المرأة بعينيّ المنفلوطي.. مساوية للرجل ولا تخالطه

المرأة بعينيّ المنفلوطي.. مساوية للرجل ولا تخالطه


08/08/2018

المنفلوطي؛ هو أحد كبار أعلام الأدب العربي النهضويّ الحديث، وقد شغلت قضية المرأة حيّزها في أدبه، سيما أنّها كانت إحدى القضايا الحساسة التي اهتم بها العديد من معاصريه من المفكّرين والكتّاب، وقد اتّسم موقفه منها بتعدّد جوانبه، فجمع بين الرومانسية والإنسانية في آخر، والمحافظة في ثالث!

لا يرى المنفلوطي فرقاً بين المرأة والرجل فهي مساوية له وليست تابعة وعليه أن يقدّرها لذاتها

فيما اختاره المنفلوطي وترجمه من روايات أجنبية، نجد تعبيراً غير مباشر عن نظرته الشاعرية الرومانسية الجميلة إلى المرأة، فهي في رواية مجدولين: "الأفق الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته"، و"المعراج الذي تعرج عليه النفوس من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى، والرسول الإلهي الذي يطالع المؤمن في وجهه جمال الله وجلاله".

وهذه النظرة الجميلة الراقية للمرأة يؤكدها المنفلوطي بكلماته الخاصة في "النظرات"، فيقول: "إنّ الحياة مسرّات وأحزان، أمّا مسراتها فنحن مدينون بها للمرأة؛ لأنّها مصدرها وينبوعها الذي تتدفق منه، وأمّا أحزانها فالمرأة هي التي تتولى تحويلها إلى مسرّات، أو ترويحها عن نفوس أصحابها على الأقل، فكأننا مدينون للمرأة بحياتنا كلها".

رواية "ماجدولين" للفرنسي "ألفونس كار"، عرّبها المنفلوطي وأعاد صياغتها

والمرأة، في رأيه، تتفوّق على الرجل في الثبات على الودّ والعهد: "إنّ قلب الرجل متقلبٌ مُتلّون، يسرع إلى البغض كما يسرع إلى الحبّ، وإنّ هذه المرأة التي تحتقرونها وتزدرونها وتضربون الأمثال بخفّة عقلها وضعف قلبها، أوثق منه عقداً، وأمتن وداً، وأوفى عهداً".

إنسانياً، لا يرى المنفلوطي فرقاً بين المرأة والرجل؛ فهي مساوية له وليست تابعة، وعليه أن يقدّرها لذاتها، وليس وفقاً لما تمثّله له من موضع حاجة وضرورة، وعن هذا يقول في "النظرات": "المرأة تفهم معنى الحياة كما يفهمها الرجل، فيجب أن يكون حظّها مثل حظّه، إنّها لم تخلق من أجل الرجل؛ بل من أجل نفسها، فيجب أن يحترمها الرجل لذاتها لا لنفسه".

المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها وعفّتها في حصن حصين لا تمتدّ إليه المطامع

وهي جديرة بأن تكون حرّة، لكي يكون لها كيانها وشخصيتها الخاصة، وكي تكون مسؤولة عن أفعالها أمام نفسها، وفي رأيه: "يجب أن ينفس عن المرأة من ضائقة سجنها لتفهم أنّ لها كياناً مستقلاً، وحياة ذاتية، وأنّها مسؤولة عن ذنوبها وآثامها أمام نفسها وضميرها، لا أمام الرجل".

وفي علاقة المرأة مع الرجل، يؤكّد المنفلوطي على قيمة الزواج كناظم لهذه العلاقة، وصائن لها من تقلبات الطبيعة البشرية واضطراب عواطفها، ما يمكّنها من أن تكون الإطار الذي تتكون فيه الأسرة، فيقول في "النظرات": "الله وضع قاعدة الزواج الثابت، ليهدم به قاعدة الحبّ المضطرب، وأمر الزوجين أن يعتبرا هذا الرباط رباطاً مقدساً؛ حتى يحول بينهما وبين رجوعهما إلى طبيعتهما، وذهابهما في أمر الزوجية مذهبهما في المطاعم والمشارب من حيث الميل لكلّ جديد، والشغف بكلّ غريب".

كما أنّه يدين الرجل الذي يتزوّج المرأة طمعاً في مالها فيقول عنه: "إنّ الرجل الذي يتزوّج امرأة لمالها إنّما هو لصّ خائن".

وهو أيضاً يجلّ الأمومة ودورها الإنساني العظيم، فيقول في "النظرات": "سرّ الحياة الإنسانية، وينبوع وجودها، وكوكبها الأعلى الذي تنبعث منه جميع أشعتها ينحصر في كلمة واحدة هي قلب الأم".

اقرأ أيضاً: كشكول الريحاني: إذا شئت أن تعرف عدوك فتش عليه في نفسك

إنّ المرأة في نظر المنفلوطي جميلة بالقدر الذي تكون فيه ينبوع المسرة والترويح عن النفوس، وقادرة بما يكفي أن تفهم معنى الحياة كما يفهمه الرجل، وأن تعيش في حرية وتتحمل مسؤولية أفعالها أمام نفسها وضميرها.

لكن، مع ذلك، فهذا لا يقترن عنده بوجوب تحريرها اجتماعياً، وهو يؤنّب الداعين إلى ذلك من معاصريه، فيقول لهم في "العبرات": "ما شكت المرأة إليكم ظلماً، ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها، فما دخولكم بينها وبين نفسها، وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها، إنّها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم!"، ويحذّرهم من عواقب مطلبهم، متهماً إياهم بأنهم يطلبون المفخرة الخاصة حقيقةً، فيقول: "أبواب الفخر أمامكم كثيرة، فاطرقوا أيّها شئتم، ودعوا هذا الباب موصداً، فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلاً عظيماً وشقاءً طويلاً".

كتاب "العبرات" للمنفلوطي

ورغم دعوته الآنفة لإعطاء المرأة الحرية، التي تشكّل اعترافاً بأنها سجينة، نراه يقول في "العبرات": "عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها، راضية عن نفسها وعن عيشها، ترى السعادة، كلّ السعادة، في واجب تؤدّيه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربّها، أو عطفة تعطفها على ولدها، وترى الشرف، كلّ الشرف، في خضوعها لأبيها، وائتمارها بأمر زوجها، ونزلوها عند رضاهما..".

لا يمكن تحرير المرأة من سيطرة الرجل، قبل تحرير الرجل أولاً من طغيان موروثه الذكوري

وإضافة إلى ذلك؛ فهو يرفض مشاركة المرأة في المجتمع، واختلاطها بالرجال، فيردّ على القائلين: "إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها وعفّتها في حصن حصين لا تمتدّ إليه المطامع"، بقوله: "تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان"!

هذا الموقف يمكن أن يبدو رجعياً ومتناقضاً مع المواقف الجمالية والإنسانية من المرأة الآنفة الذكر، ومدعاة للتشكيك بمصداقية وثبات موقف المنفلوطي من حرية الإنسان نفسها، وهو القائل في "النظرات": "لا سبيل إلى السعادة في الحياة إلّا إذا عاش الإنسان فيها حراً مطلقاً، لا يُسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر، إلّا أدب النفس"، فهل يمكن للمرأة أن تكون سعيدة وهي محرومة من الحرية وخاضعة للرجل؟! وبأيّ حقّ ومنطق تُمنع من نيل حريتها، وهي شرط أساسي لتحقّق إنسانيتها، وفق أفكار المنفلوطي نفسه؟!

كتاب "النظرات" للمنفلوطي

هذا قد نجد تبريراً له في واقعية رؤية المنفلوطي لوضع مجتمعه الجاهل المتخلف، وانعدام أهليّة رجُله لحريته الخاصة فكيف بحرية المرأة؟! فهو يقول لدعاة تحرير المرأة في "العبرات": "هذّبوا رجالكم قبل أن تهذّبوا نساءكم، فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز!"، ويلومهم على اشتغالهم بكماليات المجتمع الأوربي المتقدم، البعيدة جداً عن حال الأمة الإسلامية الغارقة في الأمية: "رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها، فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء!"، ويحذّرهم من مخاطر محاولتهم إعطاء الرجل الشرقي غير المؤهَّل حريةَ الرجل الأوروبي المالك لما يكفي من الجدارة: "ورأيتم الرجل الأوروبي حراً مطلقاً، يفعل ما يشاء، ويعيش كما يريد؛ لأنّه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها، فأردتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيف الإرادة والعزيمة، يعيش من حياته الأدبية في رأس مُنحدرٍ زَلقٍ، إن زلّت به قدمُه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك، حتى يبلغ الهوّة ويتردّى في قرارتها".

المساواة ما تزال بعيدة عن التحقق وما تزال أكثرية الرجال ترى في المرأة عورة ناقصة العقل والدين

اليوم، قد يبدو أنّ الزمن قد تجاوز أفكار المنفلوطي في شيء؛ فالمرأة في مجتمعنا قد غادرت الحرملك واختلطت بالرجل، ودخلت الكثير من المجالات التي كانت حكراً عليه وحده، لكنّ المساواة ما تزال بعيدة عن التحقق، وما تزال أكثرية الرجال ترى في المرأة عورة ناقصة العقل والدين، وهم في هذا بعيدون بعداً شاسعاً عن منظور المنفلوطي الجميل النبيل لها وجدانياً وأخلاقياً!

لقد كان المنفلوطي على حقّ في دعوته لتهذيب الرجال أولاً؛ فلا يمكن تحرير المرأة من سيطرة الرجل، قبل تحرير الرجل من طغيان موروثه الذكوري، وتحريرهما معاً من التخلف الثقافي والمعرفي، ومن العسف والظلم على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعهما، وهذا ما يجب التركيز عليه عند مناصرة حقوق المرأة والسعي إلى تطوير المجتمع.

اقرأ أيضاً: المقريزي يحلل أسباب الفساد والغلاء


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية