هل نجح الإخوان في نفي صلتهم بالعنف والاغتيالات؟.. حادثة المنشية أنموذجاً

تحقيقات

هل نجح الإخوان في نفي صلتهم بالعنف والاغتيالات؟.. حادثة المنشية أنموذجاً


15/04/2018

تحقيقات

"الثورة أقوى من كل ما يظنون، إنّها ستسحقهم جميعاً"

"المُثُل التي تعرضها قيادة الثورة في هذه الأيام مُثُل نادرة في تاريخ البشرية كلّها، مُثُل لم تقع إلا في مطالع النبوءات" (سيد قطب/ مجلة روز اليوسف عدد 26 آب 1952)

تبقى محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، من أصعب "الأحداث" التي طبعت التاريخ المصري عموماً، وتاريخ جماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص، لاعتبارات بحثية وأكاديمية وأخرى مرتبطة بالبنية السلوكية للتنظيم الإخواني، الذي "تطرّف" في رفض إلصاق هذه الجريمة بالجماعة؛ بل ووصل الأمر بالعديد من القيادات إلى اعتبارها من "المسرحيات" التي أحكم إخراجها عبدالناصر من أجل توجيه ضربة قاصمة للإخوان، خصوصاً في أجواء التصعيد بين الطرفين التي ميزت مرحلة ما بعد نجاح "ثورة" الضباط الأحرار ليلة 23 تموز (يوليو) 1952.

العلاقة بين الإخوان والضباط الأحرار

عرفت مرحلة ما قبل 23 تموز (يوليو) 1952، جواً من التوافق بين الإخوان المسلمين والتنظيم "العسكري" للضباط الأحرار، الذين كان العديد منهم قد مر على جماعة الإخوان إما بالانتساب أو التعاون أو التعاطف، لتعلن الجماعة مباركتها لنجاح الانقلاب الذي قاده الضباط الأحرار وأطلقوا عليها اسم "الحركة المباركة"، اعتقاداً منهم أنّ مقاليد الحكم ستؤول إليهم بشكل تلقائي لعدة اعتبارات ترتكز أساساً حول اعتبار جمال عبد الناصر عنصراً من الإخوان المسلمين، بادعاء أنّه أقسم على المصحف والمسدس وبالتالي فمسألة تسليم الإخوان زمام السلطة كانت بالنسبة لهم مسألة وقت ليس إلّا.

في هذا السياق، يروي حسين محمد أحمد حمودة في كتابه "أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين" الروايات الكلاسيكية حول مشاركة الإخوان في "الثورة"، حسب زعمهم، بالقول "ذهبتُ للقيادة العامة وقابلتُ جمال عبدالناصر وأخبرته بما دار بيني وبين اللواء أحمد طلعت حكمدار بوليس العاصمة، فقال جمال عبد الناصر: اطمئن جداً من ناحية الإخوان المسلمين فأنا (أي جمال عبد الناصر) متصل بحسن الهضيبي وأخذت موافقته قبل قيام الثورة، وأنا متفاهم مع الإخوان المسلمين على كل شيء"[1]. وقد حاول المؤلف جاهداً طيلة صفحات كتابه أن يؤكد على نقطة واحدة ووحيدة متعلقة بمشاركة الإخوان في الانقلاب على الملك فاروق؛ بل ويذهب إلى أبعد من ذلك في التأكيد على أنّه لولا الإخوان لما نجح الانقلاب الذي قاده جمال عبد الناصر.

تنسيق عبد الناصر مع الإخوان كان تكتيكاً مرحليّاً في إطار تعدد الحلفاء لإنجاح الانقلاب على الملك فاروق

من جهته يصف أحمد عادل كمال الجو العام لما بعد الثورة في كتابه "النقط فوق الحروف"، فيقول: "لقد أنشأت حكومة الثورة محكمة الثورة لمحاكمة رجال العهد البائد على إفساد الحكم في مصر، وكان من أوائل من قدم لهذه المحاكمة ابراهيم عبدالهادي العدو اللدود للإخوان، وقابل ذلك الإخوان بترحاب، وألغت الثورة الدستور القائم وتجاوب الإخوان، وحلّت الثورة الأحزاب ولم يعترض الإخوان"[2].

غير أنّ ما لم يكن يعلمه الإخوان أنّ جمال عبد الناصر كان له تخطيط آخر وتكتيك مخالف لما اعتقده الجميع؛ حيث إنّ تنسيقه مع الإخوان كان تكتيكاً مرحليّاً في إطار إستراتيجية متعددة الحلفاء من أجل إنجاح الانقلاب على الملك فاروق، وذلك ما جعله ينفتح على مجموعة من التيارات السياسية والتنظيمات السرية.

عد نجاح الانقلاب طالب "الإخوان المسلمون" جمال عبدالناصر بضرورة تسليمهم السلطة على اعتبار التنظيم عضواً في الحركة

إنّ استماتة الإخوان في التأكيد على مشاركتهم في "ثورة" 23 تموز (يوليو) 1952، تدحضها الوقائع والأحداث وتفندها المعطيات، وذلك للاعتبارات التالية:

أولاً: التحالف القوي والإستراتيجي للجماعة مع الملك فاروق جسده الاجتماع الشهير العام 1951 بين هذا الأخير وبين المرشد الثاني للجماعة المستشار حسن الهضيبي، وحينها وصف هذا الأخير زيارته للملك فاروق بأنّها "زيارة كريمة لملك كريم".

ثانياً: عدم ثقة الإخوان بنجاح المشروع العسكري لجمال عبدالناصر؛ مما جعل المرشد العام للجماعة يبتعد بنفسه عن مجريات الأمور و"يعتكف" بالإسكندرية طيلة الثلاثة أيام التي أعقبت الانقلاب، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد تأكده من أنّ الأمور حُسمت لصالح الضباط الأحرار.

ثالثاً: تبنيهم، كالعادة، للمنطق الإستراتيجي لـ"المنطقة الرمادية"، حين عبروا عن ولائهم المطلق للمؤسسة الملكية، مع إرسال إشارات قوية للضباط الأحرار بمباركة أي انقلاب مرتقب ووعدوهم بالتحالف معهم في حالة نجاح الانقلاب.

على هذا المستوى من التحليل، يمكن القول إنّ مظاهر التعامل البراغماتي لجماعة "الإخوان المسلمين" مع حركة الضباط الأحرار، عبّرت عن خبث سياسي متأصل، إلا أنّه لم يصل إلى مستوى الفهم السيكولوجي للعقلية العسكرية؛ حيث حاولت الجماعة الاستيلاء على السلطة عبر اعتماد مجموعة من التكتيكات المرحلية يمكن بسطها كما يلي:

لجأ قطب للتنظير والتجييش لحل جميع الأحزاب السياسية عبر مقالاته الحماسية التي نشرها في مرحلة ما بعد الثورة

التكتيك الأول: مباشرة بعد نجاح الانقلاب طالب "الإخوان المسلمون" جمال عبدالناصر بضرورة تسليمهم السلطة على اعتبار التنظيم عضواً في الحركة، وتلزمه الطاعة للمرشد العام للجماعة، ويكفيه فخراً ما قام به للوطن وللدعوة وللإسلام.

التكتيك الثاني: بعدما يئس الإخوان من إمكانية تنازل عبدالناصر عن السلطة لمصلحتهم، لجؤوا إلى تكتيك أكثر خبثاً ودهاء، فدفعوا، من جهة بضرورة حل جميع التنظيمات الحزبية على اعتبار أنّها تنتمي إلى العهد البائد والنظام السياسي الفاسد الذي كان الملك فاروق رمزاً له، ومن جهة أخرى حاولوا اختراق مجلس قيادة الثورة وإحداث شرخ على مستوى القيادة من خلال دعم الرئيس محمد نجيب وتأييده ومهاجمة جمال عبد الناصر وانتقاد سياسته.

