصول الشيوعية إلى الحكم في الصين، أطلق "ماو تسي تونغ" ما عرف بـ "الثورة الثقافية" العام 1966، التي كان استهداف التراث الكونفوشيوسي أحد أهم أركانها، وقد هدفت "الثورة الثقافية" أساساً إلى الإطاحة بالرأسماليين وكبار ملاك الأراضي، وتبنّي سياسات "الإصلاح الزراعي" وإعادة توزيع الأراضي بين الفلاحين، إلى جانب التخلص من الفكر والتراث البرجوازي، الذي اعتبرت الكونفشيوسية مكوناً أساسياً له، خصوصاً أنّها تشجع على احترام التراث القديم والآباء والأمراء التقليديين، فكان أن شنّ ماو وحزبه حملة شرسة لمحاولة إزالة كل ما بقي من المجتمع التقليدي ومن فكر كونفوشيوس، ولمدة عشرة أعوام فعل الشيوعيون كل ما بوسعهم لمحو فكره من الذاكرة الصينية، فحطّموا المعابد والهياكل التاريخية الكونفشيوسية، ومنعوا تدريس تعاليمه تماماً.

رأى ماو أنّ التراث الكونفوشيوسي يتعارض مع الفكر والنهج الثوري

إحراق المعابد والهياكل الكونفوشيوسية خلال ثورة ماو الثقافية

رد الاعتبار
لم تحصد "الثورة الثقافية" سوى الفوضى، والدمار الاقتصادي، وقد راح ضحيتها ما يتراوح ما بين 1.5 إلى 2 مليون صيني، وفي العام 1976، بعد وفاة ماو، أعلن خليفته "هوا جيو فينج" إنهاء الثورة الثقافية؛ حيث وصفت بالكارثية والفوضوية، وأخذ الصينيون بالعودة إلى الكونفوشيوسية، وخلال الثمانينيات تم إحياء تعاليمها وإعادة تأهيلها ورد الاعتبار لها. 
واليوم تشهد المدارس الكونفوشيوسية في الصين انتشاراً وإقبالاً مطرداً؛ حيث يتزايد اهتمام الأهالي بتعليم أبنائهم احترام التاريخ، والتراث، والقيم الصينية، وفي الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) من كل عام، تجري احتفالات عامة في عموم الصين بذكرى ميلاد كونفوشيوس تعبيراً عن التمسك بالثراث الكونفوشيوسي كمكون أساسي للمجتمع، والثقافة، والهوية الصينية.

 

الصفحة الرئيسية