جمال عبدالناصر يدير معارك الفيسبوك

جمال عبدالناصر يدير معارك الفيسبوك


02/10/2018

سعد القرش

الانفجار الإلكتروني نقل معاركنا من ساحات القتال إلى الشوارع والمقاهي والحارات والقرى والسيارات والحقائب الصغيرة وجيوب الثياب وقبضات الأيدي الجاهزة للطعن أو رفع علامة لنصر زائف.

هذا الانفجار هبط بسقف النقاش وحجم الأعداء إلى مستويات متدنية تفتقد شرف الخصومة وعدم الصبر على التسلح بالمعرفة، واستدعى إلى حروب الكلام متطوعين حمقى تحلو لهم المشاركة في ما ليس لهم به علم؛ فيجاملون بالتصفيق لطرف أو بالسباب لآخر. ولا تكاد سماء هذا الفضاء تصفو إلا لكي تبدأ حرب إلهاء أخرى لا يبقى منها أثر يغني الأطراف عن الانخراط في معركة تالية.

وقد اختص الزمن جمال عبدالناصر بأن يظل شاغل الناس في مواسم متصلة، ففي ذكرى ميلاده كانون ثاني (يناير) يفتتح العام برفعه إلى مصاف عظماء التاريخ، أو إطلاق خيالات مريضة تتمنى لو أن العالم خلا منه قبل مئة عام. وفي ذكرى الوحدة المصرية السورية التي لم يسعَ إليها شباط (فبراير) يُتهم بأن الزهو دفعه إلى أن يضيق بمصر ويراها صغيرة على طموحه فبحث عن أفق خارج حدودها.

وفي ذكرى الهزيمة حزيران (يونيو) يتوالى الرشق والاتهام فيحمّلونه مسؤولية خطايا خلفه من الرؤساء المصريين والعرب على السواء. وفي شهر تموز (يوليو) يتباكون على ليبرالية شغلت صفوة النخبة، ويحلو لهم الفخر بإعادة تعريف ما جرى ليلة 23 حزيران (يوليو) 1952 بأنه انقلاب، وهو مصطلح استخدمه الضباط، وسارع طه حسين بعد أسبوعين فسماه "الثورة"، في مقال نشرته صحيفة "البلاغ" في 5 آب (أغسطس) 1952، اعتز فيه بأن "مصر قد ضربت للعالم الحديث مثلاً رائعاً بثورتها.. المصريون جميعاً.. إنما يثورون اليوم ليحققوا الإصلاح الذي حال الطغيان والاستعمار بينهم وبين تحقيقه". وفي ذكرى الموت أيلول (سبتمبر) يستخرجون جثته فيتنازعها من يرغبون في تحنيطها بغلالات قداسة ومن يبحثون عن موضع سليم يكفي رصاصة طازجة. وفي ذكرى العدوان الثلاثي ينسون التحالف الصهيوني الغربي، ويلومون الرجل الذي غامر وأمّم القناة فاستفز المعتدين.

وقبل العصف الفيسبوكي الشعبوي، مرّ عبدالناصر بمراحل تؤرخ لدورة العقل العربي، ومصر في القلب منه بالطبع، ففي منتصف السبعينات أغرقت سوق النشر بمقالات وكتب ومذكرات حقيقية ومنتحلة يكفي البعض منها لشيطنة الرجل، ولكنه خرج من غبارها ورمادها أكثر قوة، والنموذج الصارخ الأكثر تمثيلاً لذلك هو كتاب “أيام من حياتي” المنسوب إلى الحاجة زينب الغزالي.

وفي مقال نشرته صحيفة الأهرام في 1 نيسان (أبريل) 2014 روى الدكتور محمد السعيد إدريس أن يوسف ندا، مفوض العلاقات الدولية في تنظيم الإخوان والمتهم في قضية محاولة اغتيال عبدالناصر عام 1954، زار رئيس حزب الوسط أبوالعلا ماضي، وعاتبه بشدة لدفاعه عن عبدالناصر.

وكان ماضي قد كتب في صحيفة العربي، لسان حال الحزب الناصري، مقالاً عنوانه "بيننا وبينكم الجنائز" يعيد فيه الاعتبار إلى عبدالناصر الذي يلعنه الإخوان ويكفرونه. وسأله ماضي عن مدى صدق روايات الإخوان عن تعذيبهم في سجون عبدالناصر، وخصوصاً زينب الغزالي في كتاب "أيام من حياتي"، فانفجر يوسف ندا ضاحكا وقال "أنا مؤلف هذا الكتاب".

ولم يكن ندا في مصر خلال قضية 1965 التي اتهمت فيها زينب الغزالي. فسأله أبوالعلا ماضي عمّا يدعوه إلى "تأليف" كتاب فيه تلفيق وكذب وينسبه إلى زينب الغزالي؛ "أليس هذا محرماً دينيا؟". ردّ يوسف ندا "اللي تغلب به إلعب به".

في تلك المرحلة نشر توفيق الحكيم كتابه "عودة الوعي"، وراجت مذكرات لجرحى الثورة، وبدأت موجة "أفلام الكرنكة" وكان رأس حربتها فيلم "الكرنك" عام 1975. بعد السكرة ذهب الزَّبد وجاءت الفكرة، وقدم المخرج السوري أنور القوادري فيلم "جمال عبدالناصر" عام 1998، وقبله بعامين قدم المخرج المصري محمد فاضل فيلم "ناصر 56" الذي فاجأ صناعه بنجاحه الجماهيري. 

لم تخل مرحلة ما بعد نشوة السكرة الإخوانية الساداتية من دراسات رصينة تقيّم تجربة عبدالناصر وتضعها في إطارها التاريخي، وتتحلى بموضوعية تسمح بتوجيه نقد قاس ومستحق إلى الأخطاء، وأولها الخوف من الديمقراطية ومصادرات الحريات السياسية أو تأجيلها انتظارا لحسم المعركة، فما يؤجل لأي سبب سيؤجل إلى النهاية، نهاية التجربة وصاحبها. ومع تلك الدراسات صدرت شهادات عاطفية بعضها لماركسيين من ضحايا معتقلات عبدالناصر وشعراء ارتقوا به إلى منزلة النبوة والولاية، من صلاح عبدالصبور والجواهري ونزار قباني، إلى فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم.

لا يخبو الهراء الفيسبوكي إلا لكي يشتعل ويعلو صوته بالتقديس أو الشتائم، ثم يسكن استعداداً لمعركة تالية. وتنتهي كل معركة بمنح الفرقاء إحساساً بالنصر. وفي هذا الضجيج لا أتخيل أحداً مسته فضيلة الشك وأعاد النظر في ما يؤمن به، فلا حقائق في التاريخ، وإن سهل في المشهد العام رصد ما يشبه حقيقة يختص بها عبدالناصر، وهي حضوره في الغياب واستدعاؤه من الموت للتعليق على قضايا عربية ومصرية، مثل العدوان التركي على سوريا، ورفض شروط صندوق النقد وعدم المساس بالمكاسب الاقتصادية للشعب، وفي الإصرار على التنازل عن تيران وصنافير المصريتين، جاء صوته يعلن “جزيرة تيران مصرية”، كأوجز ردّ على قول عبدالفتاح السيسي لممثلي الشعب يوم 13 نيسان (أبريل) 2016 "نستبيح أرضهم؟".

الخطأ الكبير في تجربة عبدالناصر هو الخطيئة الوحيدة التي نصرّ الآن على ارتكابها، منزوعة من مسوّغاتها، بعناد ثور هائج لا يتدبر العواقب. وقد شفع تقشفه الشخصي وإخلاصه الوطني، فاستحق غفرانا لخّصه قول أحمد فؤاد نجم:

“عمل حاجات معجزة/ وحاجات كتير خابت//  وعاش ومات وسطنا/ على طبعنا ثابت//  وإن كان جرح قلبنا/ كل الجراح طابت”.

فما الذي يشفع لاستبداد لا تستر عوراته كبرياء وطنية ولا مشاريع إنتاجية ولا عدالة اجتماعية؟ ربما تصدق فينا مقولة “الشيء الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم شيئا من التاريخ”.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية