ناجون من صبرا وشاتيلا: بقروا بطن الحامل بالسكاكين ووضعوا الجنين على يدها

فلسطين والاحتلال

ناجون من صبرا وشاتيلا: بقروا بطن الحامل بالسكاكين ووضعوا الجنين على يدها


17/09/2018

ما يزال الجرح أخضر، وما تزال الدماء تروي أبشع جريمة ارتكبت بحق الآمنين العزّل في مخيم يدعى "صبرا وشاتيلاً" للاجئين الفلسطينيين بلبنان كان يسكنه 20 ألف لاجئ. استمرت المذبحة، التي صادفت ذكراها أمس الأحد، التي نفذتها المجموعات الانعزالية اللبنانية، المتمثلة في حزب الكتائب اللبناني، وجيش لبنان الجنوبي، بإشراف وتخطيط الجيش الإسرائيلي، في 16 أيلول (سبتمبر) عام 1982 على مدار ثلاثة أيام، حيث دخل القتلة المخيم، وتركوا ذكرى سوداء مأساوية وألماً لن تمحوه الأيام والسنين من نفوس الذين نجوا من المجزرة، علماً بأن عدد شهداء المجزرة بلغ ما بين 3500 و5000 شهيد من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل من السلاح.

مذبحة صبرا وشاتيلا نفذتها المجموعات الانعزالية اللبنانية المتمثلة في حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي بإشراف وتخطيط الجيش الإسرائيلي

وعن المجزرة المروعة كتب الشاعر محمود درويش في قصيدة "مديح الظل العالي": "صبرا.. تقاطع شارعين على جـسد، صبرا.. نزول الروح في حجر، وصبرا لا أحد، صبرا هوية عصرنا حتى الأبد".

ووصف الفنان سميح شقير المجزرة: "بيروت المجزرة الكبرى، ودم الأطفال نبيذ في الأرض السكرى، دخل النازيون شاتيلا وصبرا، صلبوا الأحياء على جدران الموت، وكان رصاص يحصد آلاف الأرواح، ويحرمهم قبرا".

الذين نجوا من المجزرة رووا مشاهد التوحش، وأبصروا الرعب الذي لا يمكن احتماله، وقالوا ما استطاعت أن تلتقطه حواسهم، لتكون الرواية شاهداً على جريمة يندى لها الجبين، تعرض لها الفلسطينيون الذين تتآمر قوى الشر، الآن، على مستقبل بلادهم التي رصعتها قوافل الشهداء بالدم والأناشيد والمجد، والتمسك بالحق التاريخي في الأرض التاريخية الممتدة من البحر إلى النهر.

عدد شهداء المجزرة بلغ ما بين 3500 و5000 شهيد

الناجي من المذبحة ماهر علي

يقول الفلسطيني الناجي من المذبحة ماهر علي: "رأيت عشرات الجثث أمام الملجأ القريب من بيتنا. ظننت في البداية أنّ القصف قضى عليهم. بدأ القصف بعد مقتل بشير الجميل، كنا في المخيم خائفين من قدوم الكتائب والانتقام منا، لم ننم تلك الليلة وكان الحذر يلف المخيم".

اقرأ أيضاً: الذكرى السبعون للنكبة: الاحتلال يحتفل في القدس ويرتكب مجزرة في غزّة!

ويصف مرعي ما حدث ليلة السادس عشر من أيلول 1982، عشية المذبحة، كما تناقلت روايته وسائل إعلام ومواقع تواصل اجتماعي، استقينا منها وقائع هذا التقرير: "رأيت الجثث، أمام الملجأ مربوطة بالحبال لكنني لم أفهم، عدت إلى البيت لأخبر عائلتي، لم يخطر في بالنا أنها مجزرة، فنحن لم نسمع إطلاق رصاص، أذكر أنني رأيت كواتم صوت مرمية قرب الجثث هنا وهناك، ولكنني لم أدرك سبب وجودها إلا بعد انتهاء المجزرة. كواتم الصوت "تتفندق" بعد وقت قصير من استخدامها، ولذا يرمونها. بقينا في البيت ولم نهرب حتى بعد أن أحسسنا أنّ شيئاً مريباً يحدث في المخيم.

جثث تسد مدخل الملجأ

رفض والدي المغادرة بسبب جارة أتت للمبيت عندنا، وكانت أول مرة تدخل بيتنا. زوجها خرج مع المقاتلين على متن إحدى البواخر ولم يكن لديها أحد، فقال أبي لا يجوز أن نتركها ونرحل. كان اسمها ليلى. كانت الجثث التي رأيتها أمام الملجأ لرجال فقط. ظننا أنا ووالدي أنّ الملجأ كان مكتظاً فخرج الرجال ليفسحوا المجال للنساء والأطفال بالمبيت وأخذ راحتهم، فماتوا بالقصف.

اقرأ أيضاً: "حفريات" تزور "بحر البقر" في ذكرى المجزرة الصهيونية: للحكاية بقية

كنت ذاهباً يومها لإحضار صديقة لنا - كانت تعمل مع والدي - تبيت في الملجأ. كانت تدعى ميسر. لم يكن لها أحد هي الأخرى. كان أهلها في صور أراد أبي أن يحضرها لتبيت عندنا. قتلت في المجزرة مع النساء والأطفال. رأيت جثتها فيما بعد في كراج أبو جمال الذي كان الكتائبيون يضعون فيه عشرات الجثث، بل المئات. كان المشهد لا يوصف!!! عندما دخل الإسرائيليون إلى بيروت الغربية كنا نعتقد أنّ أقصى ما قد يفعلونه بنا هو الاعتقال وتدمير بيوتنا، كما فعلوا في صور وصيدا وباقي الأراضي التي احتلوها.

هكذا قتل المتوحشون أختي: كانت حاملاً عندما قتلوها. بقروا بطنها وفتحوه بالسكاكين وأخرجوا الجنين منه ثم وضعوه على يدها

أذكر أنني ذهبت صباح يوم المجزرة - وكان يوم الخميس في 16 أيلول - مع مجموعة كبيرة من النساء والأطفال لإحضار الخبز من منطقة الأوزاعي سيراً على الأقدام (كان عمري 14 عاماً). كنا "مقطوعين" من الخبز وليس لدينا ما نأكله.

عدنا إلى المخيم فلم نستطع الدخول، إذ كانت الطرقات المؤدية إلى المخيم جميعها مقطوعة، وكان الإسرائيليون يقنصون باتجاه مدخل المخيم الجنوبي.

عند تقاطع هذا المدخل وبئر حسن، كان هنالك قسطل مياه مكسور، وكان أهالي المخيم يعبئون منه الماء رغم القنص. رأيت عند قسطل المياه إسرائيلياً من أصل يمني يقتل فتاتين فلسطينيتين، لأنهما وبختا فلسطينياً أرشد الإسرائيلي إلى الطريق التي هرب منها أحد الذين يطاردونهم، هكذا قالت أم الفتاتين التي كانت معهما وهربت عند بدء إطلاق الرصاص. حاول أهل المخيم سحب الفتاتين فقتل رجلان وهما يحملان جثتيهما، بعدما قنصهما الإسرائيليون، ثم ما لبث أهل المخيم أن سحبوهما بالحبال".

اقرأ أيضاً: أمريكا تشارك الاحتلال الصهيوني في مجزرة الإثنين الأسود

"يتابع ماهر علي: "عندما أخبرت والدي عن الجثث، طلب منا أن نلزم الهدوء، وألا نصدر أي صوت. تتألف عائلتنا من 12 شخصاً، ستة صبيان وأربع بنات وأبي وأمي. كان أخواي محمد وأحمد خارج البيت وهما أكبر مني سناً. الباقون كانوا في البيت وكانت جارتنا ليلى عندنا. قرابة الفجر، صعد أخي إلى السطح مع ليلى كي تطمئن على بيتها. كان النعاس قد غلبنا أنا وأبي، إذ بقينا ساهرين ننصت إلى ما يجري في الخارج ونسكت أختي الصغيرة التي كانت تبكي من وقت لآخر. لم نشعر بصعود ليلى وأختي إلا عندما نزلتا.

ماهر علي: رأيت عشرات الجثث أمام الملجأ القريب من بيتنا

ما هي إلا لحظات

كانتا خائفتين فقد رآهما المسلحون. ما هي إلا لحظات حتى بدأنا نسمع طرقاً عنيفاً على الباب. عندما فتحنا لهم أخذوا يشتموننا وأخرجونا من البيت ووضعونا صفاً أمام الحائط يريدون قتلنا.

أرادوا إبعاد ليلى، إذ ظنوا أنها لبنانية لأنها شقراء، وأبعدوا أختي الصغيرة معها لأنها شقراء هي الأخرى، وظنوا أنها ابنة ليلى! رفضت ليلى تركنا، أخذت أختي تصرخ وتمد يديها إلى أمي تريد الذهاب معها، كان عمرها أقل من سنتين وكانت ما تزال تحبو. في تلك اللحظة، كان جارنا حسن الشايب يحاول الهرب خلسة من منزله، فأصدر صوتاً وضجة أخافتهم. كان هناك شاب من بيت المقداد يطاردهم ويطلق عليهم النار ويختبئ، كان اسمه يوسف، لمحته تلك الليلة عدة مرات، أعتقد أنهم ظنوا في تلك اللحظة أنّ الضجة صادرة عنه، لذا أدخلونا إلى البيت وهم يكيلون لنا الشتائم، طلبوا من والدي بطاقة هويته، وما إن أدار ظهره ليحضرها حتى انهال الرصاص علينا جميعاً كالمطر. لم أعرف كيف وصلت إلى المرحاض واختبأت فيه، وفي طريقي إلى المرحاض وجدت أخي الأصغر إسماعيل فأخذته معي وأقفلت فمه. رأيت من طرف باب المرحاض كل عائلتي مرمية على الأرض، ما عدا أختي الصغيرة. كانت تصرخ وتحبو باتجاه أمي وأختي، وما إن وصلت بينهما حتى أطلقوا على رأسها الرصاص فتطاير دماغها وماتت. إسماعيل وأنا لم نتحرك.

اقرأ أيضاً: ممثلة تدين مجزرة غزة في مهرجان كان السينمائي

بدأت أتفقد عائلتي. والدتي تظاهرت بداية بالموت وكذلك أختاي نهاد وسعاد، ظنّاً منهما أنني كتائبي. ولكن والدي وباقي إخوتي الخمسة وليلى كانوا جميعاً أمواتاً، كانت أمي مصابة بعدة طلقات وكذلك نهاد وسعاد. أمي ونهاد تمكنتا من الهروب معي وإسماعيل، بينما سعاد لم تستطع لأنّ الطلقات أصابت حوضها وشلت".

الناجية من المذبحة أم غازي

الناجية الأخرى من المذبحة "أم غازي" تروي فظائع أخرى من هول ما جرى، متابعة قصة ماهرعلي: "سنوات طويلة مضت على المجزرة. كأنها البارحة. قالت أم غازي التي فقدت أحد عشر شخصاً من أفراد عائلتها: "أنا لم أنس كي أتذكر والجرح ما زال ينزف. عندما جاء المجرمون إلى بيتي كنا نقيم ذكرى أربعين ابنتي. كانت قد توفيت في المبنى الذي قصفه الإسرائيليون في منطقة الصنائع، وكان مقراً لأبو عمار.

اقرأ أيضاً: المعارضة الإيرانية تفضح مرتكبي مجزرة 1988

جاء أفراد عائلتنا من صور للمشاركة في ذكرى أربعين ابنتي وكانوا جميعاً هنا، نساء ورجالاً. لم نكن نسكن في هذا البيت بل في الحي الغربي المتاخم لشارع المخيم الرئيسي. كان يوم جمعة. قتل يومها إخوتي وأولادي وزوجي وأصهرتي. عندما دخلوا علينا كانوا اثني عشر مسلحاً، يحملون البنادق والبلطات والسكاكين، لم نكن نعرف بالمجزرة بعد. كان الباب مفتوحاً والبيت مزدحماً بالنساء والأطفال والرجال.

الناجي محمد أبو ردينة كان في الخامسة من عمره عندما حدثت المجزرة (تعبيرية)

"مشينا على الزجاج المحطم والشظايا"

فصلوا الرجال عن النساء والأطفال. كانوا سيأخذون ابني محمود وكان يومها في الثامنة من عمره. قلت لهم "هذه بنت" فتركوه. اقتاد أربعة منهم النساء والأطفال باتجاه المدينة الرياضية، وبقي الرجال في البيت تحت رحمة الآخرين. أخرجونا من المنزل حفاة. مشينا على الزجاج المحطم والشظايا. في الطريق تعثر ابني بالجثث المذبوحة والمرمية هنا وهناك، وكان يحمل أخته الصغيرة. صرخت قائلة "باسم الله عليك"، فانتبه المسلح وقلت له وهو ينتزعه من بين يدي: "دخيلك. لم يبق لي غيره". طلبت منه أن يقتلني بدلاً منه. أتوسل وأتوسل، لكنه يصر على قتله. قال إنه يريدني أن أعيش بالحسرة والحزن طيلة عمري. وبينما أنا أتوسله وأرتمي على بندقيته وأديرها عن ابني، وضع يده خطأ على صدري. كنت أخبئ في "عبي" اثني عشر ألف ليرة فانتبه وسألني ماذا أخبئ. قلت "إذا أعطيتك إياهم تعطيني ابني، فقال نعم. طلبت منه أن يقسم بشرفه، ففعل (! ! ! !) أعطيته المال وأخذت ابني الذي كان يرتجف من الخوف. منذ ذلك اليوم ظهرت خصلة بيضاء في شعره".

جاءوا صباحاً وأخرجونا من البيت، وضعوا الرجال أمام الحائط وانقضوا عليهم بالبلطات. وانهمر عليهم الرصاص كالمطر

الناجية شهيرة أبو ردينة تضيف إلى ما قالته أم غازي: "كنا في الغرفة الداخلية نختبئ من القصف لأنها أكثر آماناً وبعيدة عن الشارع. بقينا فيه حتى الصباح. كنا نسمع أثناء الليل صراخاً وإطلاق رصاص. عرفنا حينها أنهم يقتلون الناس. كانوا يتراكضون في الأزقة القريبة من بيتنا، فلم نجرؤ على الخروج. عند الفجر، خرجت أختي لتتفقد الحي وترى ماذا يجري.

ما إن أصبحت في الخارج حتى صرخت "بابا" بصوت مرعب ثم سمعنا إطلاق الرصاص. خرج والدي وراءها فقتل أيضاً. (وجدت جثة أخت شهيرة في ما بعد مربوطة إلى النافذة وكانت منتفخة جداً، وكان عمرها 17 عاماً). أخي كان في الرابعة والعشرين من عمره. وزوجي في الثالثة والعشرين وابن عمي في الأربعين، أما والدي فكان في الستين، جميعهم قتلوا. جاءوا صباحاً وأخرجونا من البيت، وضعوا الرجال أمام الحائط وانقضوا عليهم بالبلطات. وانهمر عليهم الرصاص كالمطر ثم اقتادونا إلى الشارع الرئيسي وكنا نساء وأطفالاً فقط. وضعونا أمام الحائط، وما إن هموا بقتلنا حتى سمعنا إسرائيلياً يصرخ بالعبرية.  لم نفهم ما يقول، لكنهم هم فهموا وتوقفوا عن قتلنا بعدما تحدثوا معه بالعبرية. عندها أخذونا إلى المدينة الرياضية وحبسونا عند الإسرائيليين في غرفة صغيرة، وكانوا طيلة الوقت جالسين معنا يشحذون البلطات والسكاكين".

اقرأ أيضاً: الحوثيون يرتكبون مجزرة جديدة في مأرب

الناجي محمد أبو ردينة ابن عم شهيرة، وكان في الخامسة من عمره عندما حدثت المجزرة، يروي كيف قُتل يومها والده وصهره، وكيف قتل المتوحشون أخته: "كانت حاملاً عندما قتلوها. بقروا بطنها وفتحوه بالسكاكين وأخرجوا الجنين منه ثم وضعوه على يدها. والدي قتل أمام بيت شهيرة ابنة عمه. كنا نختبئ تلك الليلة في بيت عمي. أنا وأمي وأختي اقتادونا مع الباقين من نساء والعائلة وأطفالها إلى المدينة الرياضية وحاولوا ذبحنا على الطريق. كنت صغيراً ولم أع ما يحدث لنا. لم أع، إلا أنني كنت خائفاً جداً".

الصفحة الرئيسية