ورود تونس تذبل في شوارع ثورة "الياسمين"

تونس

ورود تونس تذبل في شوارع ثورة "الياسمين"


26/09/2018

قد لا تصحّ دائماً مقولة إنّ "فاقد الشيء لا يعطيه"، فهو يعطيه أحياناً وببذخ، تماماً كما ينشر بائعو الورود بتونس في شارع "الحبيب بورقيبة، أو "شارع الثورة"، السعادة في باقة ورد صنعتها أيديهم التي أدماها شوكه، ويلونونها بفرح كاد أن ينطفئ لديهم من شدة ركود مهنتهم منذ ثورة "الياسمين" العام 2011.

يقول لطفي لحمر (58 عاماً) في حديثه لـ "حفريات"، إنّ الناس هجرت الورود؛ لأنّ الأوضاع الاقتصادية أرهقتهم، لدرجة أنّ شراء الخبز نفسه أصبح صعباً.

اقرأ أيضاً: تحذيرات من إفلاس تونس على وقع صراع بين الحكومة والنقابات

ويضيف وهو ينظف وروده، وكلّما ينتهي من وردة يمسك التي تليها: "تراجعت المبيعات كثيراً، منذ العام 2011، ولم يعد الورد يستهوي الزبائن، ونحن لا يمكننا إجبار الناس على محبة الورد، فغالبية الزبائن يأتون إلى هنا مدفوعين بالحاجة إلى الورد لتأثيث الديكور أو عيادة مريض، القليلون فقط يتبضعون الورد باعتباره جزءاً من ثقافتهم".

ويتابع: ''الأزمة مسّت الجميع، فالزهور كانت من الكماليات والآن أكثر من أي وقت مضى، فحتى الورود التي كانت تتزين بها مواكب الأعراس خلال فصل الصيف تراجعت مداخيلها، وأصبح العديد من أصحاب الأعراس يكتفون ببضعة زهور، وأحياناً دون زهورٍ إطلاقاً''.

ورداً على سؤالٍ حول رزقه اليومي، يقول: "كل يوم ورزقه، لكن الأكيد أنّ ستّين بالمائة من كميات الورد التي نشتريها تذبل في أكشاكنا ونرميها، وكمية أخرى تصلنا غير صالحة للبيع فنرميها دون عرضها للبيع، رغم أنني أبيع الوردة بدينار واحد (0.36 دولار) فقط".

متجر "لطفي لحمر" بائع الورود في تونس

بائع الورود الآخر، بالقرب من محطة "تونس البحرية" نهاية شارع الحبيب بورقيبة، بلال بن صالح (36 عاماً)، الذي ورث المهنة أباً عن جد، يؤكد أنّ بيع الورد في تونس تراجع كثيراً بعد الثورة، بسبب عدم تنظيم القطاع، وإعطاء رخصٍ لمن أطلق عليهم "دخلاء" على المهنة، مما تسبب في تشتت الزبائن بين كثرة الأكشاك المخصصة لذلك".

استحضر الباعة الذين حاورتهم "حفريات" صورة الورود التي زيّنت "شارع الحبيب بورقيبة" حين تجمع التونسيون لطرد زين العابدين

وأشار إلى أنّ سعر الوردة الواحدة تضاعف منذ الثورة، وارتفع من 800 مليم (0.28 دولار) إلى دينارين، (0.72 دولار) بسبب غلاء المعيشة الذي حتمته أحداث الثورة، وأزمة الاقتصاد التونسي.

ويبدو أنّ الفرق شاسع بين شراء وردة هدية لأم أو حبيبة، والعمل في محل تجاري من السابعة صباحاً إلى حدود العاشرة والنصف ليلاً مقلماً أشواك الورود، مع قضاء ساعات طوال في إعداد باقات تصلح لعيادة المرضى أو لحفلات الخطوبة والأعراس، فبلال لا يهدي ورداً، لأيٍ من أفراد أسرته، ولم يفكّر في ذلك يوماً، وكلما فكّر في إهداء شيء ما، بحث بعيداً عن وروده، خوفاً من أن يستهينوا بهديته.

"الورود كائنات رقيقة لا يمكنها الانتظار"

في الجهة المقابلة، يقف ثابت الغرياني (50 عاماً)، منهمكاً في تصفيف وروده وتزيينها، غير مُبالٍ بأشعة الشمس، تربطه علاقةٌ خاصة بوروده. يخبر الغرياني "حفريات"، بأنه قضى حوالي 30 عاماً بين الورود وخبِرها جيداً، وعرف أنها كائنات حية تنبض بالحب والحياة، لذلك يعتمد تصفيفها على الإحساس في المقام الأول، لأنّ تحقيق الانسجام بين مجموعة متنوعة من الورود ليس أمراً سهلاً، بل يحتاج إلى نوع من الذوق الفني، بحيث تكون المخرجات عبارة عن أعمال فنية مبدعة".

يشير البعض إلى أنّ أصل تسمية ثورة الياسمين يعود لكونها ثورة ناعمة كالورد

وتابع الغرياني: "بضاعتنا رقيقة ولا يمكنها الانتظار طويلاً، ففي معظم الأحيان نضطر لرمي كميات كبيرة منها، أولاً لأنها لا تقاوم أكثر من أسبوع في أكشاكنا حتى تذبل، ثانياً لأن الإقبال عليها تراجع كثيراً حتى أن بعض الحرفاء يلتجئون أحياناً لشراء الورد الاصطناعي، لأنهم يرون أنه يدوم أكثر، فضلاً عن كونه أرفق من حيث سعره".

حسان بن ضيف (35 عاماً) كان جالساً على كرسي صغير، يرقب المارة من محل ورود صغير كتب أعلاه اسم محله ورقم هاتفه، تحدّث لـ"حفريات" عن عشقه لهذا العمل اليومي. وفجأة استدرك ليتحدث عن التراجع الواضح الذي شهده قطاع بيع الورود في الأعوام الأخيرة، وعزا ذلك إلى غلاء المعيشة ومحدودية القدرة الشرائية للمواطن، فضلاً عن تغيير مكان محلات بيع الورود من وسط شارع الحبيب بورقيبة إلى آخره .

وأكد حسان أنّ النجاح في هذه المهنة يعتمد في الأساس على "التواصل مع الزبائن والنجاح في إرضائهم والقدرة على التعرّف على الاتجاهات والأذواق المختلفة".

الياسمين رمز لثورة تونس

ويشكّل الياسمين ورائحته جزءاً من صورة تونس، وأحد رموزها، وهو الذي اختاره التونسيون دون سواه إسماً لثورتهم التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، الذي حكم البلاد بيد من حديد لمدة 23 عاماً.

إنتاج الورد في تونس أصبح قطاعاً تصديريّاً واعداً حيث تشحن يومياً آلاف الورود عبر تونس لتصل أسواق أوروبا

وتمثّل سرّ "الياسمين" في الثورة التونسية، في مدى تناسق الهبّة الشعبية التي تفجّرت في وقت واحد وزمن واحد وبتنسيق نادر كان أحد أبطاله مواقع التواصل الاجتماعي، التي مثّلت غرفة التحكم، إلى جانب تمازج إرادة جامعة على حماية البلاد والأرواح ومنع انهيار الدولة.

ويشير بعض الكتاب إلى أنّ أصل التسمية يعود إلى كونها ثورة ناعمة تشبه الورد وسريعة ومرحب بها من جميع دول وشعوب العالم كرائحة الياسمين.

واستحضر جل الباعة الذين حاورتهم "حفريات" صورة الورود التي زيّنت "شارع الحبيب بورقيبة"، حين تجمع التونسيون لطرد الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، خلال الأيام الأولى للثورة، والإقبال الكثيف على شراء ورودهم لإهدائها لعناصر الجيش التونسي الذي وقف إلى جانب الشعب وحماه.

بلال بن صالح بائع ورود في شارع الحبيب بورقيبة

وأكدوا أنّها كانت المرة الأخيرة، التي اهتم فيها التونسيون بالورد، واشتروه بكميات كبيرة، واعتبر بعض أهل الخبرة أنّ "السّلطات التونسية قست على تجار الورد بعد أن أجبرتهم على نقل محلاتهم التي كانت تحتل الرصيف الأوسط لشارع الحبيب بورقيبة، إلى نهاية الشارع بسبب التوسعات التي يجري تنفيذها في قلب العاصمة، ممّا أدّى إلى تشتت التجار وهجرة البعض الآخر إلى "الأحياء الجديدة" في ضواحي العاصمة لا سيما الرّاقية منها، مما جعل تجارتهم موسمية بعد أن كان المارة يقبلون على مدار السنة على اقتناء الورود"، وفق ما ذكره صاحب محل بيع الورود لطفي لحمر لـ "حفريات".

قطاع تصديري واعد رغم غياب الدّعم

وتشير معطيات نشرت في العام 2015 إلى أنّ حصّة تونس من الورود في السّوق العالميّة تقدّر بنحو 1000 طنّ سنويّاً، حيث يوفّر القطاع عائداتٍ سنويّة بقيمة 700 مليون دينار، كما تؤكّد المؤشّرات الرقميّة أنّ أصحاب المزارع المختصّة في إنتاج الورد يوجّهون 60 بالمائة من منتوجاتهم إلى السّوق الأوروبيّة فيما يتمّ تزويد السّوق المحليّة ببقيّة الكميّات.

اقرأ أيضاً: توسع تركي على حساب الاقتصاد التونسي المنهك

ويؤكّد قريس بلغيث، أمين مال اتحاد الفلاحة والصيد البحري، في تصريح لـ"حفريات"، أنّ إنتاج الورد في تونس أصبح قطاعاً تصديريّاً واعداً، حيث تشحن يومياً آلاف الورود عبر مطارات تونس المختلفة لتصل أسواق أوروبا، وكذلك بقيّة بلدان المتوسّط، لافتين إلى أنّ المنافسة ما تنفكّ حدّتها تتصاعد، خاصّة في ظلّ ريادة بعض البلدان العربيّة في تجارة وتزويد باقات الورود وحفظها للتصدير، وعلى رأس القائمة لبنان التي أصبحت تستثمر في المجال.

وبحسب عدد من أصحاب محلات بيع الورود، فإنّ هذه التجارة هي في المجمل "تجارة موسمية" ولا تنتعش إلا على مدى 3 أشهر من كلّ سنة، وتحديداً في فصل الصيف، وفي بعض المناسبات والأفراح.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية