في نعي الإسلام السياسي

في نعي الإسلام السياسي


22/07/2018

حكمت جماعات الإسلام السياسي على نفسها بالانحسار والفناء عندما أعرضت عن الاستجابة للتحولات؛ الاقتصادية والاجتماعية التي سادت العالم منذ أواخر الثمانينيات؛ إذ كانت تحسب الإقبال الكبير المتزايد على الدين والتدين مكاسب لها سياسية وانتخابية، ولم ترد أن تلاحظ أنّه نهايتها، وببساطة فقد انتهت جماعات الإسلام السياسي عندما تحقق هدفها الذي كانت تدعو إليه طوال العقود السابقة، وهو "الأسلمة"، وعندما صارت الدول والمجتمعات والأسواق إسلامية أكثر مما يدعو إليه الإخوان المسلمون، فلم يعد للجماعة خيار سوى الرحيل أو التحول إلى جماعة سياسية اجتماعية.

لم تعد قضية التدين والدعوة إلى الدين والعمل الديني منذ تسعينيات القرن العشرين تحتاج إلى الجماعة

وبدلاً من أن تعيد الجماعة تعريف نفسها، وفق المرحلة الجديدة ومقتضياتها، أقحمت نفسها في سجالات وصراعات سياسية وأدخلت أو شاركت في إدخال الدول والمجتمعات في حالة توتر سياسي واجتماعي، وكان الخيار الطبيعي أو المتوقع هو التخلص منها.

لم تعد قضية التدين والدعوة إلى الدين والعمل الديني منذ تسعينيات القرن العشرين تحتاج إلى الجماعة، ولم تعد الأولويات والقضايا والاحتياجات التي تشكلت في ظلّ موجة العولمة والخصخصة تلائمها الصراعات والسجالات السياسية التي كانت تخوضها الجماعات، هكذا فقد انتهت هذه الجماعات ولم يبق إلا إعلان وفاتها!

اقرأ أيضاً: ما بعد الإسلام السياسي: هل انتهى الشكل التقليدي للحركات الإسلامية؟

تشكلت أزمة كبيرة وعميقة بين المجتمعات وبين الشركات الاقتصادية والاستثمارات الجديدة، ومن البديهي أنّه عندما تطبق سياسات الخصخصة للموارد والخدمات أن يكون المجتمع في الوقت نفسه قادراً على تنظيم نفسه وحمايتها ليستطيع الحصول على الخدمات والاحتياجات التي تحولت إلى سلع تجارية واستثمارية بالجودة والسعر المناسبين، وأن ينشئ المجتمع مؤسساته وموارده المستقلة ليكون قادراً على توفير ما كانت توفره له السلطة التنفيذية، وأن يكون له أدوات سياسية قادرة على حمايته وتحقيق توازن مع القطاع الخاص والذي قد يتحول في معظمه أو جزء كبير منه إلى استثمارات أجنبية.

لم تعد الأولويات والقضايا التي تشكلت في ظلّ العولمة تلائمها الصراعات السياسية التي تخوضها الجماعات

ولكن ما جري بالفعل هو إعادة صياغة للتشريعات والتحالفات السياسية والاجتماعية التي تضعف المجتمعات والمواطنين وتحملهم أعباء كبيرة وتعفي، في الوقت نفسه، رؤوس الأموال والشركات من التزامات مفترضة، وبالنظر إلى ما يجري من تشريعات وتطبيقات في الضرائب والعمل والأجور والعلاقة بين العمال وأصحاب العمل، والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والعلاقة مع الشركات الموردة للخدمات الأساسية أو التي تدير الموارد العامة، وما يمكن أن تؤول إليه الحالة عندما تختفي أو تضعف مؤسسات التقاعد والمؤسسات التعليمية والصحية الحكومية، والحالة التي سيكون عليها المجتمعات العربية عندما تكون نسبة كبار السن تتجاوز 10% من السكان وتكون الدخول والرواتب التقاعدية وفرص الرعاية الصحية والاجتماعية قد تآكلت، فإننا في مواجهة حالة لا يمكن تلافيها إلا بدور فاعل للقيادات المجتمعية والمهنية وتشكيلات الطبقة الوسطى في المجتمع.

اقرأ أيضاً: العقلانية بما هي أزمة الإسلام السياسي.. وكثير من العلمانيين أيضاً

وبطبيعة الحال فإنّ المرشح الطبيعي المنظور ليقود المجتمعات باتجاه مصالحها ومساعدتها على التوازن في المواجهة مع الاحتكار والإقطاع والإفقار وغياب العدالة الاجتماعية والفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين فئات المجتمع هو المؤهل للقيادة والمشاركة، ومن الطبيعي أيضاً أنّ جماعات الإسلام السياسي بتخلّيها عن هذه الأولويات والقضايا حكمت على نفسها بالانحسار والنهاية!

المرشح الطبيعي لقيادة المجتمعات باتجاه مصالحها ومساعدتها على التوازن هو المؤهل للقيادة والمشاركة

كان في مقدور الإخوان المسلمين أن يجعلوا من المؤسسات العامة والمجتمعية منافسة قوية وكفؤة أو، على الأقل، بديلاً معقولاً للأغلبية والأقل حظاً من المواطنين، فقط لو أنّهم تخلوا عن المعارك السياسية، وعن الاحتفالات الدينية، وتركوا الدعوة والإرشاد ورحلات العمرة والنشيد الإسلامي، فثمة من يشتغل بها وبنجاح لا يقل عنهم، فقد أصبح الناس في حالة من التدين والإقبال على الدين بما لم يدع مجالاً لبرامجهم الدعوية؛ فقد تحققت أهدافهم في هذا المجال كاملة لدرجة أنّه لم يعد ثمة حاجة لعملهم وبقائهم فيه، وكان في مقدورهم أن ينشئوا نضالات اجتماعية وسياسية جديدة مستمدة من المواجهة بين الشركات والمجتمع، ويدفعوا بالسلطة التنفيذية لتكون راعية ومنسقة محايدة على الأقل إن لم تكن شريكاً منحازاً للمجتمع لو أنّهم فقط اشتغلوا وأشغلوا النقابات والشخصيات والفعاليات الاجتماعية والسياسية والتشريعية بقضايا مثل؛ التعليم والإسكان والبيئة والمهن والعمل والأجور والتوظيف والمشاركة والرعاية الصحية والاجتماعية والتقاعد.

جماعات الإسلام السياسي بتخلّيها عن الأولويات كالعدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن حكمت على نفسها بالنهاية

لماذا لم يكن للإخوان المسلمين مجلة  بمستوى "فورن أفيرز" تكون مصدراً للرؤية والتخطيط للعمل العام الرسمي والمجتمعي، وتقدم الرؤية والبرامج البديلة وتكون بيتاّ للنشر والخبرة في السياسة والاقتصاد والثقافة وصوتاً للطبقات الوسطى وأصحاب المهن والمشروعات وساحة للتعليم المستمر والتعبير؟ ولماذا لم يستنفر كل أعضاء الجماعة ومؤيدوها وشبابها وأطباؤها ومهندسوها وأغنياؤها ليكونوا شركاء حقيقيين في التنمية، في الرعاية الصحية والإسكان للفقراء والطبقات الوسطى، وفي تطوير الغابات والمراعي والمصادر المائية، وفي تنظيم المجتمعات والأحياء والبلدات، وفق احتياجاتها، وإنشاء مدارس ومراكز ثقافية ورياضية وجمعيات تعاونية وإسكانية يشارك فيها الناس جميعاً وتكون موجهة للمجتمعات والأرياف والبوادي وليست استثمارات أنيقة معزولة؟

التحدي الحقيقي هو منع تسخير المجتمعات وموارد الدولة لصالح أقلية من الجماعات والمستثمرين والمتنفذين

ولماذا لم تستثمر الجماعة في ترسيخ قواعد ثقافية وأخلاقية للسلوك الاجتماعي تنظم حياة الناس باتجاه الرقي والتسامح والتمدن؟ ولماذا لم تكن الجماعة محوراّ لحراك ثقافي وإبداعي عام في الشعر والمسرح والقصة والسينما والرواية والموسيقى (نعم الموسيقى) ولماذا بقيت الجماعة تنظيماً سرياً وكأنها تشتغل بالممنوعات؟

المكان هو سر الإجابة والعمل، والتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية حول المكان هي أساس الرؤية المكافئة للعمل المطلوب والإجابة المفترضة على سؤال ما العمل؟ وبغير ذلك فإنّ الجماعات تتحول إلى مجاميع غير مرتبطة بالمكان وقضيته، وفي النهاية ستكون النتيجة كارثية وتتحول الجماعات إلى تجمعات وظيفية أو معزولة.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي بين إرث الماضي وإشكالية الحاضر

التحدي الحقيقي للمجتمع والجماعات والحكومات هو منع تسخير المجتمعات وموارد الدولة لصالح أقلية من المستثمرين والمتنفذين، وهذا هو السؤال.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية