نساء منسيات.. التاريخ بين الحجب والنسيان

نساء منسيات.. التاريخ بين الحجب والنسيان


15/10/2018

تثير عالمة الاجتماع المغربية، فاطمة المرنيسي، في عنوان كتابها "السلطانات المنسيات"، استشكالاً مقصوداً، واستهجاناً يفتح باب التساؤل المريب: كيف يكون السلطان منسياً في تاريخ جلّه تاريخ السلاطين، وتدوين أدب أوقفه الوراقون عند مشيئة السلطان وشهواته حتى صار آداباً سلطانية؟! ولا ينحلّ اللغز وينبسط الجواب إلا في استواء تاء التأنيث في آخر الاسم؛ فالمنسي هو الآخر، وهو الآخر المقصيّ إلى الهامش البعيد من دائرة الوجود المشغولة بحضور "الأنا"، أنا الذكورة المتضخمة، واحتلالها منه المتن والمركز.

إنّ إشكالية تحرير المرأة هي إشكالية سياسية إذ إنّ دونية المرأة لا تمت لحقيقة الإسلام كنصّ بل إلى الإسلام السياسي التاريخي

بوحي من هذا العنوان المدخل؛ تتقدم الباحثة في استنطاق التاريخ، لتكتشف أنّ التراث العربي الذي يحدّد عادة، ببداية، عصر التدوين، كان في مجمله إنتاجاً ذكورياً، بما في ذلك تفاسير القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، ولم يكن للمرأة أيّة مساهمة في إنتاج هذا التراث، وهو ما عطّل حضورها، وجعلها مؤطّرة باستمرار برؤية ذكورية جبروتية، ممّا يلقي على الباحث مسؤولية إعادة قراءة المتن التراثي، قراءة تاريخية "جديرة بأن تعطي المسلم عظمته الإنسانية، بإظهاره ليس كمطيع آليّ، إنما  ككائن مسؤول، قادر على رفض الطاعة، عندما يُؤمر أن يشوّه نفسه"، وبرؤية موضوعية، ونظر هادئ، تكشف عن التاريخ الآخر، التاريخ المحتجب والمستور والمغيب قسراً، تاريخ النساء والفلاحين والعبيد المهمشين، "بالذهاب إلى ما وراء إسلام الإمام (الخليفة) رئيس الجمهورية، تاريخ القصر وعلمائه، وبتجاوز إسلام الأسياد، وبالدخول -من أجل هذا العمل-إلى مناطق موحلة وقاتمة من الهامشية والاستثنائية"، هذا الانحياز المعلن إلى جانب الآخر المغيب، وتلك المسؤولية، هي ما كرست له فاطمة المرنيسي حياتها البحثية، على مدار نصف قرن؛ فكرياً وعملياً، وطبع إنتاجها بميسمه على طول هذا الخطّ، تحت ما اصطلح عليه كتعريف إجرائي  "الخطاب النسويّ"، وإن كان للمرنيسي فرادتها وتفرّدها في تأوليها للمقروء التراثي، تحت هذا المسمى العام، وما كتاب "السلطانات المنسيات-نساء رئيسات في دولة الإسلام"، موضوع الحديث هنا، إلا واحد من جملة موضوعات تشكّل سلسلة متواصلة من الأبحاث السوسيولوجية في السياق نفسه.

غلاف "السلطانات المنسيات" للكاتبة فاطمة المرنيسي

نزع الحجاب وتخطّي عتبة المحرّم

تحدّد الباحثة، قبل الدخول إلى منطقة المحظور، آليات عملها والتخوم الفكرية التي تقف عليها؛ إذ تعلن أنّ فعل القراءة الذي تمارسه فعلٌ غير محايد، كما تعلن نفسها مسلمة ملتزمة، وقراءتها هي "ردّ فعل واعٍ على عملية التجهيل الذي يستخدم باستمرار كسلاح ليس على النساء فحسب؛ بل على الجميع ممن يشعرون أنهم خارج التاريخ الرسمي وضحية له في وقت واحد"، وإنها في بحثها في التاريخ تقوم بالتمييز ما بين الإسلام الروحي والإسلام السياسي التاريخي، فتقول: "تحاشياً لكلّ سوء فهم، وكلّ تشويش، فإنّه من الطبيعي، في كلّ مرة أتكلم فيها عن الإسلام دون أيّ وصف في هذا الكتاب، فإنّي أقصد فيه الإسلام السياسي، الإسلام كممارسة للسلطة وأعمال الرجال المدفوعين بمصالحهم، والمشبعين بالأهواء، وهو ما يختلف عن الإسلام-الرسالة، الرسالة الإلهية، الإسلام المثالي المدوّن في القرآن الكريم، وعندما أتكلم عن هذا الأخير؛ فإنّني أعبّر عنه بالإسلام كرسالة، أو الإسلام الروحي"، وإنّ إشكالية تحرير المرأة؛ هي في النهاية إشكالية سياسية؛ إذ إنّ دونية المرأة لا تمت إلى حقيقة الإسلام كنصّ، بل إلى الإسلام السياسي التاريخي، والذي هو عبارة عن تراكمات لمعارف وخبرات إسلامية وغير إسلامية، تمتد إلى العصر الجاهلي، وصولاً إلى عصرنا الحاضر.

لم يكن للمرأة أيّة مساهمة في إنتاج التراث العربي وهو ما عطل حضورها وجعلها مؤطّرة برؤية ذكورية جبروتية

ولا يفوتها، كباحثة تحكمها إرادة المعرفة في البحث وتقصي الحقيقة الموضوعية، رؤية أنّ المراحل التي حكمت فيها النساء المسلمات، أو حصلت فيها النساء على السلطة، مارسن خلالها فظائع لم يأت بها الرجال، ومارسن الاغتيال السياسي وأحابيل السلطة، مما قد يمثل "خيانة لطموح نسويّ يريد أن يجعل من الفترة التي حكمت فيها النساء فترة مزدهرة، كما تصف لنا الأسطوريات القديمة، التي تتحدث عن عهود مزدهرة حكمت فيها النساء".

تبحث فاطمة المرنيسي عن التاريخ المغيّب لتجارب حكمت فيها النساء في التاريخ الإسلاميّ

عوالم منسية في الخرائط الصفراء

باسترسال هادئ، متّسق شائق، وسردية يتداخل فيها التاريخ والسوسيولوجيا والأدب، وبلغة الأنثى الأم في كلّ اللغات، ولسان الحداثة في نهج العلوم؛ تقرأ فاطمة المرنيسي سفر الغياب، بعيون زرقاء اليمامة، المكحولة بالإثمد، وعقل شهرزاد المجنَّح بالخيال، تجلي المحجوب من عيون الأخبار في الكتب الصفراء، وعلى محفة من شهوات الرغبة وأجنحة السؤال، تجتاز عتبة المحظور، في رحلة بحثها عن التاريخ المغيّب، التي تستعرض خلالها خمس عشرة تجربة على الأقل، حكمت فيها النساء في التاريخ الإسلاميّ، وتقلّدن مراسم الحكم والسلطة في بلاد الإسلام، سواء بشكل مباشر، كسلطانات وخواتين وحرائر وملكات، أو من وراء الحجاب، كزوجات وأخوات وأمهات، أو كجوار ومحظيات، وإن كان نصيب العربيات منهن قليلاً، فمن تجربة "بنازير بوتو" المعاصرة في باكستان، تبدأ رحلة السؤال لتعود إليها في آخر المطاف، بعد أن تسبر غور التاريخ القديم وتعرض حياة السلطانات الأكثر شهرة: كالسلطانة رضية في دلهي، شجرة الدرّ حاكمة مصر، الملكتان أسما وأروى في اليمن، زينب النفزاوية، البربرية زوجة ابن تاشفين، عائشة الحرة في الأندلس، أو "مادري بوعبديل"، كما لقّبها الإسبان، ستّ الملك في مصر في المرحلة الفاطمية، "دوقوز خاتون" زوجة هولاكو المفضلة، "تركان خاتون" زوجة السلطان السلجوقي ملك شاه، ثم ابنتها "باديشاه خاتون"، إلى الخيزران، زوجة الخليفة العباسي المهدي، وأم الخليفتين؛ الهادي وهارون الرشيد.

اقرأ أيضاً: متلازمة المرأة والغواية: من الموروث الديني إلى الثقافة العامة

رحلة المرنيسي ليست محاكاة نظرية لرحلة ابن بطوطة؛ الذي جعلته أحد مراجع بحثها هذا؛ بل هي رحلة مشغولة بهاجس السؤال والمحاكمة الهادئة، للعقل والتاريخ والتراث، رغم حرقة السؤال، سؤال من نوع: لماذا لم يؤسّس كلّ هذا التاريخ وتلك التجارب من حكم النساء، الزاهية منها أو المضطربة، لمشاركة المرأة في السياسة وتدبير الشأن العام؟ ما سرّ العداء بين النساء والسياسة؟ ولماذا ساد الإسلام التاريخي وذهنية التحريم وانكفأ إسلام الرسالة والإسلام الروحي؟ وهل يمثل إخفاء تاريخ النسوة اللواتي تولين السلطة وحكمن بلاد الإسلام مظهراً من مظاهر الاغتيال التاريخي؟ ولماذا كان نصيب النسوة غير العربيات، من تركيات ومغوليات وغيرهنّ، أوفر، ووصولهن إلى السلطة أو مشاركتهن مع الرجال أيسر من قريناتهن العربيات، فيما بقيت اليمنيات من العربيات استثناءً؟ وهل سبق أن حملت إحداهنّ لقب إمام أو خليفة؟ وهل يقبل عقل المسلم المشاركة الديمقراطية؟ هل كان سيلجأ نواز شريف إلى إشهار سلاح الماضي الإسلامي المطعم بنكهة عربية جاهلية، لتقويض انتصار بنازير بوتو، خصمه السياسي، وفي بلد إسلامي لا تشكّل مشاركة المرأة في السياسة خرقاً لثقافته وأعرافه السياسية، أو خروجاً عن المألوف من عادات أهله وأخلاقياتهم، لو لم تكن فيه آلية فعالة لحشد جمهوره الإسلامي المشبع بأيديولوجيا وتراث ذكوري لا ينظر إلى السياسة إلا كمجال ذكوري، لا حقّ للمرأة في اقتحامه؟

إشكالية الحجاب لا تنفصل عن إشكالية الحاجب، حاجب السلطان الذي يفصل السلطة والسياسة عن العوام

هذه الأسئلة ومثيلاتها، لا تشكل غاية الباحثة في هذا الكتاب، الصادر بترجمته العربية، عن دار الحصاد بدمشق، عام 1994 فحسب؛ بل تشكل صلب المشروع السوسيو ثقافي التنويري والنسوي، الذي اشتغلت عليه المرنيسي، تأسيساً على إشكالية "الحريم"؛ التي تجرأت على معالجتها معالجة اجتماعية معرفية ودينية، على المستويين؛ العربي الإسلامي والعالمي في آنٍ واحد، بغية توضيح الغامض فيها، وتصحيح التأويل الخاطئ المهيمن عليها، باقتحام حقل معرفة الماضي، والكشف عن ملابساته؛ بإعادة قراءة هذا الحقل برؤية علمية متماسكة، ومناهج بحثٍ حداثية، مكنتها من الحفر عميقاً  في خفاياه، وتتبع ما فيه من ملامح إنسانية، وقيم روحية عالية، وإظهار جوانب وأبعاد ما يزال التعتيم عليها جارياً حتى اليوم؛ فإشكالية الحريم، كما ترى المرنيسي، لا تنفصل عن إشكالية العبيد والجواري، وإشكالية الحجاب لا تنفصل عن إشكالية الحاجب، حاجب السلطان الذي يفصل السلطة والسياسة عن العوام، وحجاب الحريم الذي يفصل النساء عن الفضاء العام وديمومة احتكاره، وهو ما استطاعت أن تلتقطه المرنيسي في ثورة الحريم وثورة العبيد، وما خلصت إليه بقولها: "فأدبيات الأديان وتفسيراتها، وتحريفاتها التي عمّت فيما بعد، هي التي أعادت إلى الحياة الاجتماعية الدينية استلاب المرأة، كما كان حالها في الأساطير والخرافات؛ بل ربما إلى الأسوأ أحياناً من السياق الذي كرّسته مجتمعات الظلام والجاهلية"، "وإنّ ما شاع في الأعراف والأدبيات، وما ساهم به الوضع الإنتاجي للمرأة أدّى إلى أن تبقى صورة المرأة النمطية السلبية متجذرة في الوعي الذكوري"، ما يشكّل نكوصاً عن أصول الأديان التي تعطي المرأة حقوقها الوجودية والإنسانية، وتكريساً لاستغلالها وتبعيتها الاقتصادية؛ وسلعيتها الجسدية.

ترى المرنيسي أنّ إشكالية الحريم لا تنفصل عن إشكالية العبيد والجواري

اقرأ أيضاً: النسوية الإسلامية: ما الجديد؟

وما الغاية من إسقاط النزعات العدوانية الشيطانية والآثمة عليها، وكبح نبوغها الفكري والمعرفي، وحصرها في الهامش المحجوب والمعتم عليه، إلا إمعان في هذا الاستغلال لإخراجها من دائرة الفاعلية الاجتماعية والمشاركة السياسية، والحفاظ على استئثار المستفيد من الوضع القائم ودوام استغلاله واحتكاره؛ فاحتكار الماضي يعني احتكار الحق في تقديم صورته، بمقتضى رغبة المُلك وشهوة السلطان، والتعتيم على كل ما ينفي ويقوّض هذا الحقّ في الاحتكار؛ يعني احتكار السلطة في الحاضر وفي المستقبل، خاصّة عند من  يريد أن يجعل من المستقبل صورة للماضي، الماضي الزاهي المجيد، وفق الصورة القارة في المتخيّل، الذي ينفتح على ذاكرة انتقائية وأيديولوجيا معتقدية مغلقة، وفكر ظلامي كما في حالة الإسلام السياسي والتنظيمات الحركية  المتفرعة عنه، التي تعمل على نفي المرأة من الماضي وإنكار وجودها فيه، وهو ما يعني نفيها من الحاضر والمستقبل؛ "فالمنفي من الماضي يصبح منفياً من المستقبل أيضاً"، فالحجاب والحاجب كلاهما من جذر لغويّ واحد، والغاية واحدة: "هي فصل الفضاء إلى قسمين، بستر أو حجاب، والفارق الوحيد بين حاجب وحجاب؛ أنّ الأوّل رجل، والثاني شيء"، فيما وظيفتهما واحدة؛ هي حجب السلطة ومقام السيادة عن العوام من الشعب، وفق إرادة السلطان، ومشيئته في اختيار مؤيديه ومشايعيه، كما يختار زوّاره.

الصفحة الرئيسية