هل المساواة في المواريث مسألة دينية؟

هل المساواة في المواريث مسألة دينية؟

هل المساواة في المواريث مسألة دينية؟


05/07/2023

نضع هذه المقاربة لمسألة المساواة في المواريث تحت السؤال، اعترافاً بمشروعية مقاربات أخرى مختلفة، سيما مقاربة الدكتور رضوان السيد؛ المفكّر الإسلامي المرموق، في نقده "مشروعَ قانون حقوق المرأة"، الذي أقرّه البرلمان التونسي مؤخراً، المقاربة التي أشار فيها إلى أنّ "مسألة الإرث مسألة دينية"[1]، هكذا، على وجه الإطلاق.

والدكتور السيد، يعرف أكثر منا أنّ مسألة الإرث متعلقة بالملكية الخاصة، ومقترنة بها اقتران المعلول بعلّته، واقتران النتيجة بأسبابها، ومن ثم؛ فهي مسألة قديمة قدم الملكية الخاصة، وسابقة على ظهور الديانات التوحيدية، على الأقل، إن لم تكن سابقة على ظهور العقائد الدينية، وسابقة على اللاهوت، بالمعنى الدقيق للكلمة، وقد تنوّعت أشكالها، واختلفت على مرّ الزمن؛ لذلك لا نرى وجهاً منطقياً وتاريخياً للقول إنّها مسألة دينية، بإطلاق.

اقرأ أيضاً: المساواة في الميراث: هل تؤرق تونس الأزهر؟

لا مراء، ولا جدال، في أنّ الإسلاميين عموماً والمفكرين الإسلاميين خصوصاً، يعدّون مسألة المواريث مسألة دينية، وهذا من حقّهم، لكنّ مقالات الإسلاميين واجتهادات المفكرين غير ملزمة للبرلمانات والحكومات والدول، وغير ملزمة لعامة المسلمين أيضاً، إلا من يريدون أن يلزموا أنفسهم بها، وهذا من حقّهم أيضاً؛ إذ "لا إكراه في الدين"، ومن يُلزم نفسه يظلّ حراً.

إنّ مسألة الإرث متعلقة بالملكية الخاصة ومقترنة بها وسابقة على ظهور الديانات التوحيدية

من يراجع نصّ القانون، موضوع هذا النقاش، سيجد أنّه لا يلزم المالك الأصلي بمساواة الإناث بالذكور؛ إذ "يُعطي ربّ الأسرة، أو المالك الأصلي الحقّ في قبول المساواة أو رفضها، (مقترباً) بذلك من القانون المدني الفرنسي وبقية القوانين المدنية الغربية"، بحسب ملاحظة الدكتور السيد نفسه.

ومع هذا، يرى الدكتور السيد، كما يرى كثيرون غيره؛ أنّ "القانون سيتسبّب بنزاعاتٍ لا حصر لها؛ لأنّ معظم المتدينين (بمن فيهم النساء) سيرفضونه، خاصة لأنهم يفضلون قسمة القرآن الكريم على قسمة والدهم، أو قسمة نائلة سيليني وزميلاتها وزملائها، أو أي شخص آخر".

اقرأ أيضاً: المرأة العاملة والمساواة الزائفة

هذه الحجة على القانون ساقطة من تلقاء ذاتها؛ لأنّ القانون منح المالك الأصلي وورثته حرية القبول وعدم القبول، بحسب قول السيد نفسه، وهذا عين العدالة. القانون هنا، لا يأمر بالعدالة أو بالمساواة في الميراث؛ بل ينهي عن الظلم والحيف، فإذا لم يشعر الورثة بظلم المورِّث "يا دار ما دخلك شر"، كما يقال في مثل هذه الأحوال، وإن شعر أحدهم، أو شعرت إحداهنّ بالظلم والحيف؛ فالقانون هو من ينتصف له أو لها. العدالة هنا إنصاف؛ فالقانون في نصّه وروحه لم ينف "قسمة القرآن الكريم" (المختلف عليها بين المذاهب الإسلامية)، فكيف سيتسبّب قانون عادل "بنزاعات لا حصر لها"؟ ومن المهم أن نلاحظ أن الوارثات اللاتي يفضلن "قسمة القرآن الكريم"، يكنَّ قد اخترن ذلك اختياراً، في حال وعيهن بحقوقهن ومعرفتهن بهذا القانون (ومن واجب المورِّث أن يعرفهن به)، وهذا أدعى إلى سلامة العلاقات الإنسانية بين الورثة من الذكور والإناث.

إنّ اعتبار الدين الخاص بجماعة معينة هويةً لمجتمع ودولة هو ما يتسبّب في نزاعات لا نهاية لها

لذلك؛ نرى في هذا القانون تعبيراً حقوقياً عن الحرية، ومقصداً اجتماعياً نبيلاً، قوامه الاعتراف المتبادل بالحقوق، وأفضلية التعامل وفق مبدأ المحبة، التي تعلو على العدالة، فحين تعرف البنت أو الأخت أن لها حقاً مساوياً لحق أخيها في الميراث، وأحبت أن تتنازل له عن حقّها، كلّه أو بعضه، دونما قسر أو إكراه، تكون قد مارست حريتها الشخصية، وتعاملت مع أخيها أو أخوتها وفق مبدأ المحبة والإيثار، والمحبة هي قوام إنسانية الأسرة وممكناتها الأخلاقية، وشرط تماسكها وتعاون أفرادها، بخلاف علاقات التسلط والوغدنة والقهر.

لا بدّ من الاتفاق مع السيد، ومع سائر الإسلاميين، والمسلمين، في أنّ مساواة النساء بالرجال في الإرث مخالفة لنصّ قرآني صريح، وكذلك قانون تجريم العنف الأسري واغتصاب الأزواج لزوجاتهم؛ بل إنّ مبدأ المساواة ذاته مخالف لنصوص قرآنية كثيرة، بخلاف ما يذهب إليه السيد في تأويل الآية التي تقول: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾؛ إذ أوَّل التقوى بـ "الاعتراف"[2] المتبادل بين البشر بالمساواة والتكافؤ، لإخفاء صيغة التفضيل ومعيار التفضيل.

اقرأ أيضاً: نساء يدخلن التاريخ لمطالبتهن بالحرية والمساواة

لكنّ الأحكام القرآنية، التي تخصّ المتدينين من جماعة المسلمين شيء، والقوانين المدنية، التي تقرها هيئة تشريعية منتخبة، وتسري على جميع مواطنات الدولة المعنية ومواطنيها بالتساوي، شيء آخر. هنا نضيف صوتنا إلى صوت السيد؛ الذي يشير إلى تناقض قانون حقوق المرأة مع واحدة من مواد الدستور التونسي، التي تقول: "الإسلام دين الدولة"، ومن ثمّ؛ ليس "قانون حقوق المرأة" هو الذي يمكن أن يتسبب بنزاعات لا حصر لها، بل الدستور التونسي هو الذي يمكن أن يتسبب بنزاعات بين إسلاميين وعلمانيين، ولا سيما الغلاة من أولئك وهؤلاء؛ لأنّ هذه الصيغة الدستورية، التي تنفي الصفة السياسية عن الدولة، وتنفي عنها الصفة الوطنية أيضاً، نعني صفة العمومية، هي نتاج تسوية ملغَّمة بين قوى سياسية، بعضها قوى عقائدية لا يمكن أن تعترف بالمواطنة المتساوية لجميع المواطنات والمواطنين.

القانون هنا لا يأمر بالعدالة أو بالمساواة في الميراث بل ينهي عن الظلم والحيف

وقول السيد: إنّ "الإسلام في تونس، وفي سائر الدول ذات الأكثرية الإسلامية والتاريخ الإسلامي؛ هو عمادُ هوية المجتمع، وجزءٌ معتبرٌ في هوية الدولة، وينبغي أن يظلّ معتبراً بالفعل في إدارة الدولة"، إنما يصبّ الماء في طاحونة غلاة الإسلاميين، فهل يقبل السيد والمسلمون السنّة، في لبنان، أن تكون الدولة اللبنانية دولة مسيحية أو شيعية، مثلاً، إذا كان الدين عمادَ هوية المجتمع وجزءاً معتبراً في هوية الدولة؟!

ما نزال نعتقد أنّ اعتبار الدين الخاص بجماعة معينة، أو العقيدة الخاصة بجماعة معينة، أكثرية كانت هذه الجماعة أم أقلية، هويةً لمجتمع ودولة هو ما يتسبّب في نزاعات لا نهاية لها. من ذلك اعتبار القومية العربية أو الاشتراكية هوية للمجتمع السوري والدولة السورية، على سبيل المثال.

وما نزال نعتقد أنّ المجتمع المعافى هو المجتمع الذي يشرِّع لنفسه، ويتمكن من حلّ جميع مشكلاته بالأساليب السلمية.

هوامش:

[1] - رضوان السيد، الشرعية الإسلامية في المجتمع والدولة، جريدة الشرق الأوسط، على الرابط:

الشرعية الإسلامية في المجتمع والدولة

[2] - رضوان السيد، إشكالية الحوار في مجتمعاتنا ومعوقاته، موقع الدكتور رضوان السيد، على الرابط:

إشكالية الحوار في مجتمعاتنا ومعوِّقاته

الصفحة الرئيسية