وهنا يتدخل مرة أخرى سيد قطب ليقوم بالتنظير والتجييش لحل جميع الأحزاب السياسية عبر مقالاته الحماسية التي نشرها في مرحلة ما بعد الثورة. وهنا يشار إلى المقال الذي نشره قطب في مجلة روز اليوسف –عدد 29 أيلول (سبتمبر) 1952- الذي يقول فيه "لم يخب ظني في هذه الأحزاب القديمة التي قامت في ظل ثورة سنة 1919. كنت أُدرك أنّها أحزاب انتهت، تجمدت، فقدت القدرة على الحركة والتماشي مع التطورات الجديدة، فلم تعد صالحة للبقاء ولا قابلة للبقاء".

ولعلّ مجلس قيادة الثورة كان يُمَنِّي النفس بحل الأحزاب السياسية، فوجد في كتابات سيد قطب، المستند الفكري والمسوغ الشرعي، وبالفعل أصدر محمد نجيب القائد العام ورئيس الوزراء قراره بحل الأحزاب السياسية بتاريخ  16 كانون الثاني (يناير) 1953.

قام الإخوان المسلمون، في الجزء الثاني من الخطة،  بدعم الرئيس محمد نجيب والرفع من شعبيته ومحاولة السيطرة عليه في مواجهة جمال عبدالناصر، وهذه الخطوة التصعيدية من طرف الإخوان كانت بمثابة النهاية العملية لعلاقة جمال عبدالناصر بالإخوان.

قام الإخوان بدعم الرئيس محمد نجيب والرفع من شعبيته ومحاولة السيطرة عليه في مواجهة عبدالناصر

في هذا الصدد، وبعد قيام محمد نجيب بتقديم استقالته من رئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة في 25 شباط (فبراير) 1954، خرجت مظاهرات حاشدة من تنظيم وتأطير الإخوان المسلمين تنادي بضرورة عودته إلى السلطة، واستمرت المظاهرات حتى يوم 28 من الشهر نفسه، حين رضخ جمال عبدالناصر لمطالب الجماهير ووافق على عودة نجيب لمباشرة مهامه كرئيس للجمهورية، فقام حينها القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، عبدالقادر عودة، بالصعود برفقة محمد نجيب، إلى شرفة قصر عابدين وقام بتهدئة الجماهير من خلال خطبة نارية معلناً من خلالها عودة الرئيس إلى الحكم.

إنّ العودة إلى محاضر جلسات مجلس الشعب التي خصصت لمحاكمة المتورطين في محاولة اغتيال جمال عبدالناصر فيما عرف إعلامياً بـ "حادثة المنشية"، تعطي صورة واضحة حول المخطط الانقلابي الذي حاولت أن تتبنّاه جماعة الإخوان من خلال تطابق جميع الشهادات الإخوانية من قيادات الصف الأول حول ضرورة تصفية جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة، بتزامن مع تحرك الإخوان على الأرض لدعم الانقلاب وإصدار محمد نجيب بياناً رئاسياً يهدئ من خلاله من الاحتقان الشعبي في أفق تحييد هذا الأخير وتنصيب حكومة إخوانية خالصة.

في ظلّ هذا الصراع المعلن بين جماعة الإخوان المسلمين وجمال عبدالناصر، كان النظام الخاص للجماعة، الذي يرأسه آنذاك يوسف طلعت، يدبّر طريقة للتخلص من جمال عبدالناصر. وهنا قام الجهاز السري بتكليف القيادي الإخواني البارز، هنداوي دوير، من أجل نسج خطة محكمة لاغتيال عبد الناصر؛ وبالفعل قام دوير بتجنيد شخص يدعى محمود عبد اللطيف، أحد أبطال الرماية، من أجل اغتيال جمال عبدالناصر خلال إلقائه لإحدى خطبه بميدان منشية البكري بالإسكندرية في 26 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1954.

