ناشطة تونسية تدعو إلى مناهضة الذكورية المهيمنة على الخطاب الديني

ناشطة تونسية تدعو إلى مناهضة الذكورية المهيمنة على الخطاب الديني


30/10/2018

أجرى الحوار: سامح إسماعيل


أثار النقاش حول حزمة التعديلات المتعلقة بحقوق المرأة في قانون الأحوال الشخصية بتونس جدلاً كبيراً، وأثار نوبة من الغضب لدى التيارات والمؤسسات الدينية، التي تحفّظت عليه، باعتباره يمثّل انتهاكاً صريحاً للنص الديني، بينما انبرى المؤيدون للدفاع عن الحراك المدني التونسي، باعتباره خطوة حتمية في طريق القضاء على كلّ أشكال التمييز.

"حفريات" حاورت في هذا الشأن الباحثة والناشطة التونسية بمجال حقوق المرأة، الدكتورة هاجر المنصوري التي دعت إلى الثورة "الحقوقية" ضدّ ترسانة الذهنية التراثية الذكورية التي تفرض هيمنتها على الخطاب الديني، فهماً وتأويلاً.

اقرأ أيضاً: النساء بين تطور القانون في تونس والارتهان للنص في مصر

والمنصوري أستاذة في الدراسات الحضارية، وتشتغل بتحليل الخطاب حول المرأة، وحاصلة على شهادة الدّراسات المعمّقة في البحث في اللّغة والآداب العربيّة تخصّص حضارة، كلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات منّوبة، لها عدة دراسات من بينها: "المرأة والإمامة في الخطاب الإمامي المعاصر"، و"الصدّيقة وبنت الصدّيق في كتب مناقب الحديث: الصّحيحين نموذجاً"، و"الجدل حول الجندر في الخطاب العربي الإسلامي، المرجعيّات والآفاق".

هنا نص الحوار:

سبقت مجلة الأحوال الشخصيّة في تونس مثيلاتها في العالم العربي؛ من حيث استيعابها لقضية الحقوق والمساواة بين الرجل والمرأة، فهل كان ذلك بفضل جهود الحبيب بورقيبة وحده، أم أنّ المجتمع التونسي كان أكثر قدرة على استيعاب مفاهيم الحداثة؟

تنحدر مجلّة الأحوال الشخصيّة في كلّ بلدان العالم العربي من قانون حقوق العائلة، الذي صاغه العثمانيون في بداية القرن التاسع عشر، ولم يدوّنوه إلّا عام 1917، وأخذ هذا القانون يشهد تطوّراً في إطار موازنته بين الفقه الإسلامي للأحوال الشخصيّة، والمنحى التجديدي في الخطاب الدّيني، الذي بدأ يظهر في العالم الإسلامي، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويسعى إلى مراعاة المتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية من جهة، ومتطلبات الحداثة من جهة أخرى.

وتعدّ تونس من البلدان العربيّة الأولى التي أصدرت مجلّة أحوالها الشخصيّة، التي تعد أوّل ما نطقت به الدّولة الوطنيّة إثر استقلالها، ودعا إلى صياغتها، آنذاك، رئيس الوزراء الحبيب بورقيبة، وشكل في إنجازها لجنة يشرف عليها مفتي الديار التونسية، وتضمّ خيرة الباحثين والمحامين، وثلّة من شيوخ جامع الزيتونة وأبنائه، ومن بينهم؛ الإمام محمّد الطاهر بن عاشور، صاحب "التحرير والتنوير في تفسير القرآن".

التنوير يجب ألّا يكون خياراً نخبوياً أو حزبياً أو جمعياتياً؛ بل عليه أن يطال القاعدة الشعبية في تونس

ورغم أنّ غالبيّة البلدان العربيّة الإسلاميّة تعاملت بالمقاربات نفسها في تبنّي قانون الأحوال الشخصيّة، المستمدّ من الفقه الإسلامي؛ فإنّ تونس كانت مجدّدة فيما نصّت عليه مجلّتها من قوانين في شؤون الأسرة والعلاقة بين أفرادها، وعدّت من أكثر مشروعات القوانين في العالم الإسلامي تحرّراً من قيود التقاليد والأعراف الاجتماعية، ومواكبة لمكتسبات الحداثة، التي انخرط فيها المجتمع التونسي ذاته مند القرن التّاسع عشر؛ إذ تضمّنت المجلة أحكاماً عزّزت بها مكانة المرأة التونسية، بأن ضبطت الحدّ الأدنى للزواج بـ17 عاماً للفتاة، و20 عاماً للفتى، ومنعت إكراه الفتاة على الزواج، وألغت الزواج العرفيّ، وفرضت الصيغة الرسمية للزواج، ومنعت تعدّد الزوجات، وأقرّت معاقبة كلّ من يخترق هذا المنع، وأقرّت المساواة الكاملة بين الزوجين في كلّ ما يتعلق بأسباب الطلاق وإجراءاته وآثاره، ووضعت، إضافة إلى ذلك، إجراءات قضائيّة: للنفقة، والحضانة، والنسب، والإرث، إلى جانب أحكام أخرى تعزز مكانة المرأة.

لكن، لا يمكن لمجلّة في الأحوال الشخصيّة بهذا الحجم من التجديد إلا أن تنتج عن حراك إصلاحي يعكس ما يعتمل في المجتمع من تطوّرات هيكلية، فما هي أبرز المستويات التي توزع عليها هذا الحراك الإصلاحي؟

يمكن أن نوزّع هذا الحراك على ثلاثة مستويات: أوّلها؛ مستوى الإصلاح الاجتماعي النّسوي؛ وفيه حفرت الذاكرة التونسية منذ عشرينات القرن الماضي، اسمَي المناضلتين "المنوبية الورتاني" و"حبيبة المنشاري"؛ اللّتين شاركتا في المقاومة الوطنيّة، ونادتا بخروج المرأة وتحريرها، وحتّى نزع " حجابها"، وفي هذا المستوى بدأت تونس تشهد انخراط النساء في الحياة العامة، وبداية المسيرة نحو العمل النقابي والنضالي ضدّ المستعمر، فكانت شريفة المسعدي ممن تصدّرن العمل النقابي بامتياز، وقد وقع انتخابها في الهيئة المديرة لاتحاد الشغل، عام 1948، وبشيرة بن مراد التي كوّنت أوّل جمعيّة نسائيّة عام 1936، وتوحيدة فرحات التي أشرفت على نادي الفتاة التونسية عام 1954، وغيرهنّ من النساء اللّواتي آثرن الفعل في الحراك المجتمعي، على أن يلتزمن الصمت في خدورهنّ.

بشيرة بن مراد أسست أوّل جمعيّة نسائيّة تونسية عام 1936

وثانيها؛ مستوى الإصلاح الثّقافي؛ ونذكر في هذا الصّدد أهمية العمل التنظيريّ الذي قام به المجدّد الزيتوني، الطاهر الحداد، الذي تأثّر ببعض رؤى عصره التقدميّة، في مؤلّفه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، الصّادر عام 1930، وفيه رأى أنّ "المرأة نصف الإنسان، وشطر الأمّة نوعاً وعدداً وقوّة في الإنتاج من عامّة وجوهه"، وطرح مسائل تتّصل بوضع المرأة في المجتمع، مطالباً باحترام حقّها في اختيار شريك حياتها، وفي طلب الطلاق والمشاركة في الحياة العامة، كما طالب بتجاوز قاعدة "وللذكر مثل حظّ الانثيين" وأقرّ مبدأ المساواة، تماشياً مع سنّة التطور وروح الشّرع ومقاصده. 

اقرأ أيضاً: المساواة في الميراث بتونس جدل ديني على تخوم الصراع السياسي

وثالثها؛ مستوى الإصلاح السياسي؛ وهو يرتبط بشخصيّة الوزير الأوّل آنذاك الحبيب بورقيبة، الذي استفاد من الوضع الاجتماعي والثّقافي، فسعى إلى إدراج تونس وشعبها ضمن تيار الحداثة؛ بالعمل على تجديد الخطاب الدّيني، والرفع من حدود التمكين النسائي فيه، مستلهماً في ذلك نفس الطّاهر الحدّاد التجديدي.

ولا يخلو القرار السياسي بإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة في العام نفسه الذي استقلّت فيه البلاد التونسيّة من دلالات رمزيّة بالنسبة إلى المرأة التونسيّة، وذلك حتى ترتبط نساء تونس جميعهنّ بتحرير تونس من هيمنة الاستعمار الفرنسي، وتحريرهنّ من هيمنة السلطة الذكوريّة عليها وعلى نمط العلاقات الاجتماعيّة القائمة بين الجنسين في تونس.

وكيف تمكّن هذا الحراك من إسكات الأصوات المعارضة من التيار الأصولي آنذاك؟

تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ جزءاً من الساحة الدينية آنذاك؛ رأى أنّ المجلة تنتهك الشريعة الإسلامية، وقد أرسل حينها بورقيبة لهم رسالة قال فيها: أنا مسلم مثلكم، أحترم هذا الدّين الذي قدّمت له كل شيء، حتى ولو كان ذلك فقط من خلال إنقاذ أرض الإسلام من الإذلال الاستعماري، لكن بحكم واجباتي ومسؤولياتي، أنا مؤهّل لتفسير القانون الديني.

وأكاد أجزم أنّ هذه المجلّة لئن كانت نتاج حراك اجتماعي، نسوي وثقافي مميّز في المنطقة العربيّة آنذاك، فإنّه ما كان ليفرض بعدها الإجرائي، لولا الإرادة السياسيّة القويّة للرّئيس بورقيبة، الذي أوجب تشريعاتها على الجميع، ودفع بالمجتمع دفعاً إلى سبل التحديث أمام تحديات وطنيّة ودوليّة كبرى تنتظر المجتمع التونسي حتّى يحقّق نهضته الحقيقيّة.

وما هي الأرضية التي تمكنت من خلالها الهيئات الحقوقية من الضغط على صانع القرار، في سبيل تطوير القوانين المتعلقة بحقوق المرأة، فيما يتعلق بالمساواة في الإرث وغيرها من التشريعات، وهو ما يعني تحقيق قفزة نوعية أثارت حالة من الجدل داخل وخارج تونس؟

تشهد تونس الآن جدلاً حول قانون المساواة في الإرث، وغيره من التشريعات المنصفة للمرأة، وهو جدل شبيه بما عرفته عند إصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة، فالمجتمع المدني، بمنظماته النسائيّة وهيئاته الحقوقيّة، ما انفكّ يطالب بضرورة إقرار المساواة التامة بين المواطنين والمواطنات أمام القانون، وهو ما دفع بالحكومة التونسيّة إلى توقيع اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة "سيداو"، وإن تحفّظت حينها على بعض المواد المتّصلة بحقوق المرأة في العائلة، لكنّها -عام 2011- رفعت جميع هذه التحفّظات، معترفة بـأنّ المرأة والرجل شريكان متساويان في  فرص تمكينهما من جميع مجالات الحياة.

اقرأ أيضاً: جذور مكتسبات المرأة التونسية تعود لعصر مبكّر من التاريخ الإسلامي

ومن أجل التفعيل القانوني للقضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ النساء، تصاعدت وتيرة الحراك المجتمعي والنّسوي في تونس؛ فخرجت في 10 آذار (مارس) 2017 إلى البرلمان التونسي مسيرة حاشدة مباشرة، بعد يومين من اليوم العالمي للمرأة، دفعت بالسلطة السياسيّة آنذاك، إلى تبنّي جميع مطالب التّمكين النسائي، في 13 آذار (مارس) 2017، وهو تاريخ عيد المرأة التونسيّة، والاحتفال بتاريخ إصدار مجلّة الأحوال الشخصية، فأمر الرئيس بتشكيل لجنة تتولى إعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالمساواة والحريات الفردية، استناداً إلى مقتضيات دستور (27)، كانون الثاني (يناير) 2014، والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

هناك أحزاب تونسية ترفض الحراك التنويري لدواع سياسية واجتماعية

وكيف كان موقف التيار الإسلامي من تلك المقترحات؟

منذ أن شرعت اللجنة في صياغة تقريرها، وحتى الانتهاء منه، تعالت أصوات عديدة من شرائح جنسية وعمرية مختلفة، واختصاصات متنوعة، وانتماءات اجتماعية وسياسية متفرقة، تقدّم موقفها من هذا التقرير، بما في ذلك الجزء المتّصل منه برفع كلّ أشكال التمييز ضدّ النساء في الإرث، وأمام تعدّد الآراء بين مؤيّد له في كليته، ورافض له في مجموعه، أو في جزء منه، التفّ التيار الإسلامي بمختلف طوائفه الحزبية والمؤسساتية، ومن يمثلونه فكراً وتوجهاً، حول رفض التقرير، وما ورد فيه من مقترحات تتعلّق بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وإلغاء كلّ من المهر، ونظام رئاسة الزوج للعائلة، وغيرها، رفضاً التزموا فيه مرجعيّاتهم الفكريّة وتوخوا فيه استراتيجيتهم المعهودة.

وما هي أبرز ردّات الفعل المقاومة التي قام بها التيار الأصولي في مواجهة هذه التعديلات المقترحة؟

يمكن إيجاز ذلك فيما يأتي: المواجهة السلمية؛ وتزعمها " تيّار المحبّة"، و"حزب التحرير"، حيث سارعا إلى التعبير عن رفضهما القاطع، شكلاً ومضموناً، لتقرير لجنة المساواة والحريات الفردية، وعبّر تيار المحبة عن "كرهه" الشديد للتقرير، ونظّم أتباعه وقفة احتجاجية في شارع الحبيب بورقيبة، رافعين شعار" تيار المحبة، يقول للباجي وبشرى: ديننا خطّ أحمر"، أمّا حزب التحرير فقد "حرّر" رسالة مفتوحة منه إلى رئاسة الجمهورية، مرفقة بردّه التفصيلي على تقرير اللجنة، وشرع يندّد بالتقرير، واصفاً إياه بــ "المشروع المحارب للإسلام"، وداعياً إلى التحرك ضدّه، ونظّم وقفات احتجاجية ببعض الجهات، وعدّ رئيس المكتب السياسي للحزب ما ورد في التقرير، تشريعاً للتفسخ المجتمعي.

تشهد تونس الآن جدلاً حول قانون المساواة في الإرث، وغيره من التشريعات بما يذكّر بإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة

أما حركة النهضة؛ فقد آثرت استراتيجية المراحل، فالتزمت في المرحلة الأولى خيار الصمت، ثمّ نطقت في مرحلة ثانية بخطاب مراوغ، يقوم على ثنائية المسايرة، ثمّ المغايرة، ونلمح هذه الثنائية في كلّ ما ورد في بياناتها، وفي 5 تموز (يوليو) 2018، أصدرت الحركة بياناً، أعلنت فيه أنّها ستعبّر عن موقفها بالتفصيل من هذا المشروع، إذا ما تحوّل إلى مشروع قانون، وأنها تعمل على تعميق التشاور والحوار حول مضمونه، مجددة تأكيدها على قيمة الحقوق والحريات والمساواة بين الجنسين، وفي هذا السياق؛ نجدها تشدّد على حقّ جميع التونسيّين، أفراداً ومؤسسات، في حريّة الرأي والتعبير والتفكير، لكنّها تلتزم بما تتبناه من أنّ تونس دولة مدنية لشعب مسلم، ومن ثم، فإنّها ترى أنّ المقاربة في الحريات الفردية والمساواة، ينبغي أن تجمع بين الالتزام بأحكام الدستور واحترام مقوّمات الهويّة العربية الإسلامية للشعب التونسي.

وهل أخذت حركة النهضة خطوات إجرائية لموضعة رؤيتها في المشهد المحتدم؟

في 13 آب (أغسطس)؛ سلّم رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، رسالة لرئيس الجمهوريّة، تضمّنت موقف الحركة من مشروع لجنة الحريات الفردية والمساواة، وصرّح مكتبها التنفيذي بأنّ الغنوشي استمع إلى مقاربة رئيس الجمهورية حول المسائل المتعلقة بالإرث، وقضايا الحريات الشخصية، وأكّد المتحدث باسم حركة النهضة، أنّ تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، سيكون "منطلقاً لحوار مجتمعي واسع"، وأنّ موقف حزبه من التقرير منسجم مع ما دعا له الرئيس في العام الماضي، لكنّه يشدّد على ضرورة عدم المساس بالشعور الديني للمواطنين من خلال الإصلاحات المقترحة، وفي السياق نفسه صرّحت يمينة الزغلامي، عضو البرلمان التونسي عن حركة النهضة، أنّه لا يمكن تمرير هذا القانون بالقوة، مؤكّدة على اختلاف السياق الزمني بين قانون الأحوال الشخصية، الذي أقرّه الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، وقانون الحريات الفرديّة المطروح حالياً للنقاش.

عبرت النهضة عن رفضها لأيّ مشروع يتنافى مع الدستور والنصوص القطعية للقرآن

ومنذ أيام؛ أعلن رئيس مجلس شورى الحركة عبد الكريم الهاروني، رفض الحركة أيّ "مشروع يتنافى مع الدستور ومع النصوص القطعية للقرآن، وأشار إلى أنّ تونس دولة مدنيّة لشعب مسلم تلتزم بتعاليم الدستور وبتعاليم الإسلام، أنّ حركة النهضة مع الاجتهاد، ومع المبادرات لتحسين وضعية المرأة، وستشارك في تطوير الأحكام والالتزام بتعاليم الإسلام الثابتة، كما أكّدت محرزية العبيدي، القيادية في حركة النهضة، أنّ الحزب يرفض مقترح المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وأن النّهضة ستردّ على مشروع القانون الذي سيقدّمه الرئيس إلى البرلمان بطريقة بنّاءة وإيجابية، تتمثّل في اقتراح مشروع قانون على البرلمان، يتضمن السماح لمن يرغب في ذلك بالمساواة بين ورثته من الجنسين، شرط الإعراب عن ذلك صراحة، بموجب وصيّة قبل الوفاة.

وماذا عن المؤسسات الدينية؟

لم تلتزم المؤسسات الدينية الصمت؛ بل سارعت إلى التنديد بالتقرير، بدءاً بجامعة الزيتونة وعلمائها ومشايخها، الذين عبروا في بيان بيانين عن رفض التقرير، وعدّوه التفافاً مشيناً على قيم الإسلام وتعاليمه، وندّدوا في المقابل بعدم إشراكهم في صياغته، كما وقّع 23 شخصية، بينهم مفتي الجمهورية السابق حمدة سعيّد، ووزير الشؤون الدينية الأسبق نور الدين الخادمي، على عريضة، رفضوا فيها تغيير أحكام الإرث، وزواج التونسية بغير المسلم، كما تأسست "التنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستور والتنمية العادلة" ردّاً على التقرير، وعدته فتنة ومشروعاً انقلابياً على النمط المجتمعي التونسي، وأكّدوا أنّ اللجنة تجاوزت حدود تخصصاتها فيما تناولته، وعدّت جمعيتي "الأئمة من أجل الاعتدال ونبذ التطرف"، و"هيئة مشايخ تونس"، أنّ الدّين "يتعرّض لهجمة شرسة من مجموعة من الأشخاص، يريدون أن ينحرفوا بالبلاد إلى الهاوية، عبر قيم إحلال الحضارة الغربية المفلسة روحياً.

اقرأ أيضاً: طاهر حدّاد: أوّل منظّر لمسألة المرأة ورائد قانون الأحوال الشخصية في تونس

وما يزال كلّ دعاة التيار الإسلامي، بطوائفه الحزبية والمؤسساتية، وممّن يمثلونه فكراً وتوجهاً، يرفضون التقرير، ويجيشون ضدّه، وهو ما يؤكد أنّ سؤال مدنية الدولة "منتهي الصلاحية" لدى هذا التيار، مهما سعى دعاته في خطابهم إلى سبل الترقيع والتلفيق، والأهمّ من ذلك؛ أنّ سؤال المرأة عندهم "عابر" لكلّ رؤية إصلاحية، حتى ولو كانت من داخل الخطاب الدّيني ذاته، فلا مجال لأن تتشكّل صورتها خارج دائرة الإيمان، التي أقرّوها لها بداية ونهاية.

في رأيك، كيف تشكّلت الحالة التونسية التي سمحت بمناقشة وعرض مثل هذه الرؤى التقدمية مقارنة بسائر المجتمعات العربية؟

هي حالة فريدة وليدة، تعود في بداية تشكّلها إلى مجلة الأحوال الشخصية التونسية، والسياق الاجتماعي والسياسي الذي أوجدها؛ إذ تعدّ هذه المجلة بادرة تشريعية، أسست للمسار التحديثي الذي تبنته الدولة التونسية منذ استقلالها، ويتواصل نسق هذا الحراك مع أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، عندما خرجت التونسيات لمزاولة تعليمهن في المدارس والمعاهد والجامعات، والمشاركة في النشاط الثقافي، والعمل النقابي الطلابي والعمالي، وهو ما ساعد على نموّ وعي التونسيات بحقوقهن، وتعاظم دورهن في النضال النقابي، وفي مواجهة الاستغلال الذي تتعرّض له العاملات والموظفات في القطاع العام والخاص.

اقرأ أيضاً: هل تونس أمام ثورة ثقافية وتشريعية؟

وفي مطلع الثمانينيات؛ نشطت بــنادي الطّاهر الحداد بالعاصمة التونسية، مجموعة من المثقفات من توجهات يسارية وعلمانية، أخذن على عاتقهن نقاش القضايا المتعلقة بالمرأة، والنظر في سبل التصدي لكلّ أشكال الارتداد إلى الماضي، التي دعا إليها البعض في تلك الفترة من تاريخ تونس، فأصدرن عام 1985 مجلة "نساء"، وطوّرن عملهنّ بعد ذلك من خلال تأسيس الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، التي حصلت على تأشيرة العمل القانوني في 1989، منافسة للمنظمة الرسمية التابعة للحزب الحاكم، وللاتحاد الوطني للمرأة التونسية، وفي الأثناء؛ تكوّنت لجان نسائية في عدة منظمات، أهلية ونقابية وحقوقية، وضعت قضية الدفاع عن حقوق المرأة في مركز اهتماماتها.

وكيف استغلّ الحراك النسوي هذه الحالة وعمل على تكريسها وتأكيد مكتسباتها؟

شرع هذا الحراك النسوي التونسي يراجع ما كان يعدّ أهمّ  "مكسب نسائي" في العالم العربي الإسلامي، وهو مجلّة الأحوال الشخصيّة، فكشف عن عجز حدود قوانينها في النهوض بالمرأة، داعياً إلى ضرورة إدخال إصلاحات تشريعية جوهرية عليها، حتّى ترتقي بأوضاع المرأة إلى طور الشراكة، بما يتناسب والتغيرات التي يعرفها المجتمع التونسي في بنيته، وكان لهذه الحركة، الممتدة إلى قرننا الحالي، تأثيرها في ما يضمّه الدستور التونسي الجديد المصادق عليه، في 27 كانون الثاني (يناير) 2014، من ضمانات قوية لحقوق المرأة، بما في ذلك الفصل (46)؛ الذي ينصّ على أنّ: "تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة، وتعمل على دعمها وتطويرها"، لضمان تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة .

للقضاء على التمييز ضدّ النساء تصاعدت وتيرة الحراك المجتمعي في تونس

وتبعاً لما تقدّم؛ نتبين أنّ تونس بحراكها المجتمعي والمؤسساتي والحقوقي، أمضت أعواماً طويلة من النّضال الدؤوب، حتّى تبلغ الحالة التي هي عليها الآن من أريحية مجتمعية، يتقبّل فيها الشعب جملة من الإصلاحات، تجعلهم يعيشون ويتعايشون مع بعضهم سواسية في الحقوق والواجبات، بضمانات تشريعية تفرض احترام حرية الفكر والمعتقد والضمير، وتلغي كلّ أشكال التمييز بين الجنسين في الأسرة والمجتمع، فلا للمهر وربطه بالبناء، ولا للعدّة باعتبارها تقييداً غير دستوري لحرية زواج المرأة، ولا للتمييز في إسناد اللقب العائلي، وفي شروط منح الجنسية، ولا لسائر التشريعات القائمة على التراتبية والتمييز بين الجنسين.

ولكن، ماذا عن رفض بعض الأحزاب اليسارية والقومية لهذه القوانين؟ هل يمثل ذلك شوكة في ظهر الحركة المدنية؟

هناك أحزاب وقوى ترفض هذا الحراك التنويري لدواع سياسية واجتماعية، مثل حزب "حراك تونس الإرادة"، ذي التوجه الديمقراطي الاشتراكي، وهناك ثمانية أحزاب قومية التوجه، صرّحت برفض التعديلات، واندرجت هذه الأطراف في خطّ التصدي لهذه الرؤى التقدمية، ومن يمثلها، وهو ما يعبّر عن وضعية تفاعلية وجدلية بين جميع مكوّنات المجتمع المدني، وعن حالة من الديمقراطية المشروعة في الحراك السياسي والاجتماعي، تتيح لكلّ طرف أن يقدّم موقفه في كنف الاحترام المتبادل والتشاور، إلى أن يقرّ الرأي النهائي، وهو ما ينهض بالمجتمع التونسي، برجاله ونسائه، بعيداً عن المزايدات والمغالطات.

وما هي المستويات المتوقع للصراع أن يصل إليها في ضوء خطاب المقاومة الإسلاموي؟ وهل من الممكن أن يتطور العنف اللفظي في الخطاب الأصولي إلى عنف مادي؟

وردت على مواقع التواصل الاجتماعي ردود فعل غاضبة، فيها اتهام بالفساد والعهر لكلّ أعضاء اللجنة، ناهيك عن حملات العنف والتكفير، وقد دعت رئيسة اللجنة، بشرى بلحاج حميدة، في برنامج ''هنا تونس'' جميع المعارضين للتقرير إلى فهمه قبل الانخراط في موجة السبّ والشتم، وفي مرحلة تالية؛ تحوّل العنف من مستوى اللفظ إلى الفعل، فبعد عمليات التجييش، وحملات التكفير ضدّ أصحاب هذا الحراك وممثليه، دعا البعض إلى إلقاء" مياه حارقة" على وجه رئيسة اللجنة، وبعض السيدات سجّلن "مقاطع فيديو" للتحريض على قتلها، كما خرج الجدل عن مجاله الوطني التونسي إلى المجال العربي، فتعالت أصوات من هنا وهناك؛ من الجزائر والمغرب ومصر، تعدّ ما قدّمته تونس من إصلاحات للوضع النسائي فيها "خروجاً عن الشّرع" في الإرث والقوامة الذكورية، ويستدلّ وكيل الأزهر، عباس شومان، على هذا الخروج، في تصريح أكّد فيه أنّ "المواريث مقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد، ولا تتغير بتغيّر الأحوال والزمان والمكان، ناهيك عمّا قد يحمله من استدعاء مشفّر لخلايا نائمة من الداخل، وحتى الخارج، لتتحول تونس من "دار دعوة " إلى  "دار جهاد"، من خلال حملات التجييش الممنهجة".

وما هو المطلوب من الهيئات الحقوقية، وما هو المدى الذي تستطيع الوصول إليه في هذا الصراع المفتوح على كافة الاحتمالات؟ وهل يمكن التعويل على ظهير شعبي قوى يساند القوانين التقدمية؟

لا ننكر أنّ هذا التقرير وجد من يناصره من أحزاب سياسية عديدة، مثل: حزب "نداء تونس"، وحركة "مشروع تونس"، و"الجبهة الشعبية"، وحزب "المسار"، وحزب "آفاق تونس"، وحزب "العمال"، ناهيك عن 93 منظمة وجمعية، إضافة إلى شخصيات جامعية وأكاديمية من اختصاصات علمية متنوعة، هذا الحراك الحزبي والجمعياتي له قاعدته الشعبية؛ التي اختبرت في الفترة ما بين 2012 /2013؛ عندما شنت أطراف متطرّفة من دعاة الإسلام السياسي، هجوماً شرساً على المكاسب التي حقّقتها المرأة، مطالبة بتطبيق الشريعة، وواصل الحراك التنويري الذي لمحنا ظهيره الشعبي تصديه لتلك الجماعات، في مسيرتين بشارع الحبيب بورقيبة، حينما خرجت حشود، نسائية ورجالية، تساند تقرير لجنة المساواة والحريات الفردية.

شرع هذا الحراك النسوي التونسي يراجع ما كان يعدّ أهمّ  "مكسب نسائي" في العالم العربي الإسلامي، وهو مجلّة الأحوال الشخصيّة

وإن كنّا نعدّ هذا الظهير الشعبي مهمّاً بكتلته النسائيّة، إلا أنّنا لا نراه بالقوة التي ينبغي أن يكون عليها حتى يقدر على مواجهة الأطراف التي ترفض التنوير، وتعوّل في جانب مهمّ من خطابها على التأثير الانفعالي في الجماهير، وعلى استغلال رهاب الأغلبية من كلّ فعل تحديثي، لاسيما المتّصل منه بالخطاب الدّيني، وبكلّ قراءة تجديديّة له، ويبدو أنّ الجميع، رجالاً ونساء، مدعوّون في هذا الظّهير إلى أن يلتفوا أكثر خلف الحراك التنويري في تونس، وأن يمثّلوا قوة مجتمعية، تصدّ كلّ من يقف أمام نهضتها، الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية؛ فالتنوير يجب ألّا يكون خياراً نخبوياً أو حزبياً أو جمعياتياً؛ بل عليه أن يطال القاعدة الشعبية لتونس، ومن صلبها ينطلق كلّ حراك، حتّى ينال الجميع حقوقهم، ولا يحتاجون حينها إلى سلطة سياسية تفرض مكتسباتهم وتدعمها.

ما هو التأثير الذي يمكن أن تحدثه تلك القوانين في حال التصديق عليها، في المحيط العربي؟ وهل يمكن أن تقوم تونس بتصدير هذا الحراك مستقبلاً، مثلما قامت بتصدير الثورة قبل سبعة أعوام خلت؟

شهدت تونس في عيد نسائها، 13 آب )أغسطس) 2018؛ منحى مميّزاً لحراكها التنويري، لمّا تقدّمت لجنة المساواة والحريات الفردية بتقرير إلى الرئيس، وعرض الرئيس بدوره التقرير على البرلمان التونسي في انتظار التصديق عليه، واتّخذ هذا المنحى في الحراك التنويري التونسي صداه خارج حدوده المحلية، إلى البلدان العربية المجاورة، وتشكّلت بخصوصه أصداء تصل حدّ التناقض، بين من يشيد بالتقرير، معتبراً إيّاه علامة على ريادة تونس في مجال التجديد والتحديث، وبين من يندّد بالتقرير ويعدّه متضمّناً لــ "كفريّات"، على حدّ عبارة الداعية الإسلامي، وجدي غنيم، أو أنّه يضمّ جرأة فظيعة على "شرع الله"، فيما صرّح به وكيل الأزهر عباس شومان.

اقرأ أيضاً: أين وصلت تونس بعد 7 سنوات من "الثورة"؟

ولا يمكن، فيما أعتقد، أن تتجاوز هذه الأصداء في البلدان العربية التي بلغها، حدود الإشادة أو التنديد إلى التبنّي الفعلي للحراك التنويري، كما هو الحال مع الثورة التي صدّرتها تونس إلى بعض البلدان العربية المحيطة بها منذ سبعة أعوام، وذلك لأنّ تصدير الثورة "السياسية"، وجدت قاعدة شعبية أترعها الظلم والفقر والتهميش، فاستجابت لنداء الثورة، أمّا الثورة "الحقوقية" ضدّ ترسانة الذهنية التراثية الذكورية، التي تفرض هيمنتها على الخطاب الديني، فهماً وتأويلاً، فإنّها تتغلغل في المجتمعات الأبوية من قواعدها الشعبية إلى أعلى هرم في السلطة فيها، وهي بذلك أخطر من النوع الأوّل من الثورات، وتحتاج في تصديرها مدّة أطول، لأنّها تطال العقليات والبناءات الفكرية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية