الإسلاميون ومنصات التواصل.. كيف نتجادل دون عداء؟

الإسلاميون ومنصات التواصل.. كيف نتجادل دون عداء؟


14/07/2020

يُظهر الجدل الذي يدفع به أنصار الإسلام السياسي وخصومه عجزاً عن بناء فضاء عام، يمكن أن تقدم به الأفكار والاتجاهات على أساسٍ مشترك يتقبله الجميع، وعلى النحو المفترض أن يؤدي إلى التصحيح والمراجعة، وتطوير الأفكار، وإنشاء أخرى جديدة، تساعد الفاعلين في الفضاء العام على الخروج من الاحتراب، إلى بناء منظومة عامة مشتركة، تستطيع، وإن لم يتفق فيها الجميع، أن تنشئ محصّلة أو اتجاهاً عامّاً نحو أهداف الأمم ومصالحها، أو تصلح للخروج من الانسداد والمأزق، الذي نعيشه اليوم في عالم العرب خاصة، والمسلمين بعامة.

اقرأ أيضاً: مواجهة التنظيمات الدينية طالبة السلطة.. تحجيم الأدوار ودحض الأفكار

فالجدل العام؛ الذي تعكسه شبكات التواصل الاجتماعي، لم يساعد بعد على بناء فضاءٍ عامٍ مشترك، يجد فيه المواطنون، جميع المواطنين، على اختلاف اتجاهاتهم وأفكارهم ومصالحهم وانتماءاتهم، مواقع متساوية وحرّة لتبادل المعرفة والتأثير، وهذا هو الشرط الأساسي للجدل العام. أن يستطيع كلّ مواطن تقديم وجهة نظره بحرّية، من غير أن يسيء إلى أحد أو يتعرض إلى إساءة، لكنّ الجدل في الشبكة يؤشر إلى عجزنا عن الفصل بين الفكرة والذات، بمعنى؛ أنّ نحوّل الخلاف الفكري أو السياسي إلى عداء شخصي أو عشائري أو طائفي أو جهوي، كيف نتجادل دون عداء؟ كيف نفصل بين الجدل والعلاقات الشخصية والاجتماعية؟

إنّ الشرط الأساسي للجدل العام أن يستطيع كلّ مواطن تقديم وجهة نظره بحرّية من غير أن يسيء إلى أحد أو يتعرض إلى إساءة

مؤكد بالطبع؛ أنّ الجدل العام ضروريّ جداً لبناء مجال عام تجد فيه جميع مكونات الأمة (السلطات والمجتمعات والأفراد) مجالاً لتبادل الأفكار ومراجعة الاتجاهات والمواقف، والقدرة على التأثير فيها، ولا شكّ أيضاً في أنّ شبكات التواصل الاجتماعي صارت الساحة الرئيسة لجميع الاتجاهات والطبقات والمؤسسات للجدل وتبادل المعرفة والتأثير، لكنّها ساحة لن تعمل في الاتجاهات الإيجابية المؤملة، إذا لم نتبادل جميعاً الالتزام بحقّ كلّ مواطن في التعبير عن رأيه وموقفه، وواجبه أيضاً، في ألا يقدم رأيه أو يجادل على نحو يتضمن عداء أو إساءة، أو ذماً وتحقيراً للآخرين، وببساطة؛ إنّ الجدل العام يجب أن يحكمه الإقرار باحتمال خطأ الذات وصواب الآخر.

اقرأ أيضاً: مرة أخرى... ملف الحريات يشعل الجدل في تونس

يمكن ملاحظة الكثير مما ينشر في المدونات والتعليقات على المقالات في صفحات الإنترنت، ما يظن أصحابه أنّه دين، وهو فهم للدين يحتمل الصواب والخطأ، وفي المقابل؛ فإنّ كثيراً من المشاركين يعتقدون أنّهم يمثلون العلمانية أو الليبرالية، أو المعارضات والبطولات، أو المقاومة والتحرير، أو النضال واليسارية؛ لكن ما يقدمونه في الجدل والتدوين يضجّ في واقع الحال بمشاعر ومعتقدات راسخة بالتعصب والعجرفة، والرفض على أسس جهوية أو طبقية أو دينية، وهناك أيضاً ما هو أشدّ صعوبة وقسوة؛ إذ إنّ اتجاهات ومواقف دينية وأيديولوجية، تخفي تعصباً جغرافياً واجتماعياً لا علاقة له بالاتجاه الأيديولوجي المعلن!

إنّ الجدل العام يجب أن يحكمه الإقرار باحتمال خطأ الذات وصواب الآخر

وفي المقارنة بين تعليقات المدونين وصفحاتهم؛ تتشكّل ملاحظات كثيرة؛ في التعليق وضوح وحسم، في التأييد أو المعارضة، في النقاش والردّ، في الهجوم والشتم، لكنّ مدوّناته وتقديمه لذاته لا لون لها ولا طعم ولا رائحة!

لماذا لا يقدّم مشارك في الجدل العام فكرة عن ذاته أو اتجاهه، لكنه يعلق بهمة وجدية ونشاط على صفحات ومقالات غيره في الشبكة؟ هل هو لا يثق بنفسه؟ هل يشارك في حملات تطوعية أو مدفوعة من غير فهم أو موقف محدّد؟ هل تحركه دوافع شخصية؟ هل يعاني من أزمات ومشاعر سلبية مؤذية لنفسه وللآخرين؟ لماذا يقدّم شخص غير ملتزم رأياً ملتزماً؟ لماذا يدافع شخص بعصبية وحماس عن فكرة لا يلتزم بها وربما لا يؤمن بها؟ كيف يمكن استيعاب أنّ مواطناً قادراً على الانفعال والانحياز في خلافات تنظيمية داخلية لا يمكن لغير المنخرط فيها أن يستوعبها؟

يبدأ الجدل العام بوعي واضح للذات، يقدمه كلّ مشارك عن ذاته أو فكرته، أو طبقته، أو فئته، أو مصلحته، ...إلخ، لا بأس في ذلك كلّه؛ على أن يقدم نفسه متقبِّلاً الآخرين في الفضاء، أو على الأقل ملتزماً بقواعد الجدل العام، وأن يعتقد جميع الفاعلين في الفضاء العام بحق الجميع في المشاركة، وأنه ليس ثمة يقين، ولا نملك سوى شرف الجدل ومحاولة الاقتراب من الصواب!

على الجماعات الدينية أن تقدم نفسها في الفضاء العام على أساس فكرتها وليس مشكلتها أو مشاركتها في الأنظمة السياسية المختلفة

وعلى هذه الأسس؛ فإنّ الجماعات الدينية، السياسية منها وغير السياسية، هي جزء من الفضاء العام، يفترض أن تجد لها موقعاً ترضى به، ويقبل به جميع المشاركين في هذا الفضاء، ولأجل ذلك؛ فإنّ الجماعات الدينية يجب أن تقدم نفسها في الفضاء العام على أساس فكرتها، وليس مشكلتها أو مشاركتها في الأنظمة السياسية المختلفة، فالفضاء العام ليس هو الواقع السياسي القائم، لكنّه أكبر من ذلك وأشمل، ويتجاوز حالة المشاركة أو الصراع السياسي والاجتماعي إلى منظومة فكرية ثقافية مشتركة بين جميع المشاركين، على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الدينية أو السياسية.

اقرأ أيضاً: هل يمكن عزل المواجهة مع الإسلام السياسي عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية؟

كيف نفصل بين الأفكار والقيم التي نؤمن بها وندعو إليها، وبين مواقفنا وأوضاعنا السياسية؟ إنّ هذا الفضل ضروريّ لأجل الفضاء العام، على الأقل، وللدخول في فضاءات مصالحات افتراضية تساعد في المصالحات الواقعية والفعلية، لكن نقل الصراع السياسي والأيديولوجي إلى الفضاء العام يحول الصراع السياسي إلى حروب أهلية، ويدمّر الفضاء العام، دون أن يساعد بشيء في الصراع السياسي.

 

الصفحة الرئيسية