وقائع الحادثة

بينما كان جمال عبدالناصر بتاريخ 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1954يخطب في حشد كبير من المصريين بميدان المنشية بمناسبة الاحتفال بتوقيع اتفاقية الجلاء التي وقعتها مصر مع بريطانيا، أطلق عليه محمود عبداللطيف 8 رصاصات، غير أنّها أخطأت هدفها لتستقر إحداها في رأس ميرغني حمزة، زعيم الطائفة الختمية بالسودان وأحد ضيوف الحفل ليلقى مصرعه في الحال، كما أصابت رصاصة أخرى كتف أحمد بدر، سكرتير هيئة التحرير في الإسكندرية فأدّت إلى وفاته، فيما باقي الرصاصات استقرت في سقف المبنى الذي كان يخطب فيه عبدالناصر.

حاول عبداللطيف الفرار من مكان الجريمة، غير أنّ المواطنين والبوليس الحربي تمكّنا من إلقاء القبض عليه، بالإضافة إلى خليفة عطوة المتهم السادس في جريمة الاغتيال وأنور عبد الحافظ اللذين كانا في مسرح الحادث.

ولأنّ أوقات الأزمة، غالباً، ما تكون مناسبة لإصدار قرارات إستراتيجية، فقد كان حادث المنشية فرصة لجمال عبد الناصر لقصم ظهر الإخوان من خلال عمليات اعتقال واسعة شملت منفذي العملية والمخططين لها، بالإضافة إلى المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي. ومن بين من شملهم الاعتقال كل من: محمود عبد اللطيف (منفذ العملية)، هنداوي دوير (المخطط الرئيسي)، محمد فرغلي، يوسف طلعت (رئيس التنظيم الخاص)، المستشار عبدالقادر عودة، صالح أبو رقيق، إبراهيم الطيب، عبدالمنعم عبدالرؤوف، منير الدلة، كمال خليفة، سيد قطب، عمر التلمساني، صالح عشماوي، وغيرهم في ضربة أمنية لن ينهض منها الإخوان إلا مع وفاة جمال عبدالناصر العام 1970 وتولي محمد أنور السادات رئاسة الجمهورية.

اعترف محمود عبداللطيف بالاتهامات الموجهة  إليه وبأسماء المتورطين في محاولة الاغتيال، كما اعترف باقي الإخوان باشتراكهم في المحاولة إما فعلياً أو عن طريق إعطاء تعليمات ومعلومات، أو عن طريق تسهيل محاولة الاغتيال، فيما اتّهم آخرون بعدم التبليغ بالمحاولة مع علمهم بتفاصيلها وتاريخ تنفيذها. وبهذا أصدرت محكمة الثورة أحكامها بإعدام ستة أعضاء من التنظيم وهم: محمود عبداللطيف، محمد فرغلي، يوسف طلعت، ابراهيم الطيب، هنداوي دوير، عبدالقادر عودة، بالإضافة إلى المرشد العام حسن الهضيبي الذي خُفّف عنه الحكم إلى المؤبد.

شهادات إخوانية

رغم أنّ "الإخوان المسلمين"، وكعادتهم، ينكرون أيّ تورط لهم في محاولة الاغتيال ويعتبرونها "مسرحية" بطلها جمال عبدالناصر، غير أنّ شهادات موثقة لقيادات إخوانية تؤكد تورط الجهاز الخاص في التدبير لعملية الاغتيال بحادثة المنشية، وستميط اللثام عن حقيقة هذه الجماعة وتكشف بالملموس عن طبيعة هذا التنظيم الدموي العنيف.

شهادة يوسف القرضاوي

يعترف القيادي الإخواني، وعضو التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يوسف القرضاوي، في مذكرات "ابن القرية والكتاب" بمسؤولية "خلية من الإخوان" يتزعمها هنداوي دوير في محاولة الاغتيال، وقد أعاد التأكيد عليها في أحد البرامج التلفزيونية بالقول: "الذي أراه أنّ هذا الأمر مسؤول عنه هنداوي دوير ومجموعته من أربعة أو خمسة أشخاص وهم الذين دبروا هذا الأمر".

 

 

ويواصل القرضاوي شهادته التي تعتبر صك اتهام للتورط المباشر للإخوان في حادثة المنشية؛ بل وتَورُّطِه هو شخصياً في الجريمة عبر علمه بها وعدم التبليغ عنها، أو على الأقل محاولة إيقافها، فيقول "ولم يفكر المحامي الذكي المعجب بنفسه (يقصد هنداوي دوير)، ما العمل إذا أخفق هذا الحل، وفشلت هذه الخطة؟ لم يسمح لنفسه أن يفكر في الوجه المقابل، بل افترض النجاح أبداً"[3]. من هذا المنطلق، يتبين أنّ موقف القرضاوي من محاولة اغتيال عبدالناصر لم يكن مرتبطاً بمدى شرعية عملية الاغتيال أم لا، بقدر ما هو مرتبط بصعوبة نجاح العملية والآثار الخطير التي ستترتب عنها في حالة فشلها.

شهادة أحمد رائف

يُطلق عليه لقب "مؤرخ الإخوان" وقد ألف مجموعة من الكتب أهمهما على الإطلاق كتاب "البوابة السوداء" و"سراديب الشيطان" اللذان حاول رائف من خلالهما التأكيد على أنّ حادث المنشية هي من وحي تدبير عبدالناصر نفسه. غير أنّ المؤرخ الإخواني سيعود بعد سنوات طويلة ليدلي بالحقيقة التاريخية حول الحادث فيما يشبه صحوة ضمير، ويعترف بضلوع الإخوان في حادثة الاغتيال.

في هذا الصدد يقول أحمد رائف للصحفي صلاح الدين حسن في حوار نُشر في جريدة "الدستور" المستقلة: "إنّ أول من نبهني إلى أنّ حادث المنشية ليس مفبركاً هو حسن الهضيبي عندما التقيت به في السجن العام 1965، وحين تتبعت خيوط كل من له علاقة بهذه القصة، وصلت إلى أنّ الإخوان دبروا محاولة القتل، أمّا فكرة أنّها تمثيلية فهذا مما يستهوي الإخوان حتى تظهرهم بمظهر المجني عليهم والمغلوبين على أمرهم".

وهناك شهادة قيادي آخر من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، بل وممن جاوروا حسن البنا لمدة طويلة وعاصروا جميع حوادث الاغتيال وجميع المحن التي مر منها الإخوان وهو فريد عبد الخالق (توفي يوم 12 نيسان (أبريل) 2013 عن سن يناهز 98 عاماً)، الذي أكّد في شهادته للموقع الإعلامي "العربي" أنّه علم بالتحضير لمحاولة الاغتيال العام 1953 عن طريق تحرك فردي لبعض رجال الإخوان وأنّ هذه التحركات تهدف لاغتيال جمال عبدالناصر.

موقف المرشد من محاولة الاغتيال

هذه النقطة الحساسة ستظلّ من مناطق الظل التي يستميت الإخوان في التعتيم عليها، ورفض أي ربط لمحاولة الاغتيال برغبة صريحة أو ضمنية من المرشد العام للجماعة آنذاك حسن الهضيبي؛ فهل يا ترى يُطمأن للطرح الإخواني ويستكان لهذا الدفاع عن مرشدهم، أم لا بد من محاولة البحث بين تراب المخازن لاكتشاف بعض السراديب السرية المؤدية إلى المخططين الشرعيين، وكذا المباركين لمحاولة الاغتيال؟. هذا التساؤل يجد ما يبرره عند استحضار النقاط التالية:

- العلاقة العدائية بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة، وكذا العداء الشخصي الذي كان يكنّه حسن الهضيبي لجمال عبدالناصر وصلت إلى حد طرد هذا الأخير من منزله بعد الجملة الشهيرة "الزيارة انتهت".

- حجم الولاء الذ كان لدى قيادات التنظيم الخاص تجاه المرشد العام؛ حيث لم يكونوا يتنفسون إلا بأوامر مباشرة من الهضيبي، وبالتالي لا يمكن أن يتم التحضير لهذه المحاولة ويعلم بها كبار الإخوان باستثناء مرشد الجماعة. هذا المعطى تؤكده أقوال وشهادات رئيس التنظيم يوسف طلعت ونائبه إبراهيم الطيب أمام هيئة محكمة الشعب التي أقرّوا من خلالها بأنّ محاولة الاغتيال كانت بعلم ومباركة من المرشد العام للجماعة.

- شهادات إخوانية تقطع بعلم المرشد العام بالتخطيط للجريمة وحتى بيوم تنفيذها، على هذا المستوى، يخبرنا القرضاوي في مذكراته برفض المرشد العام حسن الهضيبي لأيّ عمل عنيف تجاه النظام، مما يؤكد أنّ المرشد كان على علم بمخطط عنيف ضد عبدالناصر، وسيعرف بعدها أن جميع الترتيبات كانت بمباركته شخصياً.

 

 

يقول القرضاوي: "أجاب الهضيبي إنّ مكتب الإرشاد يرغب في أن يبقى مختفياً، كما أخبره (يقصد أخبر يوسف طلعت رئيس التنظيم الخاص للجماعة) أنّه أحس بالقلق في الأيام القليلة الماضية من خشية احتمال وقوع عنف واغتيال، وأضاف: إذا أردتم القيام بمظاهرة تؤيدها جميع طبقات الشعب، فذلك هو الصواب، ومع ذلك فيجب أن تقتصر المظاهرة على المطالبة بحرية الصحافة، وبمجلس نيابي، وبعرض اتفاقية الجلاء على الشعب، كما يجب أن تكون مظاهرة شعبية، وأكد: أنّه يرفض قبول أي "عمل إجرامي"، مشدّداً على أنّه يعتبر نفسه بريئاً من دم أي شخص كان"[4]. هذه الشهادة، ورغم أنّ صاحبها حاول أن ينكر أي علم للمرشد بمحاولة الاغتيال، إلا أنّها دليل ضد صاحب الشهادة وتؤكد أنّ الهضيبي كان على علم بمخطط إجرامي ضد عبدالناصر.

شهادة عبدالمنعم عبدالرؤوف المرجع العسكري للتنظيم الخاص

شهادة أخرى يمكن اعتبارها، صك اتهام يورط الهضيبي في التدبير لمحاولة الاغتيال؛ الشهادة يرويها الفريق طيار والقيادي الإخواني عبدالمنعم عبدالرؤوف في كتابه "أرغمت فاروق على التنازل على العرش"، ويؤكد من خلالها، دون أن يشعر، "رغبة" المرشد القيام بعمل انتقامي ضد عبد الناصر.

يقول عبدالمنعم عبدالرؤوف: "سألت فضيلته: هل يحق للحكومة من الناحية القانونية قطع معاشي عن أولاد؟ فأجاب: لا أعرف. (لاحظوا مستشار سابق في محكمة النقض لا يعلم مدى قانونية هذا الإجراء). قلت: وما خطتكم التي وضعتموها إذا لم تعد الحياة النيابية وحُشرتم زمراً في السجون؟ قال: عندك يوسف طلعت وإبراهيم الطيب اسألهما. (لاحظوا أنّهما المسؤولان الرئيسيان عن التنظيم الخاص لجماعة الإخوان). قلت، إنني أريد سماعها من الشخص المسؤول عن الدعوة، وهل أعددتم الإخوان لمجابهة الموقف من كافة النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية؟ فهبّ (يقصد المرشد) واقفاً دون إجابة، واندفع نحو باب الغرفة يفتحه"[5].

يُستدل، من خلال هذه الشهادة، على أنّ الهضيبي، عندما سأله عبدالمنعم عبدالرؤوف عن الإجراءات التي تعتزم الجماعة اتخاذها ضد النظام في حالة اندلاع المواجهة بين الطرفين، أحاله على الجهاز السري للجماعة الذي يبقى من مهامه تدبير العمليات العسكرية والاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي لا تريد الجماعة التورط فيها علناً لكنها تبقى المنظرة والمباركة لها سراً.

شهادة خليفة عطوة: المتهم رقم 3 في القضية

شهادة أخرى لا تقل خطورة، لكنها أكثر وضوحاً وتتهم الهضيبي مباشرة بالضلوع في التخطيط لمحاولة اغتيال عبد الناصر، يرويها خليفة عطوة، أحد المشاركين في محاولة الاغتيال والمتهم رقم (3) حسب محاضر محكمة الشعب؛ حيث يقول في لقاء صحفي على قناة المحور بالنص: "كلهم (يقصد أعضاء مكتب الإرشاد) كانوا على علم بالتدبير لمحاولة الاغتيال...وأنا أسأل: لماذا ظل الهضيبي مختفياً في فيلا بـ "بلوكلي" ثلاثة أيام تحت اسم  "الدكتور حسن صبري"...كان ينتظر ساعة اغتيال جمال عبد الناصر".

 

 

نفس الشاهد يروي في الكتاب الذي سطّره محمد أمين، وهو عبارة عن حوار مع خليفة عطوة، بالقول "بدأ الهضيبي تنفيذ مخطط للإطاحة بعبد الناصر، فبدأ يجري اتصالات مع السفارة الإنجليزية للتحريض ضد عبدالناصر ويطالبهم بتأجيل توقيع الاتفاقية –الجلاء- لحين الإطاحة بناصر مع وعد باستمرار وجود الإنجليز في مصر في حال صعود الإخوان لمنصة الحكم وعودة الملك... كما قام الهضيبي بعقد عدة جلسات مع اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت لتحذيره من نجومية ناصر وطموحه السياسي، وأنّه يخطط للقضاء عليه، والاستيلاء على كرسي رئاسة مصر، وهو ما استجاب له نجيب وأعطاهم الضوء الأخضر للتخلص من ناصر"[6].

ويضيف عطوة في نفس الكتاب "وهنا صدر قرار مكتب الإرشاد بضرورة اغتيال عبدالناصر وتم تكليف مجموعة من الجناح السري العسكري بالذهاب إلى الإسكندرية في مساء يوم الأربعاء الساعة الثامنة إلا خمس دقائق، أثناء خطاب احتفالية توقيع اتفاقية الجلاء في 26 أكتوبر سنة 1954، وتخفى الهضيبي في الاسكندرية في فيلا بـ "بلوكلي" تحت اسم د. حسن صبري لحين تنفيذ العملية"[7].

من خلال ما تقدم سرده، يتبين أنّ الإخوان تورطوا في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر؛ بل وأمكن تتبع كيف أنّ أعضاء مكتب الإرشاد والمرشد العام للجماعة كانوا على علم بالتحضير والتنفيذ لهذه الجريمة، غير أنّ التنظيم ظلّ، كعادته، يتبنّى منطق "المنطقة الرمادية" تفادياً لأية مواجهة مباشرة مع نظام عبدالناصر يمكن أن تقصم ظهر الجماعة وتقضي على وجودها السياسي والجماهيري آنذاك، وذاك ما كان.

*خبير في شؤون جماعة الإخوان المسلمين

____

الهوامش:

[1]- حسين محمد أحمد حمودة. أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين. ص 84

[2]- أحمد عادل كمال. النقط فوق الحروف. ص 238

[3]- مذكرات يوسف القرضاوي: ابن القرية والكتاب. ج 2 ص 54

[4]- يوسف القرضاوي: ابن القرية والكتاب. ج 2 ص 53

[5]- عبدالمنعم عبد الرؤوف: "أرغمت فاروق على التنازل على العرش". ص 126

[6]- محمد أمين: الإخوان المجرمون". كتاب يرصد شهادة المدعو خليفة عطوة، المتهم رقم 3 في حادث المنشية. ص 18

[7]- المرجع السابق. ص 19

الصفحة الرئيسية