الفتاوى بين التوظيف السياسي وفخ التناقضات

الإسلام السياسي

الفتاوى بين التوظيف السياسي وفخ التناقضات


05/06/2018

لطالما رافق الجدل بعض الفتاوى خاصة إذا ما شابتها الشكوك بوجود دوافع سياسية واضحة تقف وراءها، وقد تثير أحياناً السخرية أو الدهشة، فتوضع على رفوف الفتاوى الشاذة أو الخارجة عن سياق الواقع إلى فضاء الخيال.

صاحبت الفتاوى عصور التاريخ الإسلامي جميعها، ولم تكد تخلو فتوى في مرحلة ما من فتوى أخرى مناقضة لها، فقتل عثمان بن عفان، الخليفة الراشد الثالث، وعلي بن أبي طالب، على أساس فتوى، وتولى يزيد بن معاوية الحكم خلفاً لوالده بفتوى، وقتل الحسين بن علي على الأرجح بفتوى، واندلعت حركات التمرد والخروج على الحكام بفتوى.

صاحبت الفتاوى عصور التاريخ الإسلامي جميعها ولم تخل فتوى في مرحلة ما من أخرى مناقضة لها

ولم يقم تنظيم "داعش" بأي من أفعاله الوحشية والبشعة إلا بفتوى سبقت ذلك، فقبل أن يحرق أو يغرق أو يقطع أو يدفن حياً، أو يلقي البشر من فوق الجبال أو أن يرمي رؤوسهم بحجر، استند إلى فتاوى صادرة من لجانه الشرعية الفرعية أو المركزية.

بعض الفتاوى تثير الجدل ولكنها غير ذات فعل عنيف ودموي، ولا يترتب عليها أمر ذي بال، كتلك الفتوى التي عكف صاحبها عليها حيناً من الدهر وخرج بإباحة أكل لحوم الجن! إلا أنّ غيرها يمضي ليدخل في السياسة، ويدور معها؛ حيث ما تريد، بغية تحقيق مصالحها وأغراضها، فتتحول الفتوى التي هي في الأصل اجتهاد المفتي، للإجابة عن سؤال سائل عن الحكم الشرعي، إلى تجسيد لمراد الله، في عقل ووجدان كثير من المؤمنين، فتحول بذلك إلى فعل إيجابي أو سلبي، دموي أو سلمي، قد تسفك الدماء أو تعصمها، وبسببها تشتعل أوار الحروب، أو تضع أوزارها، وتستتب ممالك، وتهوي عروش، وتندثر عصور، وتقوم أخرى.

خلال حكم السادات عام 1979 أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى تجيز معاهدة كامب ديفيد

كامب ديفيد: الفتوى التنظيمية في مواجهة فتاوى الدولة

بعد أن قرّر الذهاب إلى عقر دار إسرائيل، وأن يقف في الكنيست خطيباً يتحدث عن السلام، ربما لم يلحظ كثيرون أنّ الرئيس المصري الراحل أنور السادات تحدّث عن شرعية دينية لما قام به، مع أنّه كرجل دولة كان يؤمن بأنّ أصل الصراع العربي الصهيوني سياسي لا ديني، إلا أنّ دار الإفتاء المصرية، أصدرت فتوى العام 1979، تجيز فيها معاهدة كامب ديفيد، وعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، ولم تتعرض دار الإفتاء لمثل تلك الفتوى إبان عصر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي كانت سياسته هي المواجهة الحربية المستمرة ضد الكيان الصهيوني؛ بل سادت فتاوى دينية تؤكد أنّ الجهاد فرض عين على كل مسلم، طالما أن العدو اغتصب أرضاً تعد جزءاً من ديار المسلمين، فكيف بالمسجد الأقصى مسرى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين.

سيقت واقعة صلح الحديبية في مواجهة المعارضين لكامب ديفيد إلا أنّها لم تقنع منظري التنظيمات الإسلامية

تحدثت الفتوى عن الإسلام الذي هو دين الأمن والسلام، وجنوح العدو للسلم أثناء الحرب واجب القبول، وبدء المسلمين بالصلح جائز ما دام ذلك لجلب مصلحة لهم أو لدفع مفسدة عنهم، وقبول المسلمين لبعض الضيم جائز ما دام في ذلك دفع لضرر أعظم، وأنّ نصوص اتفاقية السلام وملحقاتها لم تضيّع حقاً ولم تقرّ احتلالاً، "وما كان لقلة من العلماء أن تنساق أو تساق إلى الحكم بغير ما أنزل الله، وتنزل إلى السباب دون الرجوع إلى أحكام شريعة الله"، وفق نص الفتوى.

وفي حديث السلام كان لا بد أن تعرج الفتوى على واقعة صلح الحديبية، وهي المعاهدة التي عقدها الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع مشركي قريش، وسط اعتراض عدد من الصحابة، إلا أن الواقع أثبت لهم أن تلك المعاهدة ما كانت سوى إرهاصة لفتح مكة، "فانظروا أيها العرب والمسلمون كيف كان هذا الصلح فتحاً ونصراً لدين الله ولرسوله، وكيف مهّد الأرض لانتشار الإسلام..."، وفق نص الفتوى.

سيقت هذه الواقعة في مواجهة المعارضين للصلح، إلا أنّها لم تقنع منظري التنظيمات الإسلامية التي برزت على السطح في هذه الآونة، إذ وصفوا الشيخ جاد الحق، مفتي الديار المصرية وقتها، بأنّه شيخ السلطان، ورأوا من قياس واقعة صلح الحديبية مع كفار قريش، بحالة احتلال فلسطين واغتصاب المسجد الأقصى قياسا ظالماً وفاسداً؛ إذ إنّ كفار قريش لم يستلبوا أرضاً كانت تحت سيطرة المسلمين، وتساءلوا لم فرض الله الجهاد على جميع المسلمين عند احتلال أرضهم من قبل عدو خارجي، وحث على بذل الأرواح والأموال في سبيل تخليصها منهم.

وذهبت الجماعة الإسلامية لإصدار فتوى تقضي بحرمة الصلح مع إسرائيل، مستندة لكمّ من الأدلة يحاول دحض ما جاء به مفتي الديار المصرية، فأفضى ذلك إلى قتل الرئيس السادات وسط قادته العسكريين والسياسيين في ذكرى نصر أكتوبر العام 1981.

لم يقم تنظيم داعش بأي من أفعاله الوحشية والبشعة إلا بفتوى سبقت ذلك وبرّرته

لم يكن السادات في حاجة لإيمانه بفتوى دار الإفتاء حتى يقوم بمبادرته للصلح مع إسرائيل، لكنّه بحث عن غطاء ديني يدعمه في قراره وفي مواجهة معارضيه، ولم يكن الصراع مع إسرائيل سوى صراع سياسي تحركه الأطماع الصهيونية ومصالح القوى الاستعمارية المهيمنة.

ولم تكن الجماعات الإسلامية في حاجة لأن يقوم "السادات" بالصلح مع إسرائيل حتى تغتاله، فالإطاحة بنظامه وقيام نظام إسلامي وفق مفهومهم، كان الدافع الرئيس لاغتياله، بدليل أن تلك الجماعات حاولت اغتياله والإطاحة بنظامه مبكراً بداية العام 197، قبل أن يعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، فيما عرف وقتها بتنظيم الفنية العسكرية.

ولم تؤثر تلك الفتاوى على مؤيدي اتفاقية السلام أو معارضيها، الذين كانوا قد حسموا أمرهم وفق مرجعية سياسية أو منطقية أو عروبية أو أيديولوجية.. ألخ.

بعد غزو صدام للكويت عام 1991 أفتت جماعات بحرمة دخول القوات الأجنبية الخليج وأخرى حللته

حرب الخليج وعاصفة الفتاوى

بعدما غزا صدام حسين الكويت العام 1991، أفتت جماعات وتيارات إسلامية بحرمة دخول القوات الأجنبية الخليج، بينما ذهبت تيارات سلفية أخرى للقول بمشروعية دخول تلك القوات ووقفت في المقابل موقفاً معادياً لمن يحرّم دخولها أو ينكر على الدولة ذلك، على أساس مرجعية سلفية تتمترس بأدلة من القرآن والسنة، ومن الملاحظ أنّه في البدء يأتي الفعل السياسي، ثم تلحقه الفتوى كمظلة لذلك الفعل أو رافضة له، ففي المثال السابق أتى قرار جامعة الدول العربية بالسماح بدخول القوات الأجنبية للخليج، ثم اشتعلت بعده حرب الفتاوى.

وقبل ذلك بعقد من الزمان دخل صدام حسين حرباً طاحنة مع إيران "حرب الخليج الأولى" والتي بدأت بعدها حركة الفتاوى السنية والشيعية، لتحول الصراع السياسي لديني طائفي، ويتحول صدام حسين إلى مدافع عن الإسلام في مواجهة المطامع الفارسية، حتى إذا دخل الكويت تحول إلى معتد أثيم وإلى حاكم باغ وكافر.

بعض الفتاوى تثير الجدل ولكنها غير ذات فعل عنيف ودموي ولا يترتب عليها أمر ذي بال

وفي الحروب يعلو صوت الفتوى وينحاز شيوخ التدين التنظيمي والسياسي إلى جماعاتهم، فيفتي شيوخ الإخوان بوجوب القتال بجوار علي عبدالله صالح في مواجهة انفصال علي سالم البيض بجنوب اليمن، وعندما تتاح الفرصة للإطاحة به بعد ثورات "الربيع العربي"، تتحول الفتوى لتأخذ مساراً مناقضاً تماماً.

ويصمت الشيخ يوسف القرضاوي عن الأوضاع في ليبيا حتى إذا هبت ثورة مسلحة في مواجهته خرج ليفتي بإباحة دم القذافي ليلقي حتفه بعدها بأشهر معدودة، ويعلو صوت الشيخ لتأييد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فيفتي بمناصرته أثناء حربه ضد الكرد فأردوغان: "معه جبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير" وفق تعبيره.

ولم يتوقف تأييد القرضاوي الديني لأردوغان المبني على أساس سياسي بحت عند هذا الحد، بل اعتبره -إبان التصويت على التعديلات الدستورية التي وسّعت صلاحيات الرئيس-  أمير المؤمنين، "وهو الرجل الذي غيّر تركيا، ومن حقه أن يقود المسيرة، ومن واجب الشعب التركي- وأنا أدعوه- أن يكون مع رجب طيب أردوغان، فهو الرجل القائد الذي يعرف ربه، ومن واجب الأمة ومن واجب الشعب أن يكون مع هذا الرجل، وأن يعطوه صوتهم".

طوّع الشيخ فتواه في خدمة أردوغان ومعاركه السياسية والدولية، وهو الذي احتوى فلول جماعة الإخوان، فذهب لإدانة ما أسماه الممارسات الهولندية غير المقبولة تجاه تركيا داعياً العالم الإسلامي للوقوف مع تركيا والتضامن معها في أزمتها مع هولندا.

أما في مصر فطالب القرضاوي في العام 2014م، المصريين في الداخل والخارج بمقاطعة الاستفتاء على تعديلات الدستور، وأفتى بحرمة المشاركة فيها معتبراً أنّها نوع من التعاون على الإثم والعدوان.

في مصر اعتبر السلفيون نظامَ الحكم شركياً وحين وصل مرسي للسلطة اعتبروه شرعياً

فتاوى ذهاباً وإياباً

حرّم السلفيون الحركيون في مصر كل مظاهر العمل الديمقراطي، واعتبروا أنّ نظام الحكم قائم على أسس شركية، حتى إذا وصل الرئيس الإخواني محمد مرسي للسلطة، اعتبروه "نظاماً شرعياً"، وأنّ الإطاحة به "انقلاب محرم شرعاً"، يستوجب الخروج وعدم الاعتراف بمن قام به، وأطاحوا بقاعدة "الإمام المتغلب"، التي طالما رددوها حينما كانوا يرون أنّ وقت الخروج والتمرد على النظم القائمة لم يأتِ أوانه بعد.. فباتت الفتوى والحكم الشرعي مطاطاً يتغير حسب تغير الحال، ووفق تموضع الجماعة الجديد.

عندما قامت تظاهرات في مصر وتونس أصدر الشيخ صالح اللحيدان فتوى تجدّد تحريم المظاهرات باعتبارها تثير الفوضى لا هدف لها إلا ضرب الأمة والقضاء على دينها وقيمها، إلا أنه عاد لتأييد المظاهرات في سوريا واليمن، وإن تسبب ذلك في سقوط ضحايا، فقد أيّد الشيخ التظاهرات باعتبار أن تلك النظم "فاسدة وتتبنى عقائد منحرفة وضالة".

صمت القرضاوي عن الأوضاع في ليبيا حتى إذا هبت ثورة مسلحة في مواجهة القذافي أفتى بإباحة دمه

ولطالما رفض السلفيون المصريون الدخول في الانتخابات باعتبارها تؤدي إلى التنازل عن عقيدة الولاء والبراء، وأفتوا بكفر المجالس النيابية، إلا أنهم بعد ثورة يناير 2011 في مصر تغيرت فتاواهم فشكّلوا "مجلس شورى العلماء" الذي ذهب للدعوة للنزول لتأييد التعديلات الدستورية والمشاركة في الانتخابات التشريعية. ومضت الدعوة السلفية لتأسيس حزب سياسي "النور".

وبعد سقوط نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ظهرت فتاوى تحريم التصويت في الانتخابات لمصلحة "فلول" حزب الوطني، وتزعم الشيخ عمر بسطويسي والشيخ عماد عفت الدفاع عن هذه الفتوى.

ودخل الشيخ محمد علاء الدين أبو العزائم، شيخ الطريقة العزمية، على خط الفتاوى حتى حرم التصويت لخصومه السلفيين في أي انتخابات مقبلة.

وظهرت الفتاوى "الإخوانية" التي تبيح قتل المتظاهرين المعارضين لحكم الرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي، باعتبار أنهم خوارج وبغاة، إلا أن هذا الموقف تغير تماماً بعد الإطاحة بمرسي فباتت المظاهرات باباً من أبواب الجهاد في سبيل الله، "والأحاديث والآيات والقواعد الشرعية كثيرة جداً في هذا الباب، وفق فتوى للشيخ السلفي هاشم إسلام.

السلفيون المصريون الذين طالما رفضوا دخول الانتخابات ما لبثوا أن أسسوا حزباً سياسياً وحازوا مقاعد في البرلمان

وفي خضم الصراع والاستقطاب السياسي، أفتى الشيخ السلفي محمد عبدالمقصود بجواز تطليق الزوجة إذا كان الزوج مؤيداً للنظام الحالي، وفي المقابل يفتي مظهر شاهين بفتوى عكسية وهي جواز تطليق المرأة من زوجها الإخواني.

وحثّ صبحي صالح، القيادي الإخواني، على عدم زواج الإخواني من غير الإخوانية مستشهداً بالآية الكريمة "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير"، معتبراً أنّ الزواج بهذه الطريقة خطأ في مسار التربية يؤخّر النصر، وأن زواج الإخواني بالإخوانية يؤدي إلى إنجاب إخواني بالميراث!

لكن معارضي السلفية الحركية والقطبية، من داخل التيار السلفي العام، حاولوا أن يردّوا على تلك الفتوى، لكن بنفس الأسس الشرعية؛ فالقيادي السلفي تامر عزت يقول: تحريف الأدلة الشرعية هي التي أوصلت هؤلاء إلى ما وصلوا إليه، فكيف أفتى وجدي غنيم مثلاً بقتل ضباط الشرطة؟ هو أفتى بدليل لكن الدليل لا علاقة له بالفتوى، فالآية التي استدل بها نزلت في المسلمين لمقاتلة المشركين الذي آذوا النبي، صلى الله عليه وسلم، لكن المستمع لا يفهم ذلك.

ويضيف: يفتي الشيخ محمد عبدالمقصود أنه لا يجوز الصلاة خلف إمام من الأزهر إن ثبت عدم دعمه للشرعية، فهذا كلام فارغ لا دليل عليه، بل من الصحابة من صلى خلف الحجاج بن يوسف الثقفي!، وفق تصريحاته لجريدة اليوم السابع المصرية.

مفتي مصر: توظيف الفتوى من جانب فصيل سياسي ما لتحقيق مكاسب سياسية مرفوض شرعاً

محاولة لوقف النزيف

لا يتورع هؤلاء عن إصدار الفتاوى، فهي تخرج بدوافع نفسية بحتة، يصب فيها المفتون وابلاً من نار غضبهم تجاه من يكرهون أو من يحبون، ضاربين بعرض الحائط ما ورد في كتب التراث من التحذير من الاقتراب من الفتيا، ففي الحديث الشريف "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار".. وكانت فرائس الصحابة والتابعين ترتعد إذا سئلوا في حكم شرعي، ويروى أن البدريين كانوا في مسجد رسول الله، عليه السلام، فيسأل أحدهم عن مسألة فيحلها إلى أخيه، ويحيلها أخوه إلى أخيه، وهكذا حتى قال أبو حنيفة لولا الخوف من الله لما أفتيت.

الشيخ على جمعة، مفتي مصر الأسبق، قال في تصريح صحافي سابق له: استخدام الفتوى في الصراعات السياسية كالتنازع الحزبي بين الطوائف من أجل الحصول على مكاسب فذلك مرفوض شرعاً، ولا يصح الإفتاء وفق الأهواء السياسية، ويعد من باب الممنوع شرعاً أن تطلق الفتوى دون دراسة متأنية تحدد حكما شرعيا يعمل به الناس.

إلا أن الشيخ نفسه تورط في عدد من الفتاوى السياسية، فذهب للإفتاء بأنّ الجماعات الإسلامية المعارضة للنظام في مصر هي من الخوارج الذين يجب قتلهم مكداً "طوبى لمن قتلهم وقتلوه".

الدكتور شوقي علام، مفتي مصر الحالي، يقول في تصريحات صحفية: إنّ توظيف الفتوى من جانب فصيل سياسي ما لتحقيق مكاسب سياسية لا مصلحة الوطن والأمة مرفوض شرعاً، مشيراً إلى أنّ خطراً أكبر يقع عند استخدام الفتوى وتوظيفها في حسم صراع سياسي بين قوى متناحرة، فهذا من شأنه تعميق الخلاف والشقاق بين المسلمين وأبناء الوطن الواحد لمجرد خلاف سياسي، وهو أمر ممقوت ومحرم شرعاً، وقد يؤدي إلى اقتتال واحتراب لا شرعية دينية له، ولا مصلحة فيه إلا لأعداء الأمة في الداخل والخارج.

عرض تقرير مرصد الإفتاء عدداً من الفتاوى السياسية التي أسهمت في تعزيز حالة الانقسام المجتمعي في مصر

لكن من الملاحظ أن دار الإفتاء المصرية ابتعدت في السنوات الأخيرة عن الزج بنفسها في الفتاوى السياسية؛ إذ يحث الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي الجمهورية، في تقرير للدار عن الفتوى السياسية على: قيام مؤسسات الإفتاء الرسمية بمهمة إصلاح ظواهر الانقسام المجتمعي والخلل الاجتماعي الناتج عن فوضى الفتاوى، حيث إن من المقرر أن الفتوى تحدث أثراً عميقاً في المجتمع ونظمه وتقاليده، مع ضرورة ألا يتأثر منهج الإفتاء بالسياسة الحزبية فيما يصدره من فتاوى وأن يظل على حياده وعدم التبعية لأي حزب أو شخص أو رأي سوى المبادئ الحاكمة للسياسة الشرعية في الإسلام.

كما شدّد على أنّ دار الإفتاء بمرجعيتها الوسطية ومنهاجها المعتدل تعيد التوازن إلى الساحة السياسية في المجتمع المصري، "ومن هنا كان دورها فاعلاً في توجيه وتصويب وتوضيح أي رأي صادر من أي جهة تنتصر لاتجاهها السياسي وتحاول أن تصبغه بصبغة دينية لتؤثر على الرأي العام".

القرضاوي: جبريل والملائكة تدعم أردوغان! - شاهد الفيديو:

 

 

ويتحدث المرصد الإعلامي لفتاوى التكفير التابع لدار الإفتاء المصرية، عن تأثير السياسة على فتاوى التكفير فيؤكد أنّ: الفتاوى أصبحت إحدى أكثر القضايا التي تحتاج إلى مزيد من الضبط والتأصيل، في ظل فوضى الفتاوى وانتقالها من الاجتماعي إلى السياسي لتهدد وتروع وتحرض وتشعل الفتن وتدعو إلى القتل وتبيحه، بما يضع المجتمعات كلها دون استثناء فوق بركان يتطاير شرره بالفعل في خضم الواقع السياسي المتصارع.

وأوضح تقرير مرصد الإفتاء تصاعد حدة الفتاوى السياسية الصادرة من غير المتخصصين منذ ثورة 25 يناير 2011 خاصة مع صعود التيارات الإسلامية، مؤكداً من خلال رصده المتتابع للأحداث ظهور فتوى دينية مصاحبة لأي بيان أو تصريح سياسي بالتأييد أو المعارضة، بما يكشف يقيناً توجيه هذه الفتاوى لخدمة أهداف سياسية حزبية معينة، وتوظيف الدين لاستقطاب الأتباع، واستغلال شغف الناس بالدين من أجل سحب البساط من تحت أقدام منافسيهم بإطلاق فتاوى تكفير المعارضين والمثقفين، ثم أفراد الجيش والشرطة الذين اعتبرهم أصحاب تلك الفتاوى التكفيرية طاغوتاً، وكان نتيجة تلك الفتاوى سقوط الكثيرين من أفراد الجيش والشرطة شهداء وضحايا عمليات إرهابية جاءت استجابة لها.

وعرض التقرير عدداً من الفتاوى السياسية التي أسهمت في تعزيز حالة الانقسام المجتمعي في مصر، والتحريض على الاقتتال، وتخريب البيوت، ومنها على سبيل المثال: الفتوى بإهدار دم المتظاهرين الذين خرجوا في مظاهرات 30 حزيران (يونيو) 2013 ضد حكم الرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي، وأخرى تحرّم الخروج عليه قبل هذه المظاهرات، والإفتاء ببطلان محاكمته، مقابل أخرى تعطي المسوغ الشرعي لقتل أنصار الإخوان، مروراً بتحريم المشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وفتاوى تبيح قتل المشير عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع العام 2013 باعتباره "مرتداً عن الإسلام"، انتهاءً بفتوى تطليق الزوجة الإخوانية، وآخرها فتوى تبيح حرق سيارات ومقرات الشرطة والاعتداء على بيوت الضباط وممتلكاتهم.

من الكوارث المترتبة على الفتاوى السياسية إدخال المجتمع المسلم في دوامة من الصراعات المذهبية المختلفة

نبيل البكيري في حوار لموقع "إسلام أون لاين" يؤكد أنه لا إفتاء في السياسة، وإنما رؤى ومشورة؛ فالسياسة شأن دنيوي بحت يتعلق عملها بتسيير شؤون الناس وإدارة اختلافاتهم، وبالتالي فأيّة فتوى تأتي في هذا الاتجاه إنما تكون عبارة عن رأي سياسي مجرد من أيّة قداسة دينية.

ويرى أنّ الفتوى تكون في اجتهاد فقهي حول مسألة تعبدية مجردة، يتمحور الحكم حولها وفقاً لمراتب الشريعة الأصولية المعروفة، وبعد التقدم الهائل في كل مناحي الحياة المختلفة، بات من الضروري، اليوم، أن تتحول الفتوى من مجرد اجتهاد بشري محصور في فرد إلى اجتهاد جماعي في إطار مؤسسة علمية ينضوي تحت لوائها مختلف التخصصات العلمية والشرعية والفلسفية والقانونية، وكل فنون المعرفة الأخرى.

"وبالتالي فإن توسع معارف الناس ومداركهم، وتداخلات الحياة وتعقيداتها بات يفرض، اليوم، علينا شيئاً من المنطق في تحويل الفتوى من مجرد رأي فردي إلى ما يشبه المؤسسة العلمية، كما هو حاصل اليوم في مسألة المجامع الفقهية الرائدة، والتي تنأى بالفتوى عن دائرة الاحتكار الفردي، لتكون رأياً عاماً مستنداً للخلفيات المرجعية الإفتائية اللازمة"، وفق البكيري.

ويذهب إلى أنّ الفتوى السياسية هي "رأي سياسي محدّد وواضح حول قضية معيّنة، يتدخل فيها الديني بالدنيوي، والمقدس بالمدنس، والحرام بالحلال، أما الفتوى الشرعية في رأي شرعي بمسألة معيّنة، ليست ذات خلفية أو هدف دنيوي في الغالب".

ويخلص إلى أنه من الكوارث المترتبة على الفتاوى السياسية إدخال المجتمع المسلم في دوامة من الصراعات المذهبية المختلفة، والتأسيس لحالة من الاقتتال الأهلي والصراع التاريخي المستمر، "وخطورة مثل هذه الخطوة أنها تأخذ طابعاً شرعيّاً، ومرجعية مقدسة ينخدع بها الناس والبسطاء، ويتورطون بموجبها".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية