ساري حنفي: معظم الأحزاب العربية تعاني الانفصام بين الخطاب والممارسة

ساري حنفي: معظم الأحزاب العربية تعاني الانفصام بين الخطاب والممارسة

ساري حنفي: معظم الأحزاب العربية تعاني الانفصام بين الخطاب والممارسة


26/10/2023

أجرى الحوار: عيسى جابلي

قال الدكتور ساري حنفي إنه يرفض عبارة "الإسلام السياسي" التي تُستخدم عادة لتصنيف جماعات بعينها للإيحاء بأنها ذات توجه واحد ينهل من سيد قطب، معتبراً أنّ هناك فكراً إسلامياً-سياسياً متنوعاً ومتعدداً بين الوسطية والتطرف.

وأكّد حنفي، في حواره مع "حفريات"، أنّ هناك مشكلة "اتساق بين الخطاب والممارسة" عند بعض الأحزاب في ما يخص الديمقراطية التي أعلنت عن تبنّيها في بياناتها، داعياً الحركات الإسلامية التي لم يطلها التغيير في ظل "الانتفاضات" العربية إلى توضيح مواقفها من تداول السلطة وفهم الديمقراطية بوصفها فلسفة أخذت طابعاً كونياً، على حد تعبيره، وانتقد كذلك اليساريين العرب الذين "لم تكن الديمقراطية يوماً على رأس قائمة أجندتهم الفكرية أو السياسية".

أتوقع حراكاً فكرياً وسياسياً واجتماعياً مهماً سيجبر الأحزاب الإسلامية على مراجعة مفاهيمها

ورأى أنّنا أمام مخاضات كثيرة في العالم العربي يقوم بها فاعلون مختلفون بأجندات متباينة "ولكن يمكن لها أن تتواصل يوماً من الأيام بتسريع التغيير الاجتماعي والسياسي".

والدكتور ساري حنفي أستاذ علم الاجتماع ورئيس قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الإعلامية بالجامعة الأمريكية ببيروت، ويرأس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات"، ونائب رئيس كل من "الجمعية الدولية لعلم الاجتماع" و"المجلس العربي للعلوم الاجتماعية"، له 8 كتب أهمها "عبور الحدود وتبدل الحواجز" و"سوسيولوجيا العودة الفلسطينية" و"بروز النخبة الفلسطينية المعولمة" و"المانحون والمنظمات الدولية" و"المنظمات غير الحكومية المحلية"..

وهنا نص الحوار:

يطرح صعود الإسلام السياسي غداة الثورات العربية مشكل علاقته بالديمقراطية، هل ترى أنّ هذا التيار قبل فعلاً بالديمقراطية آلية حقيقية للتداول السلمي على السلطة أم أنّها مجرد مناورة بقصد "التمكين"؟

أولاً، أنا أرفض استخدام مصطلح "الإسلام السياسي": هناك فكر إسلامي- سياسي متعدد ومتنوع، منه الوسطي ومنه المتطرف، تحمله الأفراد أو الحركات الإسلامية أو الإسلام الرسمي، وغالباً ما استخدم تصنيف الإسلام السياسي باعتباره قدحاً بمجموعات حركية معينة، والإيحاء أنّ اتجاهها واحد يتألف من قارئي سيد قطب من الإخوان المسلمين إلى القاعدة، والطريف أنّ من يستخدم هذا النعت هم غالباً حاملو الإسلام الرسمي الذي يعتبرون إسلامهم ليس سياسياً.

إذاً، مقولة "الإسلام السياسي" هي مثل مقولة الأيديولوجيا، يتم نعت الأفكار التي لا نحبها على أنها أيدولوجية، أما في موضوعة الديمقراطية ربما تكمن أهم تبعات الانتفاضات العربية على التيارات والحركات الإسلامية، في توضيح مواقفهم من هذه الموضوعة باعتبارها فلسفة وآليات، وفعلاً، ظهرت وثائق وبيانات جلية بتبنّي النظام السياسي-الديمقراطي (حزب النهضة التونسي، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب الحرية والعدالة المصري، وحزب الإصلاح الجزائري واليمني، وحركة حماس، والبيان الختامي لجماعة الإخوان المسلمين السوريين في 2015، ووثائق الأزهر 2012، وغيرها).

 القرضاوي لم يقم بأي نقد ذاتي لكتاباته السابقة المنددة بالديمقراطية والليبرالية رغم تنظيراته الجديدة

وظهرت تنظيرات وفتاوى جلية من بعض الرموز الإسلامية المؤثرة، كالشيخ يوسف القرضاوي (2014)، رغم أنه لم يقم بأي نقد ذاتي لكتاباته السابقة والمنددة بالديمقراطية والليبرالية (ككتابيه: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، والحل الإسلامي فريضة وضرورة). ولكن ثمة استثناء لهذا التطور المهم؛ إذ لم يشمل الاتجاه السلفي والذي أصبح الاتجاه الإسلامي الوحيد (إضافة إلى الإسلامية الجهادية العنيفة – القاعدة وأخواتها) الذي ما يزال يحمل في أفكاره وممارسته الكثير من المراوحة بين الالتباس إلى الرفض التام والتكفير لمفهوم الديموقراطية.

تأسّست تيارات الإسلام السياسي على الشمولية ومعاداة الديمقراطية بوصفها منتجاً غريباً عن الثقافة الإسلامية وتتمسك بالمقابل بـ"الشورى"، هل الشورى هي "المعادل البديل" للديمقراطية حقاً؟

هذا أيضاً تعميم مفرط، هناك من يستخدم مفهوم الديمقراطية وهناك من يفضل مفهوم الشورى، أنا أتفق مع فرانسوا بورغا الذي بنى منهجيته على أنّ الاتجاهات الإسلامية للشعوب العربية قد امتازت بلسان إسلامي مشترك، وأفعال اجتماعية وسياسية مختلفة (Un parler musulman commun, des agirs variés)، هذا اللسان الإسلامي المشترك هو مفردات معجمية (lexique) وليست قواعد نحوية (grammaire). أي إنّ هذه المفردات التي تنادي بالسياسة والعدالة الاجتماعية والهوية والحقوق هي وسيلة لوصف الأشياء وربطها بفضاء رمزي، أكثر مما هو معياري صارم، وتالياً، يسمح بإمكانات كثيرة للتفكير والتصرف، بناءً على هذه الوسيلة؛ فمثلاً، إذا كان مفهوم الشورى مستقى من السياق التراثي الإسلامي، فإنّ هذا المفهوم سوف يركب بطرائق مختلفة (قواعد نحوية)؛ فهناك مثلاً نحو سلفي- سياسي سوف يستخدم الشورى على أنها غير ملزمة، بينما سيستخدمها نحو آخر بطريقة تجعلها شبيهة بمفهوم الديموقراطية.

تعلن أحزاب إسلاموية كثيرة علناً قبولها بالديمقراطية وتبنّيها في حين أنّ رئيسها لم يتغير منذ عقود رغم مؤتمراتها العديدة، ألا يطرح هذا تناقضاً بين ما تمارسه وما تعلنه؟

نعم، هناك مشكلة اتساق بين الخطاب والممارسة وهي سمة لا نجدها فقط في بعض الأحزاب الإسلامية ولكن في الكثير من الأحزاب السياسية اليسارية والأحزاب القائدة، فمثلاً في فلسطين بينما هناك تدوير في قيادة الحزب لدى حماس غاب ذلك عن فتح أو الكثير من الفصائل اليسارية الفلسطينية.

ما الحلول الكفيلة بسحب تيارات الإسلام السياسي إلى ساحة الديمقراطية وإرغامها على القبول بها، بعد فشل الحلول الأمنية؟

كثير من الأحزاب السياسية الإسلامية هي جزء من حكومات توافقية، وهم بالتالي يطوّرون أفكارهم للتلاؤم مع واقع معقد فيه انقسامات حادة في المجتمعات العربية بما فيها الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين؛ إذاً الحركات الإسلامية تمارس السياسة من خلال منظومة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، بالنظر إلى تجربة حزب الإصلاح في اليمن، أو العدالة والتنمية في المغرب، حماس في غزة، وغيرهم.

ما مستقبل هذه التيارات في الفضاء العربي الإسلامي، برأيك، في ظل تضييق الخناق عليها في بعض الدول؟ هل تتوقعون أن تقدم مراجعات جذرية؟

هذه الدول دخلت في مواجهة مع المعارضة الإسلامية ووضعتها في السجون، لا أعتقد أنّ ذلك سيدفعها للمراجعة؛ مثلاً كان يمكن لجماعة الإخوان المسلمين في مصر القيام بمراجعة الأخطاء التي ارتكبت أثناء حكم الرئيس محمد مرسي في سياق ممارسة الحكم أكثر بكثير مما يمكن توقعه الآن وهم في غياهب السجون.

اقرأ أيضاً: فريد العليبي: الإسلام السياسي يراوغ وصولاً إلى الحاكمية

ودعني أقلها بوضوح؛ نحن في صيرورة الانتفاضات العربية، وأتوقع حراكاً فكرياً وسياسياً واجتماعياً مهماً سيجبر الكثير من الأحزاب الإسلامية على مراجعة كثير من مفاهيمها السياسية والاتجاه نحو المحافظة الاجتماعية، ولكن هذه الصيرورة ستدفع أيضاً بعض الأحزاب السياسية اليسارية للقيام بمراجعات فكرية وسياسية؛ فعلى سبيل المثال، حول تحالفها مع العسكر للتخلص من طرف سياسي إسلامي وصل بالطرق الديمقراطية (حالة مصر مثلاً)، وكذلك الفهم الجامد المحنط للعلمانية في الوقت الذي دخلت الدول العلمانية لمرحلة ما بعد عصر العلمانية (post-secularism) حسب خوسيه كازانوفا. ويذهب الأنثروبولوجي الأمريكي طلال أسد إلى أبعد من ذلك بتأكيده على عودة تسييس الدين بقوة في المجتمعات الحديثة.

لدينا مشكلة اتساق بين الخطاب والممارسة في بعض الأحزاب الإسلامية والكثير من اليسارية

إذاً، على بعض الاتجاهات اليسارية القيام بمراجعات تموضعُ الأولية للديمقراطية ولمشروعها والمزاوجة بين التحليل ما بعد الكولونيالي، مع تحليل أثر الاستبداد الطويل الذي مورس في الفضاء العربي، بعد نصف قرن من هذا الوضع لم يستطع الكثير من مثقفي اليسار ما بعد الكولونيالية المناهضين للإمبريالية فهم ديناميكيات السلطة المحلية، أو أهملوا دورها عن قصد. بالنسبة لهم، لم تكن الديمقراطية يوماً على رأس قائمة أجندتهم الفكرية أو السياسية (لا في سوريا ولا العراق ولا البحرين ولا السعودية...) . لقد حللوا، على سبيل المثال، الانتفاضات العربية (مع كل نتائجها من تغيرات سياسية وحروب أهلية وعنف) ببساطة على أنها لعبة جيو-سياسية، موجهين اللوم بشكل أساسي إلى القوى الغربية المهيمنة والامبريالية.

اقرأ أيضاً: مصطفى زهران: داعش قادم بنسخة جديدة أكثر صلابة!

هذا التصوير الاختزالي للتحولات الحالية للمجتمعات العربية يجعل العديد من هؤلاء المثقفين يدافعون عن الديكتاتوريات العربية "التقدمية" في خضم صراع هذه الأنظمة مع المعارضات الناشئة بدعوى أنّ البديل متحالف مع الغرب أو إسلامي "رجعي". يصبح بذلك هذا التحليل الاعتذاري الدفاعي شبه التآمري أداة لتبرير القمع المحلي وحتى التعذيب.

وهكذا، يندر لمثقفي ما بعد الكولونيالية في المنطقة العربية، وأحياناً بعض اليساريين في الغرب، دراسة مجموعة العوامل الداخلية والخارجية في المشهد السياسي في العالم العربي، وكيف يصبح الخارجي حرجاً (salient) في بعض الأحيان، والداخلي في أحيان أخرى. هذا اليسار (ومعه اليمين بالطبع) هو نفسه أيضاً الذي رفض موضوعة التوازي بين حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة وحقوقهم الاجتماعية-الاقتصادية في بلدان المنفى وخاصة لبنان؛ وهو نفسه اليسار الذي دعا إلى تحرير القدس، ولكن أهمل اللاجئين الفلسطينيين ومنعهم في لبنان من أبسط حقوقهم الأساسية كحق العمل والتملك، وهو نفس اليسار الذي يرى أنّ بعض التدخلات الأجنبية حلال وأخرى إمبريالية حرام، وهو نفس اليسار الذي اختزل الظلم والطغيان الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين على أنه ظلم لا يوازيه ظلم لا في الحاضر ولا المستقبل.

وهكذا تصبح المقتلة السورية شيئاً ثانوياً ويصبح 26 مليون سوري غير مرئيين في تحليلاتهم، فما يهم هو الحفاظ على مشروع المقاومة كما يرونه؛ هذا اليسار الذي لم يأبه بدكتاتوريات التعذيب المنهجي طالما أنّ هذه الأخيرة قد تحلت بسياسات خارجية ممانعة، وهو نفس اليسار الذي لم يشهد حدثاً تدشينياً مثل قضية دريفوس في فرنسا التي على أثرها انقسم المثقفون هناك بين يسار ويمين بناءً على موقفهم من المواطنة الكاملة للأقليات ورفض العنصرية (بالطبع بالإضافة لموقفهم من الخيارات الاقتصادية-السياسية).

ما النقاط التي ترون أنّ على الإسلام السياسي مراجعتها بصفة مؤكدة؟

كما ذكرت سابقاً المطلوب من الحركات الإسلامية التي لم تتطور بشكل كاف في ظل الانتفاضات العربية أن توضح مواقفها من تداول السلطة وفهم الديمقراطية ليست كآليات ولكن كفلسفة أخذت الطابع الكوني، وكذلك موضوعة الحريات الفردية في الفضاء العام.

اقرأ أيضاً: عادل لطيفي: تيارات الإسلام السياسي استفادت من غياب الحريات

في مقالة لي نشرت في مجلة إضافات-المجلة العربية لعلم الاجتماع بعنوان "التجديد الإسلامي من الداخل: تكوينات جديدة" تناولت أمثلة من ثلاثة اتجاهات تجديدية مولدة من داخل الحقل الديني: اتجاه شبابي تجديدي؛ اتجاه تجددي اجتماعياً وسياسياً؛ واتجاه تجددي اجتماعياً ومحافظ سياسياً؛ في الاتجاه الشبابي التجديدي، هناك قيادات لمبادرات ينتمي أصحابها إلى اتجاهات فكرية يمكن أن أسميها ما- بعد الإخوانية وما-بعد السلفية وما- بعد حركة الصحوة (السعودية)، فهم قد درسوا أولاً الشريعة حتى مستويات عليا، ومن ثم تأثّروا بفكر الإخوان والسلفية والصحوة، وتنتشر هذه الاتجاهات بشكل أساسي في الخليج، ولكن لها امتدادات تتجاوز الحدود الوطنية، وبخاصة في مصر والمغرب.

المطلوب من الحركات الإسلامية أن توضح مواقفها من الديمقراطية

إنّ التحدث عن اتجاهات لا يعني أنّ هناك تماسكاً مفاهيمياً لدى كل اتجاه أو داخل كل مؤسسة فكرية من هذه الاتجاهات؛ فالبعض قد يبدو مثلاً محافظاً سياسياً في بعض القضايا، وتجديدياً في قضايا أخرى. لكن كل هذه التجديدات هي من الداخل كون أصحابها هم من أولئك الذين درسوا الشريعة وحفظوا القرآن عن ظهر قلب، وامتهنوا الكثير منهم العمل الدعوي أو الدعوي مخلوط بالسياسي. وهذا لا يعني بأي حال تهميش دور أهمية التجديد من خارج الحقل الديني.

اقرأ أيضاً: خزعل الماجدي: المطلوب وقف الإسلام السياسي الذي يتلاعب بحياتنا ومستقبلنا

وبحسب تعبير السوسيولوجي اللبناني عبد الغني عماد "لا نستطيع أن نفصل بين المحاولات الداخلية والخارجية للتجديد لأنهما يكملان ويبلغان بعضهما البعض"، إن التاريخ حافل بالتجاهل المتبادل بين من هم داخل الحقل الديني ومن هم خارجه، ولعل أكبر مثال على ذلك، هو كتاب عبدو فيلالي- أنصاري (Filali-Ansary 2003) الذي سرد فيه مسيرة المصلحين للإسلام معدّداً 16 مصلحاً، ليس منهم إلا واحد في داخل الحقل الديني (علي عبد الرازق)، ولكن على الرغم من ذلك، فالبعض قد استفاد من محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ومحمد شحرور ووائل حلاق وغيرهم، أو على الأقل قد تحفزوا من خلال مناقشة فكرهم للشروع بالتجديد.

نُفاجأ بظهور شخصيات رئيسة كانت جزءاً من الإكليروس الرسمي المحافظ في الخليج بآراء تجديدية مهمة

كما أنّ الجديد في هذا التجديد هو ربط التجديد بقضايا يومية، تمس حياة الناس؛ ليس في التعبد والطقوس الدينية، ولكن في مسيرتهم نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي والتنموي.  وهذه الأيام نُفاجأ بظهور شخصيات رئيسة كانت جزءاً من الإكليروس الرسمي المحافظ في الخليج بآراء تجديدية مهمة، وطبعاً ثمة محاولات تغيير مهمة في السعودية يقوم بها ولي العهد محمد بن سلمان لفرض أجندة تجديدية طال انتظارها من قبل الكثير من الجيل الشبابي السعودي الناشئ، وتقوم مؤسسة اعتدال في الرياض بنشر فكر تجديدي أكثر تسامحاً من الفكر المحافظ، إذاً نحن أمام مخاضات كثيرة في العالم العربي يقوم بها فاعلون مختلفون بأجندات متباينة ولكن يمكن لها أن تتواصل يوماً من الأيام بتسريع التغيير الاجتماعي والسياسي.

الصفحة الرئيسية