في تحزيب المجتمع وتطييف السياسة.. السودان نموذجاً

في تحزيب المجتمع وتطييف السياسة.. السودان نموذجاً


31/07/2018

إذا جاز لنا؛ إخراج الإسلاميين من الهوية السياسية المفترضة لعمل الأحزاب بمعناها الحديث في إطار العمل الوطني السياسي؛ أي في إطار المعنى الزمني والموضوعي لفلسفة الحزب، باعتباره جزءاً كيانياً من كُلٍّ وطني يشتغل على ممارسة نسبية للسياسة، بحيث لا يكون كياناً متعالياً عن الوطن والعالم، كما تتخيل الأيدلوجيا الدينية لجماعات الإسلام السياسي؛ فإن ما يعيق عمل الأحزاب في منطقتنا العربية بدا اليوم أقرب إلى العجز منه إلى إدراك هوية الحزب ذاته، ودوره في العمل السياسي كشأن عام؛ ذلك الشأن الذي بدا لكثيرين لا علاقة له بالسياسة، بعد الضربات التحويلية المتوالية للدولة العربية الحديثة وقمعها الذي فرغ مسمَّى الحزب من هويته السياسية.

كانت الحداثة السياسية الحزبية شكلاً جنينياً ضمن إطارات الدولة العربية الحديثة عبر تمثيلاتها للغرب

لقد كانت الحداثة السياسية المتصلة بالتجريب الحزبي شكلاً جنينياً ضمن إطارات الدولة العربية الحديثة عبر تمثيلاتها للغرب، بينما ظل محتوى التعبيرات الحزبية في ممارساتها للسياسة، عربياً، تمثيلاً لأنماط ما قبل حداثية هي مزيج من الطائفية والقبلية والتعبيرات الأوتوقراطية المتعددة لبنية التخلف.

في السودان، بدأ التحزيب السياسي منبثقاً من "مؤتمر الخريجين"؛ الذي كان الشكل الأكثر حداثة بين الكيانات الأهلية السودانية مقاومة للاستعمار؛ حيث ضم ذلك المؤتمر كافة خريجي المدارس السودانية العليا في الثلاثينيات. وفيما بعد لعبت التدابير السياسية للاستعمار البريطاني داخل الكتلة الوطنية السودانية ورموزها، دوراً محورياً في تحوّل كتلة "الخريجين" إلى سياسيين "تقنيين" بين: حزب "الأمة"، الذي كان يرعاه زعيم طائفة الأنصار السيد عبد الرحمن المهدي، (كان هذا الحزب يدعو لاستقلال السودان عن مصر). وحزب "الأشقاء" (الذي كان يميل للوحدة مع مصر) برعاية زعيم الطائفة الختمية السيد علي الميرغني؛ فصارت الطائفية السياسية، في النهاية، هي الشكل الأكثر تعبيراً عن السياسة!

نشأت فكرة الأحزاب في السودان كتقليد مدني منزوع المعنى فتأسست الأحزاب على شاكلة صورية

هكذا نشأت فكرة الأحزاب في السودان كتقليد مدني منزوع المعنى لجهة دلالتها السياسية الحقة، وتم تأسيس الأحزاب على شاكلة صورية، كانت بطبيعتها تلك عاجزة عن إنتاج فكر سياسي يستطيع معرفة الواقع وإدراك القوانين السياسية التي تحكمه.

وكان طبيعياً، حيال التأطير الساذج لفكرة الحزب في تلك المرحلة المبكرة وتعبيراتها الطائفية، أن تكون الغلبة، لاحقاً، لأحزاب عقائدية أيدلوجية بفعل مؤثرات مرحلة الحرب الباردة. كما كان طبيعياً أن تكون المرجعيات الأولى لتلك الأحزاب من خارج الوطن (الحزب الشيوعي ـ الإخوان المسلمون نموذجاً) حيث تماهت مع مناخ الاستقطاب في تلك الحرب التي زامنت نهايتها في العام 1989م؛ انقلاب الإسلاميين المشؤوم الذي سمي، زوراً، بثورة "الإنقاذ الوطني"؛ ليكون التجريب الإسلاموي بممارساته المتعالية على الوطن، طريقاً ملكياً لخراب الوطن ذاته؛ فانقسم الوطن، ونشبت الحرب الأهلية، وتم تدمير قواعد اللعبة السياسية عبر تذرُّر الأحزاب التي صارت اليوم عاجزة، لا عن فهم مسار الوقائع السياسوية التي تجرها عربة الإنقاذ إلى الهاوية، بل، عن وعي دور الحزب في واقع سوداني يجعل من السياسة مادةً أولية للعنف وتحزيباً عمودياً للمجتمع والمدينة!

عجزت الأحزاب عن إنتاج فكر سياسي يعرف الواقع ويدرك القوانين السياسية التي تحكمه

والحال، إذ لا تكاد الأحزاب السودانية اليوم تختبر دورها الوظيفي، فيما هي تعجز عن تدبير ممارسات سياسية من صميم عملها؛ نجدها، تشكك باستمرار، حتى في إمكانات الرصيد المفترض للشعب وسويته التأهيلية الخام للعمل السياسي والحزبي (برغم انخفاض تلك السوية التأهيلية اليوم إلى حالات متدنية). فالأحزاب تلك؛ إذ تتوخى في الشعب السوداني عجزاً تتخيله طبيعياً عن اللحاق بها، لا تحدق كثيراً في معنى ودلالة الشأن العام الذي هو مساحة العمل الحزبي كي تأخذ بأسباب أولية لممارسات السياسة، وتعكس من خلال المبادئ الأخلاقية لقادتها وكوادرها الوسيطة حيويةً جاذبة ستنعكس بدروها على الشعب فيستجيب لنداءاتها وبرامجها.

يكاد حزب المؤتمر السوداني يكون الحزب الوحيد الذي اتصل بهموم المواطنين وتبنى مشاريع المنسيين

هناك حزب سوداني واحد، ربما، يبدو لديه وعي واضح عن هوية السياسة بوصفها شأناً عاماً فيما تخلت عنه الدولة؛ فانخرط في بعض التجارب والممارسات المتصلة بالحقوق في الحيز الاجتماعي والخبرة اليومية التي اشتغل عبرها على أدوار بدت للجميع كما لو أنها ممارسات طرفية بعيدة عن السياسة، فيما هي من صميمها، والأحرى أن تلك المشروعات التي أضطلع بها ذلك الحزب (رغم أنّها مشروعات لا تكتمل مطلقاً إلا من خلال الدولة) ظلت في دلالتها العميقة تذكيراً دائماً من الحزب للناس بمهام الدولة التي فشلت فيها. وهذا في تقديرنا جهد سياسي سيفضح دور الدولة المركزي في إهماله.

اقرأ أيضاً: اليسار والدين في السودان: الحزب الشيوعي السوداني أنموذجاً

ذلك الحزب، بطبيعة الحال، هو حزب المؤتمر السوداني؛ الذي إلى جانب تبنِّيه لمشاريع المنسيين؛ أعاد بعض الثقة لبعض الشعب بما تعنيه الأحزاب في اشتغالها الأساسي؛ فهو يكاد اليوم، الحزب الوحيد الذي اتصل على نحو عميق بهموم المواطنين عبر تماس مباشر وقدرة على التأثير والاستقطاب والكاريزما، لاسيما من خلال كوادره التي ظلت تتعلم من نماذج تغيير غير تقليدية في العالم، وتستلهم منها معالم نهضة جنينية لوطنهم.

الحزب جزء كياني ذو هوية سياسية من كُلٍ وطني وطبيعة الحزب السياسية هوية حديثة لا هوية قديمة

هناك فشل في الوعي العمومي لدلالة التعريف الدستوري لمفهوم الحزب، حتى على المستوى اللغوي. ولهذا نجد خطورة ذلك الغياب، لا في الممارسة الحزبية فحسب؛ بل وفي المعنى الفكري والسياسي العام لكلمة (الحزب) وما يفترض أن يكون بدهياً على مستوى اللغة والقاموس.

حين لا يعرف الشعب؛ أن الحزب جزء كياني ذو هوية سياسية من كُلٍ وطني، وأنّ طبيعة الحزب السياسية هوية حديثة لا هوية قديمة؛ سيظل وعيه الخام يصور له فكرة الحزب كما لو أنها انعكاس لهويات ما قبل حداثية (قبلية / طائفة) تعزز لديه أوتوقراطية الرأي الواحد، والعمر الطويل لدى زعيم الحزب؛ حيث نجد زعماء الأحزاب العقائدية والتقليدية هم تماماً مثل زعماء القبائل والطوائف، يحكمون المؤسسة الحزبية، مرة واحدة وإلى الأبد!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية